كيف نحب الله ونشتاق إليه؟
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد..
الحب – كما نعلم – جزء أصيل من مشاعر الإنسان، وهو معاملة قلبية يشعر من خلالها المرء بميله وانجذابه إلى الآخر.
والواقع المشاهد يخبرنا بأنه عندما يتمكن الحب في القلب بين شخصين فإننا نجد آثار هذا الحب بادية في تعامل أحدهما مع الآخر، فتجد كلاً منهما يكثر من ذكر محبوبه، ويشتاق دومًا إلى رؤيته، ويرغب في الخلوة به، ويأنس بقربه، ويغضب من أجله، ويغار عليه.. يُقرَّب من يحبه محبوبه، ويُبعد من يبعده, يطيع أوامره بسعادة وحبور، ويُضَحي من أجله، ويفرح بهداياه مهما صغرت.
فهذه وغيرها بعض آثار الحب عندما يتمكن من قلوب البشر تجاه بعضهم البعض.
فكيف ينبغي أن تكون هذه الآثار عندما يصبح المحبوب هو المحبوب الأعظم؟!
كيف يكون حال من يتمكن حب الله من قلبه؟!
بلا شك أن آثارًا عظيمة ستظهر على هذا المحب الصادق لمولاه سبحانه وتعالى, ستراه دومًا يكثر من ذكره ويأنس بقربه، ويستوحش مما سواه، ويحب الخلوة به ومناجاته, يسارع في طاعته ويعمل دومًا على رضاه, يغار على محارمه، ويغضب من أجله, يفرح بعطاياه ويشكره دومًا عليها, يضحي بالغالي والرخيص من أجله، يرضى بكل ما يقضيه له، ويبذل غاية جهده في خدمته، ويشتاق دومًا إلى رؤيته.
ولكننا نحب الله !
فإن قال قائل: ولكننا نحب الله ومع ذلك لا نشعر بكل هذه العلامات.
نعم، في القلوب حب لله عز وجل، ولكنه في الغالب لم يصل للدرجة التي تهيمن وتسيطر على المشاعر وتحتل الجزء الأكبر منها، فمع وجود قدر من حب الله في القلب إلا أن هناك محاب أخرى تشوش عليه، وتنازعه المكان مثل حب المال والزوجة والأولاد والنفس و...
وليس معنى هذا أن المطلوب هو تجريد مشاعر الحب من هذه الأمور، بل المطلوب أن يكون حب الله أكبر منها جميعًا كما قال تعالى: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[ [البقرة: 165] فإن لم يحدث هذا فلن تظهر تلك العلامات، وهذا ما أكده صلى الله عليه وسلم بقوله «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما».. الحديث.
فلكي يجد المؤمن حلاوة الإيمان لا بد أن تكون مساحة حب الله في قلبه أكبر من مساحة حبه لما سواه من المحاب الأخرى مجتمعة.
المعرفة طريق المحبة
المحبة ما هي إلا صورة من صور المعاملة التي ينبغي أن يعامل بها العبد ربه، وأكبر عامل يؤثر ويحدد درجة المعاملة هو المعرفة.
فكلما ازدادت المعرفة بالله تحسنت درجة معاملة العبد له، وازداد له حبًا وإجلالا وهيبة وخشية، وفي المقابل عندما يجهل الإنسان ربه، ولا يعرف قدره فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى أن يعامله معاملة لا تليق بجلاله وكماله، فيخشى الناس أكثر مما يخشاه، ويحب نفسه وماله وعقاراته أكثر مما يحب ربه، ويجتهد في التزيُّن للآخرين دون أن يبالي بربه.
فالسبب الأول لإعراض الناس عن الله، واستهانتهم بأوامره هو جهلهم بقدره سبحانه.. ]وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ` وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ[ [فصلت: 22،23].
ويؤكد الحافظ ابن رجب على أن المعاملة على قدر المعرفة بقوله:
لا قوت للقلب والروح، ولا غذاء لهما سوى معرفة الله تعالى، ومعرفة عظمته وجلاله وكبريائه. فيترتب على هذه المعرفة: خشيته، وتعظيمه، وإجلاله، والأنس به، والمحبة له، والشوق إلى لقائه، والرضا بقضائه.
المعرفة النافعة
المعرفة المؤثرة النافعة ليست تلك التي تخاطب العقل فقط، فالكثير من الناس يتحدث عن الله حديثًا جميلا ومبهرًا، فإذا ما نظرت لواقعه وجدت فعله بعيدًا عن قوله فلا خشية ولا تقوى ولا مهابة ولا إجلال لله ]قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ[ [يونس: 31].
فإن أردنا معرفة تؤثر في المعاملة فلا بد أن يتم مخاطبة العقل والقلب معًا، وأن تستمر تلك المخاطبة حتى يستقر مدلولها في قلب ومشاعر الإنسان فتُشكل مقامًا إيمانيًا مستقرًا في القلب يظهر أثره في سلوك العبد وأعماله ]وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ[ [الحج: 54].
.. معنى ذلك أن الطريق الأساسي لرحلة المحبة يبدأ من بوابة المعرفة الحقة بالله عز وجل، على أن تخاطب تلك المعرفة: الفكر والوجدان.
يقول ابن تيمية: وأصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى.
ومع هذه المعرفة، لا بد من القيام بأعمال تؤكد وترسخ مدلول الحب في قلوبنا فيزداد استقرارًا وهيمنةً على مشاعرنا ]وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا[ [النساء: 66].
وفي الصفحات القادمة سيكون الحديث بمشيئة الله عن أهمية المحبة وثمارها ونقطة البداية لرحلة المحبة مع ذكر بعض الوسائل العملية التي من شأنها أن تسير بنا قُدمًا في طريق حب الله عز وجل، لعلنا نستنشق نسيم الأنس به في الدنيا، فتزداد قلوبنا شوقًا إليه سبحانه، لتكون أسعد لحظاتنا تلك اللحظات التي تقُبض فيها أرواحنا ونبشر من الملائكة بلقاء الحبيب جل وعلا وهو راض عنا.
* * *