بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً،
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
الحمد لله الذي دلنا على الثبات في كتابه , وجعل سورة كاملة توضح لنا سبله
وتعلمنا الثبات الفكري والثبات العملي
الثبات الفكري
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً،
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
الحمد لله الذي دلنا على الثبات في كتابه , وجعل سورة كاملة توضح لنا سبله
وتعلمنا الثبات الفكري والثبات العملي
الثبات الفكري
سبق وذكرنا أن السورة تنقسم إلى قسمين:
والقسم الأول من الآية (1 - 120) يناقش عقيدة أهل الكتاب مناقشة راقية . إنها لا تهدف إلى تسفيه أفكارهم بل تهدف إلى تثبيت المؤمنين فكرياً وتنقية أفكارهم من الشبهات.
لذلك إذا عدنا إلى جو هذه المناقشة، نجد أحداثها تدور في المسجد النبوي مع وفد نصارى نجران الذين مكثوا ثلاثة أيام في المدينة ليتحاوروا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )حواراً هو الأول من نوعه بين المسلمين والنصارى . ومن المهم هنا أن نوضح أن الحوار والتفاهم مع الآخر لا يعني أبداً التنازل عن جزء من العقيدة أو القيم والمبادئ، وهذا ما سنراه بوضوح من خلال الحوار الموجود في السورة وتقسيم القرآن الرائع لمراحله:
1. تقوية عقيدة المسلمين قبل النقاش
تبدأ السورة قبل النقاش بتقوية عقيدة المسلمين:
شَهِدَ ٱلله أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (18).
إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱلله ٱلإِسْلَـٰمُ (19).
أَفَغَيْرَ دِينِ ٱلله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا (83).
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ (85).
فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لله وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ (20).
2. إيجاد نقاط اتفاق
لا بد من إيجاد أرضية مشتركة قبل البدء بأي حوار، وهو ما بيّنه القرآن في قوله تعالى: قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱلله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱلله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64).
وتذكر السورة الإيمان بأنبياء الله تعالى كلهم (بما في ذلك أنبياء أهل الكتاب) كنقطة أخرى من النقاط المشتركة معهم:
قُلْ ءامَنَّا بِٱلله وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلاْسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84).
3. الحجج والبراهين وسيلة القرآن للتثبيت
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱلله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59).
يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرٰهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ ٱلتَّورَاةُ وَٱلإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (65).
هأَنتُمْ هَـٰؤُلاء حَـٰجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ (66).
مَا كَانَ إِبْرٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (67).
آيات كثيرة في الإقناع العقلي والمنطقي:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱلله ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ ٱلله وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79).
وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ وَٱلنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (80).
4. تحذير أهل الكتاب من التكذيب
وبعد أن عرضت الآيات الأدلّة العقلية والمنطقية، تنتقل إلى جانب آخر من النقاش وهو التحذير والترهيب.
يأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَـٰتِ ٱلله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70).
يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (71).
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـٰهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (25).
ثم يشتدّ التحدي:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ ٱلله عَلَى ٱلْكَـٰذِبِينَ (61).
أي أن يجتمع الفريقان المتناقشان ويبتهلون إلى الله بأن ينصر الفئة المحقة ويلعن الفئة الكاذبة، وطبعاً لم يقبل نصارى نجران هذا التحدي الشديد.
5. العدل والتوازن في النقاش
ولأن الإسلام دين راق جداً، هذا الحوار لا يختم إلا بذكر حسنات
بعض أهل الكتاب ويحثّ المسلمين على العدل في النظرة إليهم:
لَيْسُواْ سَوَاء مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايَـٰتِ ٱلله ءانَاء ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113).
وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا (75).
فالقرآن يعلّمنا أن كونهم غير مسلمين لا يعني أن كل تصرفاتهم خطأ وكل معاملاتهم غش.
يثتنا نتعلم من سورة آل عمران التوازن في التعامل مع غير المسلمين.
والقرآن يثني أيضاً على أنبياء أهل الكتاب: إِنَّ ٱلله ٱصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْرٰهِيمَ وَءالَ عِمْرٰنَ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ (33).
ويمتدح السيدة مريم باصطفائها على نساء العالمين: وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱلله ٱصْطَفَـٰكِ... عَلَىٰ نِسَاء ٱلْعَـٰلَمِينَ (42).
إنه مبدأ رائع في التوازن والعدل، فلم تأت هذه الآية في مدح
زوجة النبي ولا ابنته بل أتت في الثناء على السيدة مريم
عليها السلام.
6 .لا للاتباع الأعمى
وبالمقابل يحذّرنا القرآن من الاتباع الأعمى لأهل الكتاب بعد أن بيّن لنا عقائدهم:
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ كَـٰفِرِينَ (100).
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءايَـٰتُ ٱلله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِٱلله فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ (101).
هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلاْنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ (119).
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105).
والملاحظ أن محاور هذا النقاش تأتي ضمن آيات متشابكة متتالية: ثناء عليهم، ثم برهان، ثم نقطة اتفاق، ثم تقوية عقيدة (وهو ما يظهر بوضوح في بعض المقاطع مثل الآيات 79 - 83).
ختام أقسام السورة بالثبات
ومن الإشارات الواضحة أن يختم القسم الأول بالثبات وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً (120).
كما ختم القسم الثاني بالثبات يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱلله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200).
الثبات العملي بعد الثبات الفكري
بعدما ثبت البناء الخارجي ضد الأفكار والشبهات ينتقل القرآن إلى تثبيت البناء الداخلي، ويعالج القرآن هذا الموضوع بالتعقيب على غزوة أُحد.
فالمسلمون خرجوا من الغزوة منكسرين، خجلين من عصيان أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم )
ومن هروبهم وخذلانهم لرسول الله . فكان أن عالجهم القرآن علاجاً راقياً
من خلال:
1. التذكير بفضل الله عليهم: وأن النصر من عند الله، فذكّرهم بغزوة بدر:
إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ (أي أن لا تثبتا على الحق) وَٱلله وَلِيُّهُمَا (122) (هو الذي ثبتهما).
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱلله بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ (123).
ونرى في نفس السياق التأكيد على أن النصر من عند الله:
بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ... مُسَوّمِينَ (125).
لاحظ أن الصبر والتقوى قد تكرر ذكرهما في ختام أقسام السورة، كما ذكرا هنا أيضاً كسبب لنزول الملائكة ونصر المؤمنين.
2. الأمر بالتوبة والعودة إلى الله: هنا مظهر آخر من روعة القرآن في التربية والتثبيت، فقبل أن يذكر أخطائهم أو يؤنبهم، يدعوهم للعودة والإنابة إلى الله: وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلاْرْضُ (133).
وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱلله فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱلله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135).
3. المواساة: رفع الروح المعنوية بين الصحابة، آيات رائعة تخاطب المسلمين في كل زمان ومكان لتثبيتهم رغم كل الآلام وكل المصائب: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139).
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ (140).
فتمسح الآيات بحنان على آلام الصحابة، فالكفار قد تألموا مثلكم وفقدوا الأرواح مثلكم.
ثم تأتي الآية الرائعة في التثبيت: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱلله ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ (142).
فالجنة غالية، ولا بد لمن يطلبها أن يجاهد ويصبر لينالها.
4. لوم رقيق: بعد رفع الروح المعنوية يبدأ اللوم الرقيق.
وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143).
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱلله شَيْئاً وَسَيَجْزِى ٱلله ٱلشَّـٰكِرِينَ (144).
ويلومهم لوماً آخر: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ (153).
تخيل هذا المشهد: المسلمون يركضون ولا يستمعون لأحد والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثابت في أرض المعركة يناديهم ويذكّرهم بالآخرة. ثم ذكّرهم بأحوال السابقين وثباتهم:
وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱلله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱلله يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ (146).
5. عودة للمواساة: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ ٱلْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَائِفَةً مّنْكُمْ (154).
ويحنن قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱلله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ
فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلاْمْرِ (159).
حتى بعد الهزيمة، تأمر الآيات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يترك الشورى.
استشعر روعة هذا الدين الذي يمزج اللوم مع الحنان والمواساة في أحلك الظروف وأصعبها.
6. أسباب المصيبة وعدم الثبات: بعد كل هذا لا بد من تبيان أسباب ما حدث في أحد حتى يستفيد المسلمون في كل زمان ومكان من الأخطاء التي وقعت:
أ. الاختلاف وعدم الطاعة: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱلله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ (152).
فالله تعالى قد أصدقكم وعده بالنصر حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ (أي لم تثبتوا) وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلاْمْرِ (أي اختلفتم) وَعَصَيْتُمْ وهذه إشارة إلى خطورة المعصية وأثرها مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ (من بعد ما أراكم بشائر النصر) مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلاْخِرَةَ (بعضكم كان يبغي متاع الدنيا من وراء القتال، فكان ما كان).
ب. المعاصي والذنوب: إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ (155).
ج. التعلق بالأشخاص: فعندما يتعلق الناس بالأشخاص أكثر من تعلقهم بالفكرة يضعف ثباتهم وانتماؤهم للفكرة نفسها، فبعض الصحابة ألقى السلاح عندما سمعوا بإشاعة قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت الآيات تؤنبهم
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ (144).
التحذير من الخلاف في السورة
لاحظنا أن السورة ركزت على التحذير من الخلاف لأنه من أكثر العوامل التي تؤدي لعدم الثبات وتزلزل الصف الداخلي سواء أكان الخلاف فكريا أو عملياً.
لذلك حذّرت السورة من:
أ. التفرق والاختلاف في الفروع: وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱلله جَمِيعاً
وَلاَ تَفَرَّقُواْ (103). وتحذرنا السورة من الخلاف والتفرق في آيات
الله وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ (105).
ب. التفرد بالرأي: لذلك أمرت الآيات النبي بالشورى رغم كل ما حدث في أحد فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلله (159).
ج. الربا: لأنه من أسباب الخلاف بين المسلمين يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرّبَا أَضْعَـٰفاً مُّضَـٰعَفَةً (130).
علاقة القسم الأول بالثاني
1. عدم التعلق بالأشخاص: إن إشاعة قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمفاجأة التي حصلت في أُحد فتنت المسلمين، وكذلك فان قصة رفع المسيح فجأة فتنت المسيحيين وأدت إلى ما هم عليه من ضلال. فسورة آل عمران توجهنا إلى التعلق بالفكرة لا بالأفراد والأشخاص، فهم يزولون ويموتون وتبقى الفكرة ويبقى الدين , فإياكي والتعلق بداعية ما أو بشخص ما ونسيان الفكرة والرسالة.
2. أهمية الاتباع: مع أن السورة ركّزت على عدم التعلق بالأشخاص لكنها بيّنت أهمية الاتباع والطاعة.
- ففي القسم الأول: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى ٱلله قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱلله (52).
هذه الآية وضّحت الغاية إِلَى ٱلله وبيّنت لهم الوسيلة والطريق: مَنْ أَنصَارِي فلا بد لهم أن يكونوا من أنصار النبي ( صلى الله عليه وسلم ).
- ونرى في القسم الثاني آية عامة على مر العصور في اتباع الأنبياء:
وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱلله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ وَٱلله يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ (146).
والآية إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ (153).
تلوم المؤمنين على تقصيرهم في اتباع النبي وطاعته في غزوة أحد , وفي كل زمان ومكان .
قيمة المرأة في السورة
واللطيف أيضاً في السورة التي تتحدث عن الثبات أن الله تعالى قد
جعل نموذج الثبات سيدتين فالسورة مع أن اسمها آل عمران، لم تذكر
عمران نفسه بل ركزت على زوجته ونيتها المخلصة في نصرة دين الله
التي كانت سبباً بعد ذلك في ولادة السيدة مريم ومن بعدها سيدنا عيسى.
لاحظ أيضاً أن سيدنا زكريا على ما له من قيمة في أنبياء بني إسرائيل قد تعلّم من السيدة مريم.
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ
يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱلله... وهُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا
رَبَّهُ... (37-38).
فرمز الثبات في السورة هو النساء، والسورة التالية بعد آل عمران
هي أيضاً سورة النساء، وهذا أوضح دليل على تكريم الإسلام للمرأة ورفع قدرها.