وقفة بين عامين
لعل أول ما يخطر على بال المسلم ـ وهو يشهد انتهاء عام وابتداء عام ـ أن يتذكر قدرة الله عز وجل على مداولة الأيام, وموالاة الدهور والأعوام, وتقليب الليل والنهار, {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}[1], {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}[2].
لعل أول ما يخطر على بال المسلم ـ وهو يشهد انتهاء عام وابتداء عام ـ أن يتذكر قدرة الله عز وجل على مداولة الأيام, وموالاة الدهور والأعوام, وتقليب الليل والنهار, {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}[1], {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}[2].
كما يتذكر قدرته على تدبير شؤون هذا الكون الفسيح, وتقليب أحواله {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[3], فكم ولد في هذا العام من مولود؟! وكم مات فيه من حي؟! وكم استغنى فيه من فقير, وافتقر فيه من غني؟! وكم عز فيه من ذليل, وذل فيه من عزيز؟! {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}[4].
وفي زحمة هذه الحياة، وكثرة المشاغل والملهيات ينسى الواحد منا أن عمره محدود، وأنفاسه معدودة، وأن هذه السنوات التي تتهادى إليه، بل الأيام واللحظات التي تمر عليه, فإنما تذهب من عمره, وتنقص من أجله, وتبعده عن الدنيا بقدر ما تقربه من الآخرة.
إنا لنفرح بالأيام نقطعـــها وكلُّ يوم مضى, يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العـمل[5]
كم تمر بنا الشهور تلو الشهور، ونخلع السنين تلو السنين, ونحن في سبات غافلون, حتى كأننا في هذه الدنيا مخلدون، يقول الحسن البصري: "يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة, كلما ذهب يوم ذهب بعضك"[6].
إن الحياة بأيامها ولياليها مراحل الآجال، ومخازن الأعمال، وهي وإن كانت قصيرة محدودة فبها تشترى أغلى السلع، وهي الجنة، أو أبخس البضائع، وهي النار، وبحسب عمل الإنسان فيها يكون جزاؤه في الدنيا والآخرة، وبها يتحدد مصيره يوم القيامة، إما في نعيم مقيم، وإما في عذاب الجحيم،{فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ *نَارٌ حَامِيَةٌ}
ولله در ابن المعتز حين قال:
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأعمارنا تطوى وهن مراحلُ
ترحّل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل[7]
قال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا, من يومه يهدم شهره, وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟ كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله, وحياته إلى موته؟"
وما أجمل هذا التصوير للإنسان وهو راكب ظهر عمره يسعى به حثيثاً إلى قبره:
وما المرء إلا راكبٌ ظهرَ عمره على سفرٍ يُفنيه في اليوم والشهرِ
يبيت ويضحي كلَّ يوم وليلةٍ بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبرِ
وكم ينتظر الواحد منا ما أقبل من دهره, ويتمنى نهاية سنته أو شهره, من أجل أن يقبض الراتب, أو يحصل على العلاوة، أو يحقق أمنية وحاجة, وقليل منا من يتفطن إلى أن ذلك كله ينقص من عمره, وأنها مراحل يقطعها من سفره, وصفحات يطويها من دفتره، ولحظات ستكتب في صحيفة حسناته أو سيئاته.
نجد سروراً بالهلال إذا بدا وما هو إلا السيف للحتف يُنتضى
إذا قيل تم الشهر فهو كنايةٌ وترجمة عن شطر عمرٍ قد انقضى[8]
بل ينسى الواحد منا أن الموت قد يقطع عليه حبل أمله, ويفجؤه قبل أن يصل إلى مؤمله, فيأخذه على غرة, ويفتك به على حين غفلة {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[9].
وما أجمل قول أبي العتاهية:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يُسعى عليك بما اشتهيت لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور[10]
وفي تعاقب الشمس والقمر عبر وأي عبر!! فهذه الشهور, تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال, ثم تنمو رويداً رويداً كما تنمو الأجسام, حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال, وهكذا هو حال الإنسان: طفولة ضعيفة, ثم شباب قوي, ثم رجولة كاملة, ثم شيخوخة متداعية, ثم الموت المحتوم {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}[11].
وهذه الشمس أيضاً تطلع في الصباح واهنة ضعيفة، لكنها واعدة نامية، ثم لا تزال تقوى شيئاً فشيئاً حتى تكتمل قوتها، ويعم شعاعها ونورها، ثم تبدأ في الضعف قليلاً قليلاً حتى ينتهي عمرها، وتتلاشى حرارتها وضوؤها، وهكذا هو حال الإنسان إن مدَّ الله له في العمر حتى تصيبه الشيخوخة والكبر. والمؤمن الموفق لا يزداد بطول عمره إلا خيراً، وطاعة وبراً، وعطاءً ونفعاً, وقد سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي الناس خير؟ فقال: "من طال عمره وحسن عمله", قيل: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله"[12].
وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر من الدعاء بقوله "اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير, والموت راحة لي من كل شر" رواه مسلم[13].
وكم يذكرنا كرُّ الغداة ومرُّ العشي بأن الحياة مراحل, وأن كل مرحلة لها قيمتها ومكانتها, ولها كذلك واجباتها ووظائفها, وأن كل لحظة لها عمل يخصها، ومهمة ينبغي أن تستثمر فيها, ولا يغني زمان عن زمان, ولا عمل عن عمل, فينبغي لمن أراد الفلاح والنجاة أن يحرص على الاستفادة من عمره كله, وعلى استغلال أوقاته كلِّها, وليحذر من التسويف والتأخير، والتعلل بعسى ولعل, وعمل اليوم إذا فات لا يغني عنه عمل الغد, فلكل يوم واجباته، ولكل زمان تبعاته، ولكل لحظة وظيفة مطلوبة, وحساب قائم.
إن الزمن سريع التقضي، أبي التأتي، محال الرجوع، ولو أن الناس اجتمعوا كلهم على أن يردوا عليك يوماً مضى من حياتك ما استطاعوا:
أمس الذي مرًّ على قربه يعجز أهل الأرض عن رده
يذكر عن عامر بن عبد القيس رحمه الله أنه كان يصلي في اليوم ألف ركعة، وقد استوقفه رجل مرة وقال له: قف أكلمك. فرد عليه عامر: احبس الشمس حتى أكلمك.
وهذا وإن كان فيه شيء من المبالغة إلا أنه يدل على أن الوقت نفيس جداً، لأن الوقت هو الحياة، وبقدر ما تضيع من وقتك تضيع من حياتك المحدودة، وعمرك القصير. كما أنه لا ينبغي للعاقل أن يضيع وقته في التحزن على ما فات، أو التسويف فيما يأتي:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
يقول الحسن البصري: "ما من يوم ينشق فجره وتشرق شمسه إلا نادى منادٍ من قبل الحق: يا ابن آدم, أنا خلق جديد, وعلى عملك شهيد، فتزود مني بعمل صالح, فإني لا أعود إلى يوم القيامة"[14].
وقد كان العارفون بالله يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس, بل كانوا لا يرضون إلا بالزيادة من عمل الخيرات في كل يوم, ويستحيون من فقد ذلك ويعدونه نقصًا وخسراناً, حتى قال قائلهم:
أليس من الخسران أن لياليا تمر بلا نفع, وتحسب من عمري
إذا مر بي يوم ولم أستفد علماً ولم أكتسب هدى فما ذاك من عمري[15]
وقال الآخر:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز عليه من الإنفاق في غير واجب[16]
تأمل يا أخي في دقات قلبك وكأنها تستحثك على استباق الزمن والمسارعة إلى الخيرات، وتؤكد لك أنها دقات معدودة محسوبة، وما مضى منها فلن يعود أو يعوض:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
وتأمل كذلك في ساعتك، وانظر إلى عقرب الساعة وهو يأكل الثواني أكلاً: واحدة، وثنتين، وخمساً، وعشراً، وستين، ومائة، وألفاً، ومليونأ من الثواني، لا يتوقف ولا يني، بل لايزال يلتهم الساعات تلو الساعات، سواء كنت مستيقظاً أو نائماً، قائماً أو قاعداً، عاملاً أو عاطلاً، جاداً أو هازلاً، وتذكر أن كل ثانية تمضي فإنما هي جزء من عمرك، وأنها مرصودة في سجل حسناتك أو سيئاتك!! فإن صرفتها في خير كانت لك كرامة وذخراً، وإن كانت الأخرى كانت عليك وبالاً وشراً، وكل لحظة تضيع بغير مصلحة فهي عليك لا لك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" رواه البخاري[17].
والمقصود: أن كثيراً من الناس لا يقدرون هاتين النعمتين حق قدرهما, ولا ينتفعون بهما, بل يصرفونهما إما في معصية أو في عمل ليس من ورائه مصلحة, فتكونان في حقهم وبالاً وخساراً.
وإن شئت مصداق ذلك فتأمل في أحوال كثير من الناس, وكيف يمضون الساعات الطوال في فضول الطعام والكلام، وفضول الاستماع والنظر، وفضول المجالسة و المخالطة, لعب ولهو, وسهر متواصل، وأحاديث ليس من ورائها طائل، وجلسات لغوها كثير, ونفعها قليل, بل لا تستغرب حين تسمع من يشكو من الفراغ، ويتأفف من طول الوقت, وأنه يحاول قتل وقته والقضاء عليه! سبحان الله العظيم؟ أهكذا يقولون عن نعمة الفراغ؟ حقاً إنهم لم يعرفوا قدرها, ولم يحسنوا استغلالها, ولم يعلموا أن بهذه الأوقات التي يضيعونها يكون تحصيل خيري الدنيا والآخرة من قِبل أصحاب الهمم العالية، والاهتمامات الرفيعة, الذين أدركوا قيمة الوقت, ووفقوا لاستثماره، والانتفاع بكل لحظة من لحظاته.
ولو سألت هذا المضيع لأوقاته سدى: لماذا تقطع أرحامك؟ ولماذا تقصر في بر والديك أو تربية أولادك؟ ولماذا تقعد عن القيام بواجب الدعوة إلى الله؟ ولماذا تتقاعس عن طلب العلم, وتضعف همتك عن المنافسة فيه وبذل الجهد في تحصيله؟ لأجابك من غير تلكؤ ولا تردد: إنني مشغول. وما شغله إلا النوم والكسل, وقلة الطموح وضعف الهمة، وغلبة الهوى والشهوة، ولله در القائل:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع[18]
إننا في هذه الأيام نودع عاماً شهيداً, ونستقبل عاماً جديداً, فيا ليت شعري! ماذا أودعنا في العام الماضي, وبماذا نستقبل العام الجديد؟ ليقف كل منا مع نفسه محاسباً، ولينظر في عامه الماضي كيف قضاه, وبماذا أملاه؟ ليحاسب نفسه, هل أدى فرائض الإسلام, وقام بها حق القيام, وهل وقف عند حدود الله, ولم ينتهك محارمه وحماه؟ هل أدى حقوق المخلوقين؟ وقام بما يجب عليه نحو والديه وأولاده وقرابته والناس أجمعين؟
هل حفظ لسانه وعينه وسمعه وفرجه عن الحرام؟ وهل جمع أمواله من طرق الحلال, وأنفقها في وجوه الحلال؟ يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وزنوها قبل أن توزنوا, وتهيئوا للعرض الأكبر على الله، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية"[19].
ومهما عشت يا ابن آدم فإلى السبعين أو التسعين, وهبك بلغت المئين, فما أقصرها من مدة، وما أقله من عمر؟! قيل لنوح عليه الصلاة والسلام وقد لبث في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاما: كيف رأيت الدنيا؟
فقال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر[20].
حاسب نفسك على أي شيء تطوى صحائف هذا العام, فلعله لم يبق من عمرك إلا ساعات أو أيام.
تؤمل في الدنيا طويلاً ولا ندري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى يمسي ويصبح آمنا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صحيح مات من غير علة وكم من عليل عاش حينا من الدهر[21].
وعظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلاً فقال: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك, وصحتك قبل سقمك, وغناك قبل فقرك, وفراغك قبل شغلك, وحياتك قبل موتك" رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي[22].
هكذا أوصانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ باغتنام هذه الخمس قبل حلول أضدادها، ففي الشباب قوة وعزيمة, فإذا هرم الإنسان ضعفت قوته وفترت عزيمته. وفي الصحة نشاط وانبساط, فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه, وضاقت نفسه, وثقلت عليه الأعمال. وفي الغنى راحة وفراغ, فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه وعياله, وتوزعت همومه.
وفي الفراغ فرصة للتزود من الخيرات, والتقرب إلى الله بأنواع الطاعات: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ}[23] أي: أتعب نفسك في طاعة الله.
وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال, فإذا مات العبد حيل بينه وبين العمل, وانقطعت عنه أوقات الإمكان {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[24].
وكما ينبغي للأفراد أن يقفوا مع أنفسهم للمراجعة والمحاسبة, فإن الجماعات والأمم لا بد لها من وقفات في مراحل كفاحها ونضالها, تستعرض ما مضى
من أيامها, وتتبين حساب ما ربحته وحصلت عليه, وتبعات ما تحملته وتعرضت له, ثم ترسم خطتها للمستقبل بما يجنبها العثار والزلل, ويعينها على سداد المنهج والعمل. وخير الأمم من لم يبطرها كسب حصلت عليه مهما كان عظيماً, ولم يضعفها بأس تعرضت له, أو شدة ذاقت مرارتها مهما كانت مرة وقاسية، بل تمضي على الطريق ساعية كاسبة, عاملة مجاهدة, آملة راجية.
ولقد مر بأمة الإسلام في هذا العام محنٌ شدادٌ ومصائب عظام، ولعل أبرزها تلك الحملات الشرسة، والحروب الظالمة التي تشن على إخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والصومال والسودان، وغيرها، حتى صارت دماء المسلمين أرخص الدماء، وحماهم مباحاً لكل دعي ودخيل.
حين يقتل أو يخطف يهودي أو نصراني, أو حتى بوذي وثني، تقوم الدنيا ولا تقعد، وترغي وتزبد، وتتحرك الهيئات الدولية، وتستنفر وسائل الإعلام، ويعبأ الرأي العالمي لاستنكار ما حدث، وللثار ممن قتل! أما المسلمون فلا بواكي لهم، تباد شعوب بأكملها، وتشرد عن أوطانها، وتنتهب خيراتها وممتلكاتها، وتستباح أعراضها وحرماتها، فلا تكاد تسمع منكراً، أو تجد مغيثاً وناصراً.
وصار حالنا كما قال الشاعر:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
ومع ذلك فإن أملنا بالله عظيم، وثقتنا بنصره كبيرة، وهذه الضربات وإن كانت موجعة إلا أنها ستكون موقظة ودافعة، وإذا اشتد الظلام آذن الصبح بالانبلاج.
والليل إن تشتد ظلمته فهذا الفجر لاح
والله تعالى يقول: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}[25]
النصدر