عبادات الإسلام وشعائره الكبرى
أسرارها وأثرها في الحياة
تمهيد
* المراد بعبادات الإسلام
* عبادات قديمة جديدة
* أسرار العبادات وآثارها
المراد بعبادات الإسلام
حين نتحدث عن "عبادات الإسلام" نعني بها تلك الصور المحددة التي رسمها الإسلام للتقرب بها إلى الله تعالى، واتخذها شعائر مميزة له، وعين لها مواقيت ومقادير وكيفيات لا مجال فيها لتبديل أو تعديل، وهذا ما يجعلنا نقصر الحديث على العبادات الأربع المعروفة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
ولو شئنا أن نفسح المجال لكان علينا أن ندخل في حديثنا ـ على الأقل ـ عبادتين من أهم العبادات الإسلامية التي لم تدخل في نطاق التعبد بتحديد المواقيت والكيفيات، وهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
فالفريضة الأولى من السمات التي تميزت بها هذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وهي من شعب الإيمان وخصال المؤمنين (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) ومن فرط فيها لعن كما (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).
والفريضة الثانية قد أمر بها المسلم كما أمر بالركوع والسجود وسائر العبادات: (يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) والرسول يقول: "من لقي الله بغير أثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة".
ويبين القرآن عظم مثوبة المجاهدين فيقول: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير في الدنيا وما فيها".
وسأله بعضهم: يا رسول الله ما يعدل الجهاد في الله؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا وكل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة وصيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله!".
ومع ما لهاتين الفريضتين أو العبادتين ـ الجهاد والأمر والنهي ـ من شأن ومنزلة في الإسلام، فإننا ندع الحديث عنهما هنا، حيث نتجه إلى العبادات الشعائرية الكبرى، التي وضح فيها معنى التعبد، وهي التي تلتمس في العادة آثارها، وتطلب أسرارها.
عبادات قديمة جديدة
العبادات الإسلامية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج عبادات قديمة، عرفتها الأديان قبل الإسلام على صورة من الصور، فالله تعالى يقول عن بعض الأنبياء: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين).
وفي الصيام يقول القرآن: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
وفي الحج يقول: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا يشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق).
ولكن هذه العبادات الأربع كانت في تلك الديانات مناسبة لعصرها وبيئتها، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، الملائمة للبشرية في طور نضوجها، فرض الله عليه هذه العبادات في أكمل صورة لها، ورقى كل نوع منها إلى غايته ومنتهاه، ونقاها من كل ما شابها خلال العصور وكر الدهور.
فالصلاة لم تعد مجرد ابتهال ودعاء، ولكنها ذكر ودعاء وتلاوة، هي أقوال وأعمال يشترك فيها الفكر والقلب واللسان والبدن، اشترط الإسلام لها النظافة والطهارة، وأخذ الزينة، والاتجاه إلى قبلة واحدة، ووزعها على أوقات النهار والليل بمواقيت معينة، وحدد لكل صلاة منها ركعات معدودة، ورتب كيفيتها على نسق فريد، وكملها بما شرع فيها من جماعة وجمعة، وزان ذلك كله بما شرع لها من أذان وإقامة.
والصلاة الإسلامية بهذه الصورة، وتلك الشروط، عبادة فذة لم تعرف هكذا في دين من الأديان.
والزكاة في الإسلام عبادة فذة، إنها ليست مجرد إحسان يتبرع به متبرع، أو صدقة يتطوع بها متطوع، إنها حق معلوم، وضريبة مقدرة على كل من يملك نصابا محددا ناميا من المال حال عليه الحول، فاضلا عن الحاجات الأصلية لمالكه، إنها حق الله فيما أنعم به من مال أو تجارة أو زرع، حق يدفع الإيمان إلى أدائه، وتقوم الدولة على جبايته (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فمن أداها طيبة بها نفسه، فقد كسب رضا الله والناس، وفاز بخيري الآخرة والأولى، ومن أبى قسر على أدائها قسرا، فإن كانت له شوكة قوتل وجندت له الجنود حتى يؤديها: وهذا ما صنعه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع مانعي الزكاة.
فالزكاة بهذا الوضع وبمصارفها التي بينها القرآن عبادة جديدة لم تعرف بهذا الكمال في دين من الأديان.
وكذلك الصيام والحج والذكر والدعاء عبادات قديمة مشتركة في أديان كثيرة، ولكن الإسلام نقى هذه العبادات جميعا من كل شائبة، ورقى كل نوع منها إلى غايته، وركز فيها من الأسرار، وربط بها من الآثار، وجعل لها من التأثير في الحياة ما يليق بدين عام خالد، مهمته إصلاح للفرد، وإسعاد البيت، واستقرار الجماعة، وتوجيه الدولة، وهداية العالمين.
أسرار العبادات وآثارها
والأصل في العبادات أنها تؤدى امتثالا لأمر الله، وأداء لحقه على عباده، وشكرا لنعمائه التي لا تنكر، وليس من اللازم أن يكون لهذه العبادات ثمرات ومنافع في حياة الإنسان المادية، وليس من الضروري أن يكون لها حكمة يدركها عقله المحدود، الأًصل فيها أنها ابتلاء لعبودية الإنسان لربه، فلا معنى لأن يدرك السر في كل تفصيلاتها. فالعبد عبد، والرب رب، وما أسعد الإنسان إذا عرف قدر نفسه!
ولو كان الإنسان لا يتعبد لله إلا بما وافق عليه عقله المحدود وعرف الحكمة فيه تفصيلا، فإذا عجز عن إدراك السر في جزئية أو أكثر من جزئياته، أعرض ونأى بجانبه ـ لكان في هذه الحال عبد عقله وهواه، لا عبد ربه ومولاه.
إن العبودية لله شعارها الإيمان بالغيب ولو لم تره، والطاعة للأمر ولو لم تحط بسره.
وحسب المؤمن أن يعلم بالإجمال أن الله غني عن العالمين، غني عن عباداتهم وطاعاتهم، فلا تنفعه طاعة من أطاع ولا تضره معصية من عصى (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).
فالله غني عن عباده كل الغنى، وإذا تعبدهم بشيء فإنما يتعبدهم بما يصلح أنفسهم، ويعود عليهم بالخير في حياتهم الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية، غير أن الإنسان المحدود قد تخفى عليه حكمة الله جل علاه.
وكم لله من سر خفي يدق خفاه عن فهم الذكي
وكما أخفى كثيرا من أسرار هذا الكون عن الإنسان، أخفى عنه بعض أسرار ما شرع ليظل الإنسان في هذا وذاك متطلعا بأشواقه وراء المجهول آملا في الوصول، معترفا بالقصور، وليظل دائما في دائرة العبودية المؤمنة التي شعارها دائما: (سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير).
وقد ذكر الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال: "أن العبادات لصحة قلب الإنسان، كالأدوية لصحة بدنه، وليس كل إنسان يعرف خواص الدواء وسر تركيبه إلا الطبيب أو العالم الذي اختص بمعرفته، وكل مريض يقلد الطبيب فيما يصف له من دواء ولا يناقشه فيه، قال: فكذلك بان لي على الضرورة أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة لا ببضاعة العقل، وكما أن اختلاف الأدوية في المقدار والوزن والنوع لا يخلو من سر هو من قبيل الخواص، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار، حتى إن السجود ضعف الركوع، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار، فلا يخلو عن سر من الأسرار، وهو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها إلا بنور النبوة، فقد تحامق وتجاهل جدا من أراد أن يستنبط لها حكمة، أو ظن أنها ذكرت على الاتفاق لا من سر إلهي فيها".
وبهذا علم أنه من الخطأ البين أن نطلب لكل تفصيل من تفصيلات العبادة حكمة تقنع العقل، وتشبع نهمه، ولا سيما ذلك العقل المادي الحديث الذي لا يشبعه إلا الحسية والنفعية.
فالعبادات ـ كما قال الأستاذ العقاد ـ شعائر توقيفية تؤخذ بأوضاعها وأشكالها، ولا يتجه الاعتراض إلى وضع من أوضاعها، إلا أمكن أن يتجه إلى الوضع الآخر، لو استبدل منها ما اقترحه المقترح بما جرى عليه العمل وقامت عليه الفريضة من نشأتها.
"لماذا يكون الصوم شهرا ولا يكون ثلاثة أسابيع أو خمسة، لماذا تكون حصة الزكاة جزءا من عشرة أجزاء، ولا تكون جزءا من تسعة أو من خمسة عشر؟"
لماذا نركع ونسجد ولا نصلي قياما أو قياما ركوعا بغير سجود؟
من اعترض بأمثال هذه الاعتراضات فليس ما يمنعه أن يعود إلى الاعتراض لو فرض الصيام ثلاثة أسابيع، أو فرضت الزكاة فوق مقدارها أو دون هذا المقدار، أو فرضت الصلاة على وضع غير وضعها الذي اتفق عليه أتباع الدين وليس معنى أن هذه الأوضاع لا تعرف لها أسباب تدعو إليها، وتفسر لنا اتباعها دون غيرها، ولكنها في نهاية الأمر أوضاع توقيفية لا موجب من العقل للتحكم فيها بالاقتراح والتعديل، لأن المقترح المعدل لن يستند إلى حجة أقوى من الحجة التي يرفضها، ويميل إلى سواها.
ويسري هذا على كل تنظيم في أمور الدنيا، ولا يسري على أمور الدين وحده.
فلماذا يكون عدد الكتيبة في جيش هذه الأمة خمسين مثلا ويكون في أمة غيرها أربعين أو مائة؟
ولماذا يجعل اللون الأخضر رمزا لهذا المعنى في ألوان العلم القومي عند قوم من الأقوام، وهو مجعول لغير هذا المعنى عندأقوام آخرين؟
لا مناص في النهاية من أسباب توقيفية يكون التسليم بها أقرب إلى العقل من المجادلة فيها.
وقد ضل قوم حاولوا أن يفهموا الحكمة من كل جزئية من جزئيات العبادة، فلما خفيت عليهم أسرار بعض التفصيلات في عبادة كالحج شكوا وشككوا، وهم في شكهم وتشكيكهم ضالون عن سواء السبيل.
أسرارها وأثرها في الحياة
تمهيد
* المراد بعبادات الإسلام
* عبادات قديمة جديدة
* أسرار العبادات وآثارها
المراد بعبادات الإسلام
حين نتحدث عن "عبادات الإسلام" نعني بها تلك الصور المحددة التي رسمها الإسلام للتقرب بها إلى الله تعالى، واتخذها شعائر مميزة له، وعين لها مواقيت ومقادير وكيفيات لا مجال فيها لتبديل أو تعديل، وهذا ما يجعلنا نقصر الحديث على العبادات الأربع المعروفة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
ولو شئنا أن نفسح المجال لكان علينا أن ندخل في حديثنا ـ على الأقل ـ عبادتين من أهم العبادات الإسلامية التي لم تدخل في نطاق التعبد بتحديد المواقيت والكيفيات، وهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
فالفريضة الأولى من السمات التي تميزت بها هذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وهي من شعب الإيمان وخصال المؤمنين (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) ومن فرط فيها لعن كما (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).
والفريضة الثانية قد أمر بها المسلم كما أمر بالركوع والسجود وسائر العبادات: (يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) والرسول يقول: "من لقي الله بغير أثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة".
ويبين القرآن عظم مثوبة المجاهدين فيقول: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير في الدنيا وما فيها".
وسأله بعضهم: يا رسول الله ما يعدل الجهاد في الله؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا وكل ذلك يقول: لا تستطيعونه، ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة وصيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله!".
ومع ما لهاتين الفريضتين أو العبادتين ـ الجهاد والأمر والنهي ـ من شأن ومنزلة في الإسلام، فإننا ندع الحديث عنهما هنا، حيث نتجه إلى العبادات الشعائرية الكبرى، التي وضح فيها معنى التعبد، وهي التي تلتمس في العادة آثارها، وتطلب أسرارها.
عبادات قديمة جديدة
العبادات الإسلامية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج عبادات قديمة، عرفتها الأديان قبل الإسلام على صورة من الصور، فالله تعالى يقول عن بعض الأنبياء: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين).
وفي الصيام يقول القرآن: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
وفي الحج يقول: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا يشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق).
ولكن هذه العبادات الأربع كانت في تلك الديانات مناسبة لعصرها وبيئتها، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، الملائمة للبشرية في طور نضوجها، فرض الله عليه هذه العبادات في أكمل صورة لها، ورقى كل نوع منها إلى غايته ومنتهاه، ونقاها من كل ما شابها خلال العصور وكر الدهور.
فالصلاة لم تعد مجرد ابتهال ودعاء، ولكنها ذكر ودعاء وتلاوة، هي أقوال وأعمال يشترك فيها الفكر والقلب واللسان والبدن، اشترط الإسلام لها النظافة والطهارة، وأخذ الزينة، والاتجاه إلى قبلة واحدة، ووزعها على أوقات النهار والليل بمواقيت معينة، وحدد لكل صلاة منها ركعات معدودة، ورتب كيفيتها على نسق فريد، وكملها بما شرع فيها من جماعة وجمعة، وزان ذلك كله بما شرع لها من أذان وإقامة.
والصلاة الإسلامية بهذه الصورة، وتلك الشروط، عبادة فذة لم تعرف هكذا في دين من الأديان.
والزكاة في الإسلام عبادة فذة، إنها ليست مجرد إحسان يتبرع به متبرع، أو صدقة يتطوع بها متطوع، إنها حق معلوم، وضريبة مقدرة على كل من يملك نصابا محددا ناميا من المال حال عليه الحول، فاضلا عن الحاجات الأصلية لمالكه، إنها حق الله فيما أنعم به من مال أو تجارة أو زرع، حق يدفع الإيمان إلى أدائه، وتقوم الدولة على جبايته (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فمن أداها طيبة بها نفسه، فقد كسب رضا الله والناس، وفاز بخيري الآخرة والأولى، ومن أبى قسر على أدائها قسرا، فإن كانت له شوكة قوتل وجندت له الجنود حتى يؤديها: وهذا ما صنعه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع مانعي الزكاة.
فالزكاة بهذا الوضع وبمصارفها التي بينها القرآن عبادة جديدة لم تعرف بهذا الكمال في دين من الأديان.
وكذلك الصيام والحج والذكر والدعاء عبادات قديمة مشتركة في أديان كثيرة، ولكن الإسلام نقى هذه العبادات جميعا من كل شائبة، ورقى كل نوع منها إلى غايته، وركز فيها من الأسرار، وربط بها من الآثار، وجعل لها من التأثير في الحياة ما يليق بدين عام خالد، مهمته إصلاح للفرد، وإسعاد البيت، واستقرار الجماعة، وتوجيه الدولة، وهداية العالمين.
أسرار العبادات وآثارها
والأصل في العبادات أنها تؤدى امتثالا لأمر الله، وأداء لحقه على عباده، وشكرا لنعمائه التي لا تنكر، وليس من اللازم أن يكون لهذه العبادات ثمرات ومنافع في حياة الإنسان المادية، وليس من الضروري أن يكون لها حكمة يدركها عقله المحدود، الأًصل فيها أنها ابتلاء لعبودية الإنسان لربه، فلا معنى لأن يدرك السر في كل تفصيلاتها. فالعبد عبد، والرب رب، وما أسعد الإنسان إذا عرف قدر نفسه!
ولو كان الإنسان لا يتعبد لله إلا بما وافق عليه عقله المحدود وعرف الحكمة فيه تفصيلا، فإذا عجز عن إدراك السر في جزئية أو أكثر من جزئياته، أعرض ونأى بجانبه ـ لكان في هذه الحال عبد عقله وهواه، لا عبد ربه ومولاه.
إن العبودية لله شعارها الإيمان بالغيب ولو لم تره، والطاعة للأمر ولو لم تحط بسره.
وحسب المؤمن أن يعلم بالإجمال أن الله غني عن العالمين، غني عن عباداتهم وطاعاتهم، فلا تنفعه طاعة من أطاع ولا تضره معصية من عصى (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).
فالله غني عن عباده كل الغنى، وإذا تعبدهم بشيء فإنما يتعبدهم بما يصلح أنفسهم، ويعود عليهم بالخير في حياتهم الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية، غير أن الإنسان المحدود قد تخفى عليه حكمة الله جل علاه.
وكم لله من سر خفي يدق خفاه عن فهم الذكي
وكما أخفى كثيرا من أسرار هذا الكون عن الإنسان، أخفى عنه بعض أسرار ما شرع ليظل الإنسان في هذا وذاك متطلعا بأشواقه وراء المجهول آملا في الوصول، معترفا بالقصور، وليظل دائما في دائرة العبودية المؤمنة التي شعارها دائما: (سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير).
وقد ذكر الإمام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال: "أن العبادات لصحة قلب الإنسان، كالأدوية لصحة بدنه، وليس كل إنسان يعرف خواص الدواء وسر تركيبه إلا الطبيب أو العالم الذي اختص بمعرفته، وكل مريض يقلد الطبيب فيما يصف له من دواء ولا يناقشه فيه، قال: فكذلك بان لي على الضرورة أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة لا ببضاعة العقل، وكما أن اختلاف الأدوية في المقدار والوزن والنوع لا يخلو من سر هو من قبيل الخواص، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار، حتى إن السجود ضعف الركوع، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار، فلا يخلو عن سر من الأسرار، وهو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها إلا بنور النبوة، فقد تحامق وتجاهل جدا من أراد أن يستنبط لها حكمة، أو ظن أنها ذكرت على الاتفاق لا من سر إلهي فيها".
وبهذا علم أنه من الخطأ البين أن نطلب لكل تفصيل من تفصيلات العبادة حكمة تقنع العقل، وتشبع نهمه، ولا سيما ذلك العقل المادي الحديث الذي لا يشبعه إلا الحسية والنفعية.
فالعبادات ـ كما قال الأستاذ العقاد ـ شعائر توقيفية تؤخذ بأوضاعها وأشكالها، ولا يتجه الاعتراض إلى وضع من أوضاعها، إلا أمكن أن يتجه إلى الوضع الآخر، لو استبدل منها ما اقترحه المقترح بما جرى عليه العمل وقامت عليه الفريضة من نشأتها.
"لماذا يكون الصوم شهرا ولا يكون ثلاثة أسابيع أو خمسة، لماذا تكون حصة الزكاة جزءا من عشرة أجزاء، ولا تكون جزءا من تسعة أو من خمسة عشر؟"
لماذا نركع ونسجد ولا نصلي قياما أو قياما ركوعا بغير سجود؟
من اعترض بأمثال هذه الاعتراضات فليس ما يمنعه أن يعود إلى الاعتراض لو فرض الصيام ثلاثة أسابيع، أو فرضت الزكاة فوق مقدارها أو دون هذا المقدار، أو فرضت الصلاة على وضع غير وضعها الذي اتفق عليه أتباع الدين وليس معنى أن هذه الأوضاع لا تعرف لها أسباب تدعو إليها، وتفسر لنا اتباعها دون غيرها، ولكنها في نهاية الأمر أوضاع توقيفية لا موجب من العقل للتحكم فيها بالاقتراح والتعديل، لأن المقترح المعدل لن يستند إلى حجة أقوى من الحجة التي يرفضها، ويميل إلى سواها.
ويسري هذا على كل تنظيم في أمور الدنيا، ولا يسري على أمور الدين وحده.
فلماذا يكون عدد الكتيبة في جيش هذه الأمة خمسين مثلا ويكون في أمة غيرها أربعين أو مائة؟
ولماذا يجعل اللون الأخضر رمزا لهذا المعنى في ألوان العلم القومي عند قوم من الأقوام، وهو مجعول لغير هذا المعنى عندأقوام آخرين؟
لا مناص في النهاية من أسباب توقيفية يكون التسليم بها أقرب إلى العقل من المجادلة فيها.
وقد ضل قوم حاولوا أن يفهموا الحكمة من كل جزئية من جزئيات العبادة، فلما خفيت عليهم أسرار بعض التفصيلات في عبادة كالحج شكوا وشككوا، وهم في شكهم وتشكيكهم ضالون عن سواء السبيل.