ختم الطاعات بالاستغفار
كثيراً ما يردفي القران الكريم الأمرُ بالاستغفار والحثُّ عليه والترغيبُ فيه وبيانُ ثمارهوآثاره ،ولا سيما في نهاية الطاعات وعند إتمام العبادات ،وقد كان من هديالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ختمُ الأعمال الصالحة بالاستغفار،فقد ثبت في صحيحمسلم: ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفرثلاثاً)) وورد ختم صلاة الليل بالاستغفار،قال اللهتعالى:وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ وقالتعالىوَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فذكر أنهميتهجدون ويتعبدون لله ويرون أنَّهم مقصِّرون فيسألون الله المغفرة ،ولذا ختم – سبحانه - سورة المزملوهيسورة قيامالليلبقوله :
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) وشُرع للمتوضئ أن يختم وضوءه بالتوبة فإنَّ أحسن ما ختمت به الأعمالالتوبة والاستغفار ،فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىالله عليه و سلم :
مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ :
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُوَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَالتَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ،فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُأَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ))
وقال تعالى في آيات الحجِّ:
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُأَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 199والمراد بالإفاضة هنا أي إلى منى يوم العاشر من ذي الحجة ، حيث يقومالحاجُّ بإكمال أعمال حجهم التي هي خاتمة أعماله .
قال الشيخالعلامة عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله :
في تفسيره لهذه الآيةمبينا أنَّالحكمة من ذلك ليكون جابراً لما حصل من العبد من نقص، ولما وقع منهمن خلل أو تقصير :
فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيرهفيها،وذِكْرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيقلهذه العبادةالعظيمة والمنَّة الجسيمة،
وهكذا ينبغي للعبد كلَّما فرغ من عبادة أن يستغفرَالله عن التقصير،ويشكره على التوفيق،لا كمَن يرى أنَّه قد أكملَ العبادةَومنَّ بها على ربِّه،وجعلت له محلاًّ ومنزلةً رفيعة، فهذا حقيق بالمقت وردالعمل كما أنَّ الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أُخرى
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ختم مجالسه بالاستغفار،روىأبو داود عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى اللهعليه وسلم يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس:
سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهدأن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك
وروى أبو داود عن أبي هريرةرضي الله عنه ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
مَن جلس في مجلسفكثر فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللَّهمَّ ربَّناوبحمدك،أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلاَّ غفر له ما كان فيمجلسه ذلك .
بل لقد ختم عليه الصلاة والسلام حياتَه العامرةَ بتحقيق العبوديةوكمال الطاعة بالاستغفار،ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سمعترسول الله صلى الله عليه وسلموأصغت إليه قبل أن يموت وهو مُسنِدٌ إليها ظهرَهيقول:
اللَّهمَّ اغفر لي وارحَمني وأَلحِقنِي بالرَّفيق الأعلى مع ملازمة عظيمة منه صلى الله عليه وسلم للاستغفار في أيام حياته الزكيَّةوعمره الشريف.
وكان هذا دأب السلف الصالح ،قال ابن رجبرحمه الله :كان السلف يرون : أن من مات عقب عمل صالح ؛ كصيام رمضان أوعقيب حج أو عمرة يرجى له أن يدخل الجنة ،وكانوا مع اجتهادهم في الصحة فيالأعمال الصالحة يجددون التوبة والإستغفار عند الموت ويختمون أعمالهمبالإستغفاروكلمة التوحيد ؛
لما احتضر العلاء بن زياد بكى فقيل له : ما يبكيك؟قال : كنت والله أحبُّ أن أستقبل الموت بتوبةقالوا : فافعل رحمك الله فدعا بطهور فتطهرثم دعا بثوب جديدفلبسه ثم استقبل القبلة فأومأ برأسه مرتين أونحو ذلك ثم اضطجع و مات .
ولمااحتضر عامر بن عبد الله بكى وقال: لمثل هذا المصرعفليعمل العاملون :
اللهم إني أستغفرك من تقصيري و تفريطي و أتوب إليك من جميعذنوبي لا إله إلا الله ثم لم يزل يرددها حتى مات رحمه الله.
وقال عمرو بن العاص رضي اللهعنه عند موته :
اللهم أمرتنافعصينا و نهيتنا فركبنا و لا يسعنا إلا عفوك لا إله إلا الله ثم رددها حتى مات .
وهذا الاستغفار ثماره وبركاته على أهله لا تُعدُّ ولا تُحصى فيتتميم أعمالهم وجبر تقصيرهم،ورفعة مقامهم ،
كما قال شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله:
(( الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب،ومنالعمل الناقص إلى العمل التامّ،ويرفع العبدُ من المقام الأدنى إلى الأعلى منهوالأكمل،فإنَّ العابد لله والعارف بالله في كلِّ يوم،
بل في كلِّ ساعة، بلفي كلّ لحظة يزداد علماً بالله وبصيرةً في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامهوشرابهونومه ويقظته وقوله وفعله.
ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقاماتالعالية وإعطائها حقّها. فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار،بلهو مضطرٌّ إليه دائماً في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد، لما فيه منالمصالحوجلب الخيرات ودفع المضرّات، وطلب الزيادة في القوّة في الأعمالالقلبية والبدنيّة اليقينية الإيمانية ))
وقد أعدَّ اللهُ في الدنيا والآخرة للمستغفرين من عظيم أجورهوكريم مواهبه وجزيل عطاياه ما لا يمكن عدُّه والإحاطةُ به.
قاللله تعالى:
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وقال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْيَسْتَغْفِرُونَ (33)
وقال تعالى عن نوح عليهالسلام:
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍوَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12
روى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن بشر رضي الله عنه قال: قالرسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( طوبى لِمَن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً .
فحري بالمؤمن أن يُلازم الاستغفار وأن يكثر منه ،ولا سيما فيختام الطاعات جبرا لما فيه من نقص ، وتتميما لطاعته وعبادته ، وليفوز بثوابالمستغفرين وكريم مآبهم ،
نسأل اللهَ - جلَّ وعلا - أن يجعلنا من عبادهالتوابين الأوّابين المستغفرين ،
وأن يتوب علينا إنَّه هو التواب الرحيم ،وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبهأجمعين.