معهد دار الهجرة للقراءات وعلوم القرآن الكريم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مرحبا بك يا زائر في معهد دار الهجرة للقراءات وعلوم القرآن الكريم


    تدبر سورة التوبة

    خادمة الإسلام
    خادمة الإسلام
    هيئة التدريس


    جديد تدبر سورة التوبة

    مُساهمة من طرف خادمة الإسلام الثلاثاء 12 أكتوبر 2010, 3:55 am

    سورة التوبة
    سورة التوبة (مدنية) نزلت بعد المائدة، وهي في ترتيب المصحف بعد الأنفال. عدد آياتها 129 آية، وهي آخر سورة كاملة أنزلت على النبي  قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى...
    لقد أنزلت هذه السورة في وقت كان المجتمع الإسلامي يستعد للخروج برسالة الإسلام من الجزيرة العربية إلى شعوب الأرض كلها.
    أنزلت هذه السورة بعد آخر غزوة للنبي، غزوة تبوك، وكان عدد المسلمين فيها ثلاثين ألفاً. واللطيف أنها جاءت في ترتيب المصحف مباشرة بعد الأنفال التي تحدثت عن غزوة بدر (أولى غزوات النبي) حيث عدد المسلمين فيها 313 شخصاً فقط. ولعل الحكمة هي أن يلاحظ قارئ القرآن الفرق بين ظروف الغزوتين وأحكامهما وطريقة القرآن في التعقيب عليهما. غزوة تبوك كانت من أكثر الغزوات التي ظهر فيها أثر النفاق إذ كان مع الجيش منافقون كثر، وتخلف عنها منافقون كثر كما تخلّف عنها بعض المؤمنين بسبب الكسل. كانت نتيجة الغزوة انتصاراً للمسلمين، وأنزلت هذه السورة للتعليق على كل هذه المواقف...
    علامة التميز
    إن سورة التوبة هي السورة الوحيدة التي لم تبدأ بالبسملة كما هو الحال في كل سور القرآن. والمسلم عندما يقرأ القرآن ويبتدئ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) يشعر من بداية حرف الباء أنه يعبر خطاً فاصلاً بين وضع سابق ووضع جديد، يشعر أنه داخل على عالم جديد ليترك الدنيا وما فيها ويتوجّه بقلبه

    لسماع كلام ربه والعيش مع أسماء ربه الحسنى (الرحمن الرحيم).
    وسبب غياب البسملة عن أول سورة التوبة - على قول أغلب العلماء - هو أنها أكثر سورة تكلمت عن الكفار والمنافقين، فحرموا من البسملة ومن معاني الرحمة الموجودة فيها، من أولى كلماتها بَرَاءةٌ مّنَ ٱلله وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (1).
    ولسورة التوبة أسماء أخرى، فقد سميت بالفاضحة لأنها فضحت المشركين، ففيها خمس وخمسين صفة من صفات المنافقين التي كانوا يمارسونها مع النبي . وسميت بالكاشفة لأنها كشفت عيوب الكفار والمتخاذلين عن نصرة الإسلام، وسميت بسورة السيف لكونها أكثر سور القرآن دعوة للجهاد وتحريضاً على القتال وتحذيراً من القعود والتخاذل. فهي سورة شديدة إذاً، وهنا قد يقول قائل: لماذا سميت بسورة التوبة؟
    سبب تسمية السورة
    إن التوبة بالنسبة لنا هي غاية في رقة العلاقة مع الله، فهي تعني العودة إلى الله تعالى واللجوء إليه والإقلاع عن الذنوب والمعاصي. فما علاقة التوبة بصفات المنافقين والمشركين والحثّ على الجهاد؟
    إن هذه السورة هي البلاغ الأخير للبشرية، وقد أنزلت قبل ختام القرآن ووداع النبي ، وبالرغم من أن السورة قد تضمنت التهديد الشديد للكفار والمنافقين والدعوة الشديدة للمؤمنين إلى الدفاع عن دينهم، لكنها حرصت على إبقاء باب التوبة مفتوحاً لجميع الناس قبل الوداع. فرغم كون السورة تتكلم عن المنافقين والكفار إلا أنها تدعوهم إلى التوبة في مرات عديدة، فنلاحظ تكرار قوله تعالى فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ.
    وإذا بحثنا ورود لفظة (التوبة) ومشتقاتها في هذه السورة وفي القرآن كله، نجد أنها تكررت في هذه السورة سبع عشرة مرة وهي أكثر سور القرآن إيراداً لكلمة (التوبة).
    بينما ذكرت في سورة البقرة مثلاً 13 مرة مع أنها أطول سورة في القرآن. وذكرت في سورة آل عمران 3 مرات وفي سورة النساء 12 مرة وفي المائدة 5 مرات وفي هود ستة مرات وفي الأنعام مرة واحدة.
    دعوة الجميع إلى التوبة
    إذاً أكثر سورة وردت فيها كلمة التوبة هي السورة التي بين أيدينا. والملفت أنها لم تذكر نوعاً من طوائف المجتمع إلا وذكرته بالتوبة: الكفار والمشركين والمرتدين والمترددين والمنافقين والعصاة والمؤمنين الصالحين، حتى النبي  والصحابة. فكلما تحدثت السورة عن فئة منهم نراها تذكرهم بالتوبة أو تخبرهم بأن الله تعالى قد تاب عليهم لَقَدْ تَابَ الله... فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ... (117-118).
    فبالرغم من أن السورة قد فضحت المنافقين إلا أنها توصل لهم رسالة وهي أن كل حيلهم قد كشفت وأصبح المؤمنون يعرفونها فلا سبيل لهم للنجاة إلا بالتوبة. لقد فضحتهم لتلجأهم إلى التوبة.. كمن يبتليه الله ببلاء ليكون سبباً في عودته. فسورة التوبة تشعر المنافقين بأنهم محاصرون ولم يعد لهم من حجة بعد بيان الدين وتوضيحه، فلا منفذ لهم إلا بالتوبة. حتى دعوة المؤمنين إلى القتال، تهدف إلى تسلل اليأس إلى الكفار من القتال والحرب ويتوبوا إلى الله...
    علاقتها بالسور التي قبلها
    عند تقسيم القرآن إلى ثلاثة أقسام نجد أن القسم الأول يشتمل على السور السبع الطوال ويختتم بسورة التوبة. وكأنها جاءت بعد بيان المنهج ووسائل القيام بالمهمة لتفتح باب التوبة والرحمة لمن بدّل أو غيّر أو قصّر في حق الله. ومن اللطيف أنها من أواخر ما أنزل على النبي  قبل وفاته، حتى يكون ختام الوحي وختام نزول القرآن بفتح باب التوبة.. هل استشعرت هذا المعنى؟
    بعض الناس حين يقرأ هذه السورة يشعر بشدتها على الكفار والمنافقين، والبعض الآخر يقرأها فيشعر برحمة الله الواسعة والتي تتجلى في قبوله التوبة من جميع البشر، وهؤلاء أقرب إلى فهم معاني السورة لأن ما فيها من شدة وتهديد ووعيد إنما هو لحمل الكفار والمنافقين على التوبة.. فحتى فضح المنافقين كان لحملهم على التوبة، وحتى دعوة المؤمنين للقتال جاء لحمل الكفار على التوبة بعد أن يئسوا من القتال..
    نداءات أخيرة للتوبة
    إن السورة تبدأ بداية شديدة وملفتة، فإضافة إلى كونها لا تبدأ بالبسملة كبقية السور، فإنها تبدأ بكلمة "براءة".. بَرَاءةٌ مّنَ ٱلله وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ  فَسِيحُواْ فِى ٱلاْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱلله (1-2) بداية شديدة ومهلة محددة. ثم أذان من الله ورسوله يقرع الآذان: وَأَذَانٌ مّنَ ٱلله وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجّ ٱلاْكْبَرِ أَنَّ ٱلله بَرِىء مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (3).
    لماذا كل هذه الشدة؟ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى ٱلله (3)، فالتهديد إذاً كان من أجل التوبة لا من أجل الانتقام والوعيد، كأن "براءة" و"أذان" هما النداء الأخير للتوبة.
    توبة المشركين المحاربين
    وتصل بنا الآيات إلى الآية الخامسة فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلاشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ... كُلَّ مَرْصَدٍ ومع ذلك فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ فبعد كل هذا الأمر بالقتال جاء التذكير بالتوبة لحثّ الكفار عليها.. فبقدر ما السورة حادة في مواجهتهم بقدر ما هي حريصة على توبتهم وإنابتهم إلى الله..
    وبعد ذلك تخبرنا بأنه لا بد أن تقام الحجة على الكفار وذلك بدعوتهم وبيان الدين لهم قبل قتالهم وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱلله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ... (6).
    وتتابع الآيات على نفس الوتيرة: تهديد، وفي نهاية كل تهديد ووعيد وتذكير بالتوبة. فمثلاً في الآية العاشرة يقول تعالى لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ ثم تقول الآية التي بعدها فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدّينِ. فلم تعفِ عنهم الآيات فحسب بل أوجبت على المؤمنين محبتهم بعد توبتهم لأنهم قد أصبحوا إخواناً لنا.
    ثم عودة للتهديد في حال إصرار المشركين على القتال في الآيات (12) و(14): وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَـٰنَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَـٰتِلُواْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَـٰنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ وقَـٰتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ٱلله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ.... ثم عودة للتوبة مباشرة في الآية (15): ... وَيَتُوبُ ٱلله عَلَىٰ مَن يَشَاء.... إنها قمة في توازن ووسطية الإسلام بين الرحمة والرفق من جهة، وبين الواقعية والشدة من جهة أخرى.
    فإن كان الأمر كذلك بالنسبة للكفار والمنافقين، فما الحكم في المؤمنين الذين قد عصوا ربهم... أيتوب تعالى عليهم أم لا... فإن كان تعالى يقول عن الكفار فَإِن تَابُواْ... فَإِخْوَانُكُمْ فِي ٱلدّينِ (11) فما بالك بمن ارتكب بعض المعاصي من المؤمنين؟
    إن سورة التوبة هي من أكثر السور التي تزيد أمل المؤمن ورجاءه برحمة الله تعالى... فإن كان رب العزة بلطفه وإحسانه تعالى قد حثّ الكفار والمنافقين على التوبة وكرّر ذكر كلمة التوبة (17) مرة في السورة، فكيف لا يغفر لمن تاب من المؤمنين العصاة!؟
    توبة المؤمنين المتخاذلين عن نصرة الدين
    نصل إلى الآية (24) التي تخاطب المؤمنين وتحثهم على نصرة دين الله تعالى، فالآية لا تتحدث عن الجهاد بمعنى الحرب فقط بل أن تنصر الدين ويكون أغلى من كل أمور حياتك الدنيوية.
    يقول تعالى: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوٰنُكُمْ وَأَزْوٰجُكُمْ... ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ (24).
    لقد ذكرت الآية ثمانية أمور وكلها مباحة، لكنها حذرت من أن تكون سبباَ في البعد عن الله تعالى وترك الجهاد، وهذا يعني أن يكون أمر الله تعالى أولوية في حياتك وفوق كل رغباتك، وإلا فانتظر عقاب الله والعياذ بالله.
    وتنتقل السورة للحديث عن نوع جديد من التوبة، غير التوبة من الذنوب والمعاصي التي نعرفها والتي يقع فيها الناس دائماً (كالنظر إلى الحرام أو تأخير الصلاة). إن السورة تدعو للتوبة من التخاذل عن نصرة الإسلام، وكأنها تشير بأن هذا الفعل الشنيع يحتاج إلى توبة شديدة. فتأتي الآية (38): يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱلله ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلاْرْضِ... قَلِيلٌ عتاب رقيق تعقبه لهجة قوية في الآية التي بعدها: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ... (39) فحذار حذار من الاستبدال، لأن الله تعالى ينصر دينه وليس بحاجة إلى أحد إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱلله... (40) إلى أن تأتي الآية بالأمر الشامل الكامل الذي لا يستثني أحداً: ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱلله (41) فلكي يرتدع الكفار ويلجأوا إلى التوبة لا بد من جهادهم، فكأن جهادك أيها المسلم عون لهم على الرجوع والتوبة، وكأن تخاذل المسلم سبب لتمادي أهل الكفر في غيهم وضلالتهم. فهيا نعمل لديننا ونطرق أبواب الخير لنساعد أنفسنا فننجو ونساعد غيرنا فيتوب.
    التوبة من عدم التوكل على الله
    وخلال الآيات السابقة تتحدث الآيات عن غزوة حنين وكيف أعجب المؤمنون بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً، فوقع المسلمون في خطأ الاعتماد على العدد وحده ونسيان أن النصر من عند الله وحده.
    لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱلله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ... وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ... (25).
    وهذا الخطأ لا بد له أيضاً من توبة، فتأتي الآية (27) لتشير إلى ذلك: ثُمَّ يَتُوبُ ٱلله مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاء وَٱلله غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
    التخاذل عن نصرة الدين
    وبعد ذلك تنتقل الآيات إلى المتخاذلين عن نصرة الإسلام من المنافقين. فتقول الآية (46): وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱلله ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ لو كانت عندهم نية صادقة لتحركوا وأعدوا لهذا الخروج، ولكن لعدم صدق نيتهم كره الله خروجهم فثبط هممهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ.
    ألا تؤلمك هذه الكلمة أخي المسلم؟ إذا حرمت من عمل الخير والدعوة فتذكّر أن الله تعالى قد يكون غاضباً منك وكارهاً لعملك... فمن منا يحب أن يكره الله عمله؟ من منا يرضى بأن يكون عبئاً على الدين؟ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً (47).
    والآيات تتوالى في التوبيخ والتقريع:
    وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ (49).
    وَيَحْلِفُونَ بِٱلله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ... (56).
    لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَـٰرَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ
    يَجْمَحُونَ (57).
    والآيات (81 - 87) شديدة اللهجة في التهديد، فمثلاً نرى الآية (86).
    وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءامِنُواْ بِٱلله وَجَـٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ.
    فكلمة القاعدين مؤثرة للغاية، فمن يرضى لنفسه أن يبقى قاعداً يشاهد التلفاز ولا يكلّف نفسه عناء أي عمل لنصرة دينه، وقد يكون من المصلّين ومن المثابرين على صلاة الجماعة لكنه سلبي لا يحرّك ساكناً لخدمة الإسلام، فهذا النوع من الناس عليه أن يحذر من الآية (87): رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوٰلِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ.
    فكيف يستقيم لهم رأي أو عمل وهم على هذه الحال؟ وانظر إلى الإيجابيين المتحركين.
    لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ جَـٰهَدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (88).
    أفراح في جهنم
    في الآية (81): فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱلله... توبيخ شديد. فهي توضح أن موازين الفرح والحزن غير سوية عندهم. فمن يفرح بالخذلان؟ إنه كمن يفرح بنار جهنم عقوبة له:
    ... وَكَرِهُواْ أَن يُجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱلله وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ  فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (81 - 82).
    دعوة الجميع للتوبة
    كما ذكرنا فان كل توبيخ في السورة يختتم بدعوة المخاطبين للتوبة، فنرى مثلاً:
    1 - توبة المنافقين والمرتدين:
    فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذّبْهُمُ ٱلله عَذَابًا أَلِيمًا فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى ٱلاْرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ (74).
    2 - توبة المترددين:
    وَءاخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى ٱلله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱلله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102).
    3 - ثم حثّ الجميع على التوبة:
    أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱلله هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَـٰتِ وَأَنَّ ٱلله هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ (104).
    إن شروط التوبة ثلاثة:
    - ندم على الذنب
    - إقلاع عن الذنب
    - عزم على عدم العودة
    فبادر إليها أخي المسلم، وإياك وتأخيرها لأن تأخير التوبة وتأجيلها هو بحد نفسه معصية لله تعالى.
    صفات المؤمنين المستحقين للشهادة
    وفي مقابل الحديث عن المنافقين تنتقل السورة للكلام على صفات المؤمنين الذين عقدوا عقد بيع مع الله تعالى: إِنَّ ٱلله ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱلله فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ (111).
    إن السياق القرآني يجعلنا نتشوق لمعرفة صفاتهم، فنقلب الصفحة لنقرأ قوله تعالى: ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلاْمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱلله وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ (112).
    توبة لصفوة الأمة
    ومن جمال التوبة وحب الله لها، ذكر الله بها نبيه  وصحابته الكرام:
    لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلاْنصَـٰرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ (117).
    فالتوبة - كما يقول العلماء - أول منازل العبودية وآخرها. فبداية الإيمان تكون بالتوبة كما أن التوبة مطلوبة في نهاية الحياة. من هنا نفهم حديث النبي : "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
    توبة أخيرة للثلاثة المتباطئين
    وأخيراً توبة خاصة بالثلاثة المؤمنين الذين تخلفوا عن توبة تبوك، فالتقاعس عن نصرة الإسلام - كما أسلفنا - بحاجة إلى توبة.
    وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱلله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ ٱلله هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ (118).
    لاحظ معي روعة الآية: تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ. فلا بد أن يتوب الله عليك ويهيء لك طريق التوبة، فالهداية من عند الله، وهو وحده المعين عليها. أخي المسلم، الزم دائماً هذا الدعاء: "اللهم تب عليَّ لأتوب".
    2- قصة الثلاثة الذين تاب الله عليهم

    وردت هذه القصة في الآيتين 117 و 118 من سورة التوبة بقوله عزوجل

    لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ماكاد يزيغ فريق منهم ثم تاب عليهم, انه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى اذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله الا اليه ثم تاب عليهم ليتوبوا, انّ الله هو التواب الرحيم

    الصحابة الثلاثة رضي الله عنهم والذين نزلت توبتهم من السموات العلى هم على التوالي
    كعب بن مالك, هلال بن أمية, ومرارة بن الربيع.

    هؤلاء الصحابة الثلاثة بنظر مسلمي هذه الأيام لم يرتكبوا ذلك الذنب العظيم الذي كاد أن يلقي بهم في واد سحيق لا قرار له لولا أن شملتهم العناية الالهية بتوبة لو قسمت على اهل الأرض جميعا لوسعتهم... وكل الذنب الذي ارتكبوه أنهم تخلفوا عن غزوة جهادية, وما اكثر تخلف شباب ورجال الأمة عن الجهاد في سبيل الله.

    واذا كان القرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد نبّه وبطريق الوحي الى أن أخطاء قام بها يعض الصحابة رضوان الله عليهم فتجنبوبها بتوبة نصوح وقبلت, فمن لنا اليوم بها وبعدما انقطع وحي السماء ؟ وكيف لنا أن نعرف أنفسنا ان كنا نعيش على النفاق أم ... ؟ خاصة وأنّ معظم شباب ورجال الأمة متخلفون عن آداء واجب الجهاد في سبيل الله والذي هو فرض عين إذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزوة , بدليل أنّ تخلف هؤلاء الثلاثة عن الجهاد وبقاءهم في بيوتهم دون أدنى عذر كاد أن يدرج أسماءهم في سجل المنافقين.

    غزوة تبوك - رجب 9 هجرية

    هذه الغزوة هي التي تخلف عنها هؤلاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم, حيث ما أن علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الروم تحشد فلولها وقواتها على مشارف الشام لغزو المسلمين حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم مؤدن الجهاد ليؤدن في الناس حي على الجهاد استجابة لقوله تبارك وتعالى:

    يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن اللّه مع المتقين

    وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن وجهته على غير عادته في الغزوات السابقة، وذلك لطول المسافة وقوة العدو، حتى يتهيأ الناس ويستعدوا للنفير, وبدا المسلمون في تجيز الجيش الذي أطلق عليه جيش العسرة ويومها قال النبي صلى الله عليه وسلم: من جهز جيش العسرة فله الجنة, وتسابق الصحابة رضوان الله عليهم على فعل الخير وكان لعثمان بن عفان رضي الله عنه النصيب الأكبر في تجهيز جيش المسلمين, وكعادة المسلمين في عهد النبوة المشرق كانوا يستجيبون لنداء الجهاد في سبيل الله دون أدنى تردد, وعلى الرغم من أنّ أبطال قصتنا لم يكن لديهم عذرا في التخلف عن تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم واللحاق بركب جيش المسلمين الا أنهم وبغواية شيطان فعلوا, ولم يقتصر الأمر عليهم وحدهم بل كان هناك بعض المنافقين كانوا قد استجابوا لنداء الشيطان الذي جعل بعضهم يحرض البعض الآخر بألا ينفروا في الحر, الأمر الذي فضح القرآن الكريم أساليبهم الملتوية , بقوله تعالى :

    لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا

    ليقعدوا في الظل الظليل جلوس النساء مستكينين لنداء الشيطان في لعب ولهو وزينة.

    ولم يكن الصحابة الثلاثة فقط هم من تخلف عن اللحاق بجيش المسلمين, بل كان هناك أيضا صحابيان جليلان هما: أبو ذر الغفاري وأبي خيثمة رضي الله عنهما, أما أبوذر فلم يمتنع عن اللحاق وانما بعيره خذله في اللحاق بجيش المسلمين, الأمر الذي دفعه لأن يحمل متاعه على ظهره متقفيا أثر الجيش ماشيا غير عابيء بوعرة الطريق, والنبي صلى الله عليه وسلم كعادته كان يتفقد الجند, وعندما لم يجد أبا ذر سأل عنه, وعندما لم يحصل على اجابة قال عليه الصلاة والسلام: : ان كان به خير يأت به الله, وما هي الا لحظات حتى يلوح للصحابة شبح أبو ذر رضي الله عنه وهو يناطح التلال من شدة مشقة المسير, عندها قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: يرحم الله أبا ذر, يمشي وحده, ويموت وحده, ويبعث وحده.

    وأما أبو خيثمة رضي الله عنه فلم يكن في بيته ساعة النفير أو ساعة النداء على الجهاد, وما أن عاد الى بيته حتى كان الجيش قد غادر المدينة متوجها الى تخوم الشام قريبا من تبوك, وما أن دخل بيته حتى وجد امرأتيه تنتظران مجيئه وقد أعدّت كل منهنّ له متكئا وثيرا مما لذ من الطعام وطاب من الشراب متزينات في أبهى زينة , حتى اذا تراءى له رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وهم ينفرون في الصحراء القائظة الرمضاء لملاقاة جيش العدو وهم في شدة وكرب وظمأ وجوع وتعب ومشقة وبلاء, يبحثون عن لقمة تسد جوعهم أو شربة ماء تطفىء لهيب العطاشة منهم وربما لا يجدون وهو المهيأ له ما لذ من الطعام وما طاب له من الشراب, فينظر الى نفسه نظرة ازدراء وتبدأ نفسه اللوامة فعلها فيشعر بصدره يعلو ويهبط وهو يردد في نفسه كلمات لو استشعرناها لدفنا أنفسنا تحت التراب أحياء كما النعامة تفعل,ثم قال رضي الله عنه: انها لمسافة بعيدة بيني وبينهم. ويقصد بمقولته تلك: هم الأبرار ونحن الفجار, من منطلق أن من يتخلف عن الجهاد دون عذر ليس الا منافق معلوم النفاق, ومعظمنا وللأسف ان لم يكن واقع فيه, فهو يحوم حوله, ولعلّ ما حلّ بالأمة من نكبات متتالية يؤكد هذا.... وما هي الا لحظات حتى يصرخ رضي الله عنه صرخة مدويّة تدوّي في الآفاق لتعبّر عن كل ما يجيش به صدره من آهات وحسرات, بصدر الصادقين مع الله تبارك وتعالى ويقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر والريح تلفح وجهه الشريف , وأنا في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء؟ ما هدا بالعدل ولا بالانصاف.

    ولكن ماذا لو تأت الينا وترى حالنا يا أبو خيمثة؟ ستبكي علينا ونحن على هذا الحال المزري من تخلفنا عن ساحات الوغى وساحات الشرف.. ما هذا بالعدل والانصاف ...ما هذا بالعدل والانصاف...

    ثم التفت الى امرأتيه وقال: والله لا أدخل حجرة واحدة منكن حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم... وهيأ راحلته وطعامه وانطلق نحو تبوك يطلب جيش المسلمين, وما أن لاح للجيش بوجود شخص يلحق بالناس حتى أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم , فقال عليه الصلاة والسلام: كن أبا خثيمة, وكان رضي الله عنه وأرضاه... نعم من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

    من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, فمنهم من قضى نحبه, ومنهم من ينتظر, وما بدلوا تبديلا.

    كعب بن مالك رضي الله عنه


    قال كعب : غزا النبي صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة( غزوة تبوك )، حين طابت الثمار، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتجهز المسلمون معه ، ولم أتجهز وأقول في نفسي سألحق بهم حتى إذا خرجوا ظننت أني مدركهم، وليتني فعلت ، فلما انفرط الأمر ، أصبحت وحدي بالمدينة لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق - أي مشهورا به - أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء، فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد راجعا من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول : بماذا أخرج من سخط رسول الله ؟ واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، زال عني الباطل، وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه .

    وما أن عاد النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين الى المدينة حتى دخل المسجد, وما أن صلى ركعتين حتى كان المخلفون الثلاثة قد جاؤوه دون أن يدرك احدهم أن هناك من شاركه التخلف عن نداء الجهاد, كل واحد منهم يعتقد أنه الوحيد, وجميعهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم معترفين بتقصيرهم وتقاعسهم, وكان آخرهم كعب بن مالك رضي الله عنه, ولنترك له الحديث يصف لنا المشهد فيقول:

    جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما فتبسم في وجهي تبسم المغضب ثم سألني: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك (دابة يركبها).
    فقلت: بلى والله! اني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر, ولقد أعطيت جدلا, والله! لقد علمت ان حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عليّ ليوشكن الله تعالى أن يسخطك عليّ, ائن حدثتك حديث صدق تجد فيه عليّ اني لأرجو فيه عفو الله عني, والله ما كان لي من عذر, والله ما كنت قط أقوى مني, ولا أيسر حين تخلفت عنك.

    ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة, فاجتنبنا الناس حتى تنكرت لنا الأرض, فما هي بالتي نعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة, فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان, وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم, فكنت أخرج وأشهد الصلاة مع المسلمين, وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد, وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه يرد السلام عليّ أم لا! ثم أجلس قريبا منه فأسارقه النظر, فاذا أقبلت على صلاتي اقبل اليّ, واذا التفت نحوه أعرض عني, حتى اذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط ابن عمي أبي قتادة فسلمت عليه فوالله ما ردّ علي السلام, فقلت: يا أبا قتادة! أنشدك الله, هل تعلمني اجب الله ورسوله؟ فسكت, ثم أعدت عليه مقالتي, فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي , وتوليت حتى تسورت الجدار.
    فبينما أنا أمشي بسوق المدينة وادا بنبطي من أنباط الشام يحمل الطعام من الشام ليبيعه في المدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك! فطفق الناس يشيرون اليه حتى ادا جاءني دفع الي كتابا من ملك غسان جاء فيه: أما بعد...
    فقد بلغني أن صاحبك جافاك, ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة, فالحق بنا نواسيك, فلما قرأتها قلت: وهدا أيضا من البلاء, فتيممت التنور فسجرتها حتى مضت أربعون ليلة من الخمسين, واذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فيقول: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل النساء, ,ارسل الى صاحبي مثل دلك, فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك, فكوني عندهم حتى يقضي الله في هدا الأمر, ولبثت بعد دلك عشر ليال حتى ادا كانت لنا خمسون , فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وبينما أنا جالس على الحال في دكر الله تعالى وقد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت اذ سمعت صوت صارخ بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! فخررت ساجدا أن قد جاء فرج الله تعالى وأدن الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبته علينا حين صلى الفجر, فدهب الناس يبشروننا.

    وقصد كعب بن مالك رضي الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشافهه البشرى فقال له عليه الصلاة والسلام: أبشر بخير يوم يمر عليك مند ولدتك أمك!
    أجابه كعب رضي الله عنه: أهو من عندك يا رسول الله أم من عند الله؟
    فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو من عند الله تعالى.

    عندها فقط صفت نفس كعب رضي الله عنه وارتاحت, وما ان أعلن رضي الله عنه بأن يتصدق بجميع ماله لله تعالى حتى قال له النبي صلى الله عليه وسم: ابق بعض مالك, وأنصت لكلامه صلى الله عليه وسلم والتزم خشية أن يعود لدوامته الأولى التي ما فتأ أن عفا الله عنه منها, فأدعن لأمره صلى الله عليه وسلم وأبقى حصته من غنائم خيبر, وما أن خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غدا رجلا آخرا بعدما انزاح عن صدره حمل ثقيل كاد أن يهلكه وكأنه الجبال الراسيات, وبات يردد قوله تبارك وتعالى: هاؤوم اقرؤوا كتابيه * اني ظننت أني ملاق حسابية*


    والله فوق كل ذي علم


    خير ختام لخير حياة
    إن القارئ لسورة التوبة يحس أن فيها براءة وتهديد ووعيد، لكنها تفعل كل ذلك وهي فاتحة ذراعيها للتوبة. ومن لطف القرآن أن الله تعالى لم يغلب اسم الفاضحة على سورة التوبة لأنه يحب الستر. ومن اللطائف الأخرى أنه بالرغم من أن السورة قد حرمت المنافقين من الرحمة في أول السورة (من خلال عدم البدء بالبسملة والبراءة منهم) لكنها أعطت جميع الناس في آخر السورة رحمة مهداة، والمتمثلة في النبي  الذي بعث رحمة للعالمين:
    لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ (128).
    وهذه الآية خير ختام للسبع الطوال، وهي أيضاً خير ختام لحياة النبي . فهي آخر سورة أنزلت كاملة على رسول الله. إنها سورة الوداع، وخير وداع في ديننا هو التوبة على كل الناس. فإن أبوا التوبة فإن الآية الأخيرة تقول:
    فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ ٱلله لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ (129).
    أخي الكريم. إسأل نفسك: هل ستتوب أم لا؟ فإذا كان باب التوبة مفتوحاً لكل فئات الناس ولكل فئات المجتمع مهما تفاوتت درجة قربهم أو بعدهم عن الدين، فكيف يكون حالك وأنت مؤمن ومحب لكتاب الله؟ لذلك فلنعمل للإسلام ولنعش للإسلام ولنحذر التخاذل والقعود عن نصرة الدين، ولنتيقن أن الله تبارك وتعالى يتوب على من يشاء..
    من لطائف القرآن
    وفي النهاية نشير إلى أن سورتي التوبة والأنفال جاءتا متتاليتين بالإضافة إلى أنهما توافقان الترتيب الزمني لغزوتي بدر وتبوك. فسورة الأنفال تتحدث عن أول غزوة غزاها النبي بينما سورة التوبة تعقّب على آخر غزوة لرسول الله. وقد جاءت السورتان متتاليتين حتى نلاحظ الفرق في المجتمع الإسلامي بين بداية نصرة المسلمين لدينهم ونهاية الانتصار العظيم. فالسورتان تفتحان المجال أمام علماء الاجتماع والباحثين كي يلاحظوا الفروقات بين المجتمعين ويحللوا سنن تطور المجتمعات، وهذا أمر يحتاج من علماء الاجتماع والمحللين والدارسين إلى النظر والتفكير.



      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين 06 مايو 2024, 10:34 pm