نور الإيمان
قال الله - جل في علاه -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 170]، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2]، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، هذا كله إلى جانب وعد الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، ثم ينتقل بمخيلة الإنسان؛ ليصور نعيمه، وقد تزين بنور الإيمان، وهذه بِشَارة من ربِّ العزة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12].
تنمو بذرة الإيمان، وتترعرع في تربة الروح بمياه الذِّكر، وبالإكثار من مُمارسة سلوك إيماني، وما أن سبَّح الإنسان في محراب الذِّكر، وحب الله في كل عمل يعمله، وكل لفظ يلفظه، حتى يجد الله يمن عليه بهداية قلبه.
ولا يغرن أحدٌ أن الإيمان ألفاظٌ تَجري على اللسان، فأيُّ لفظ لم يقترن بممارسة إيمانية عَميقة، مثله كمثل الوعاء الفارغ، فليس كل لافِظ لشهادة الإيمان وجد حلاوته، وقد استفاضَ خاتم النبيِّين - الذي أولاه ربه مهمة نشر وشرح كتاب الإيمان - في وضع نقاط كلمة الإيمان على حروفها في قلب المؤمن، وهو في هذا سيد الشراح، والمشكاة التي يهتدي بها الشراح من بعده، ومن شروحاته لكلمات ربِّه للناس، وهو يبين تهيئة أسبابِ حلول نور الإيمان على قلب المؤمن: ((ثلاث من كنَّ فيه، وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأنْ يُحبَّ المرء لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار))، والحكمة في هذا الموضع من مَحبة الله أنَّها تَملأ قلبَ ومشاعر الإنسان بمحبة رسولِه، الذي يُبادل المؤمن مَحبة أعلى مرتبة منه، ومن مَحبة الرسول تتوالد سلوكيات مَحبة الناس، لا لغايات أو لمصالح دُنيوية زائلة، بل تتوالد كما هي مَحبة خالصة في الله.
فأيُّ مَحبة حقيقيَّة صادقة لا تُحقِّق كينونتَها، إلاَّ إذا سبقتها هذه المحبة الرَّبَّانية الزَّكية، أمَّا إذا كان فاقدًا لهذه المحبة الإلهية الطَّاهرة، فإنَّ بذرة المحبة تلبثُ ميتة لا يُحركها ساكن من دون الله في عمق فؤاده.
هذا الكائن الذي يحيا في الناس ببذرة مَحبة ميتة هو في واقع الأمر لا انتماء له لسلالة البَشَر إلاَّ مظهره، فيكون ممسوخًا في باطنه؛ إذ لا يرى أيَّ قيمة أو مُتعة في الحياة برُمَّتِها خارجًا عن لحظات اكتسابه للمال التي يَمتلئ فيها شعورًا بالرِّضَا عن نفسه، وعن جدارة العيش، ويبلغ مرحلة نرجسية غاية في السلبيَّة لا ينظر فيها نظرة إلاَّ إذا جَرَّت عليه نفعًا، ولا يَخطو خطوةً إلاَّ إذا لمس خلفها مصلحة، لا يَمد كفَّ سلام إلاَّ لطمع في نفسه، لا يلفظ كلمةَ حقٍّ إلاَّ إذا رأى كسبًا، بل لا تتناهى له فكرة إلاَّ وقد قلبها، حتى أتى على وجهها المالي النفعي الزهيد.
كلُّ حركة تبدر منه تكون مرهونة سابقًا بالرِّبح والخسارة في هيئة مادية خالصة، من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، فلا تلمَس في مَذهبه خَصْلَة حميدة، أو موقف تضحية، أو ذرة رحمة، أو كلمة تسامح، إنَّه كائن بشع فاسد أينما وطأت قدماه، فإنِ ابتاع سلعة، نظر إلى قيمتها قبل أن ينظر إلى جودتها، وإن أنتجَ سلعةً، نظر إلى بَدَلِها النَّقدي قبل أنْ ينظرَ إلى جودتِها، فيرتمي آخر الليل في أحضان كيسه سعيدًا، وكله انتظار لصباح جديد تحسبًا لزيادة أخرى، بينما عباد الله بوغتوا بهشاشة بضاعته وفسادها، وهم يُكيلون اللَّعنة تِلْوَ الأخرى لمنتجها ومروجها وبائعها.