بسم الله الرحمن الرحيم
ياءات الزوائد حذفا وإثباتا :
مقصودنا بالياء الزائدة تلك الياء التي تنتهي بها الكلمة، وهذه الياء محذوفة من الرسم العثماني،
وعلى الرغم من ذلك فقد اختلف فيها القراء حذفا وإثباتا ، ولعل في ذلك دليلا على أن الرسم لم يكن
سببا في تعدد القراءات.
والإثبات لغة الحجاز وهو الأصل، والحذف لغة مشهورة للعرب؛ يقولون: جاءنى القاض ومررت بالقاض،
فيحذفونها لسكونها ودلالة الكسرة عليها وقد نسب البنا الدمياطى الحذف لقبيلة هذيل ، وكون الإثبات
لغة الحجاز يفيد أن اللغة الحجازية كانت تتعلق بالصيغة كاملة ومن ثم نخالف (برجشتراسر) في
قوله: "إن الكسرة الممدودة الانتهائية كانت تقصر في لهجة الحجاز" ، وهو يعنى بالكسرة الممدودة ياء
المد وعلل د/الجندى ميل الحجازيين إلى الإتيان بالصيغة وافية أنهم أهل حضر، والحضرى غالبا ما يعنى
بتحسين النطق حتى ينال ما يشتهى من طموح ومركز اجتماعى ؛ لهذا يعمد إلى وضوح الكلام وحسن
الأداء . أما حذف الياء فقد اختلف في تعليله العلماء؛ فبينما ذهب البصريون إلى أنه ضرورة، واستشهدوا
بهذا الشاهد:
كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
ذهب الكوفيون إلى أن الحذف لغة .
ويرى الباحث أن رأى البصريين أن صح في الشعر إلا أنه يدفعه أن ليس في القرآن ضرورة ، وهذا لا
يعنى تأييد الرأي الآخر، فكلاهما قابل للمناقشة، ويرى أن الحذف ربما يرجع إلى علة صوتية تتمثل في
الإيقاع والانسجام الصوتي بين الكلمات داخل الآيات والتوافق الموسيقى بين الفواصل، ولعل هذا يبدو
جليا في الآيات الأُوَل من سورة الفجر: "والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر.." فالفواصل
كلها تسير على نغمة موسيقية واحدة تبرز في أن الكلمات تحمل مقطعا صوتيا واحدا من النوع الطويل
المغلق بصامتين.
والقرآن دوما حريص على إحداث نوع من الانسجام الموسيقى بين الآيات وفواصلها وربما كانت هذه
الموسيقى أحد أسباب الأمر الإلهي: "إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا"، وحفظا على الانسجام
الصوتي والتوافق الموسيقى بين الآيات وفواصلها قد يضيف القرآن حرفا أو يحذف حرفا مخالفا بذلك
القاعدة النحوية، فمما حذف منه حرف الفعل "يسر" الفجر4 ومما أضيف إليه حرف: كلمات "الظنونا،
الرسولا، السبيلا" الفرقان 10، 66، 67.
فحذف الياء من " يسر " من غير جزم، وإضافة ألف للكلمات الثلاث الأخرى من غير علة نحوية مخالف
للقاعدة التي توجب أن ينتهي الفعل "يسر" بالياء، وتنتهي الكلمات الثلاث الآخرى بإسكان الحرف الأخير
في الوقف. وإنما حدث هذا لتنسجم هذه فواصل الكلمات الثلاث مع فواصل الآيات الأخرى قبلها وبعدها.
ولعل سيبويه قد لحظ هذا الملحظ؛ إذ يقول: "وأما الأفعال فلا يحذف منها شي لأنها لا تذهب في الوصل
في حال، وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه ألا يحذف يحذف في الفواصل والقوافي، فالفواصل
في قوله تعالى: (والليل إذا يسر)، (ما كنا نبغ)، (يوم التناد)، (الكبير المتعال)، والإثبات أقيس والحذف
كثير جائز" . وهذه العبارة من سيبويه تفيد أن الإثبات أجود وأحسن استعمالا ، والحذف على الجواز.
تبين للباحث بعد هذا العرض أن الإثبات والحذف ظاهرتان لغويتان شاعتا في اللغة الحجازية ، وقد ثبت أن
الإثبات هو الأصل ، وهذا يعنى أنه اللغة الأولى ، وأن الحذف لغة ثانية ، ويعد مظهرا من مظاهر التطور
اللغوي نحو التخفيف ، ولعل صادق ما يدلك على أن الحذف سمة من السمات اللغوية للقبائل الحجازية
أن قراءة حفص قد اتسمت بهذه السمة ، وأن لم تكن من سمات لغة الحجاز الخاصة ، فقد اكتسبتها من
لغة القبائل الأخرى ؛ ولعل هذا مما جعل قريشا تحتضن اللغة المشتركة ، حتى نسبت إليها ؛ ويؤيد هذا
قول عثمان : " إذا اختلفتم في شي ، فاكتبوه بشأن قريش فإنه نزل بلسانهم".