الحديث الأول
الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوله، وَمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَة يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)
الشرح
العجب أن هذا الحديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمر رضي الله عنه مع أهميته، لكن له شواهد في القرآن والسنة. ففي القرآن يقول الله تعالى (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ )(البقرة: الآية272) فهذه نية،
وهذه نيّة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِيْ بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلَهُ فِي فِيّ امْرَأَتِك
المهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة. ولفظ الحديث انفرد به عمر رضي الله عنه، لكن تلقته الأمة بالقبول التام، حتى إن البخاري رحمه الله صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث.
الأعمال جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه
الجملة الأعمال بأنواعها
.
فالأعمال القلبية: مافي القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
والأعمال النطقية: ماينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولاأعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.
الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. النيات: جمع نية وهي: القصد. وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرّباً إلى
الله تعالى، ومحلها القلب، فهي عمل قلبي ولاتعلق للجوارح بها.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ : أي لكل إنسانٍ مَا نَوَى أي ما نواه
.
مسألة: هل هاتان الجملتان بمعنى واحد، أو مختلفتان؟
الجواب:
الثانية غير الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل لهذا مافرعه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
هذه فيبقى الكلام لاتكرار فيه.
والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض
.
* وتمييز العادات من العبادات مثاله:
- أولاً: الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله عزّ وجل في قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا )(الأعراف:الآية31) فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة
- ثانياً: الرجل يغتسل بالماء تبرداً، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول عادة، والثاني: عبادة، ولهذا
لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر للتبرد ثم صلى فلا يجزئه ذلك، لأنه لابد من النية،وهو لم ينو التعبّد وإنما نوى التبرّد.
ولهذا قال بعض أهل العلم: عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات أهل اليقظة عبادات.
عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة. وعادات أهل اليقظة عبادات
مثاله: من يأكل امتثالاً لأمر الله، يريد إبقاء نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة. ورجل آخر لبس ثوباً جديداً يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا لايؤجر
،
وآخرلبس ثوباً جديداً يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني، فهذا يؤجر. ورجل آخر لبس يوم الجمعة أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهو عبادة.
* تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ
.
* إذاً المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أوتمييز العبادات عن العادات.
واعلم أن النية محلها القلب، ولايُنْطَقُ بها إطلاقاً،لأنك تتعبّد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
والله تعالى عليم بما في قلوب عباده، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لايعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به، إنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ماتوسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك، وحاضرك.
ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله ولاعن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّة ولهذا فالنّطق بها بدعة يُنهى عنه سرّاً أو جهراً
مسألة: إذا قال قائل: قول المُلَبِّي: لبّيك اللهم عمرة، ولبيك حجّاً، ولبّيك اللهم عمرة وحجّاً، أليس هذا نطقاً بالنّية؟
فالجواب: لا، هذا من إظهار شعيرة النُّسك، ولهذا قال بعض العلماء: إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في
الصلاة، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام، كما أنه لولم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك. ولهذا ليس من السنّة أن نقول ما قاله بعضهم: اللهم إني أريد نسك العمرة
،
أو أريد الحج فيسّره لي، لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولادليل. إذاً أنكر على من نطق بها، ولكن بهدوء بأن أقول له: يا أخي هذه ما قالها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فدعْها.
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى هذه هي نيّة المعمول له، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، حيث تجد رجلين يصلّيان بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب أو مما بين السماء والأرض في الثواب، لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص.
وتجد شخصين يطلبان العلم في التّوحيد، أو الفقه، أو التّفسير، أو الحديث، أحدهما بعيد من الجنّة والثاني
قريب منها، وهما يقرآن في كتاب واحد وعلى مدرّسٍ واحد. فهذا رجل طلب دراسة الفقه من أجل أن يكون قاضياً والقاضي له راتبٌ رفيعٌ ومرتبة ٌرفيعة
والثاني درس الفقه من أجل أن يكون عالماً معلّماً لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فبينهما فرق عظيم. قال
النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ طَلَبَ عِلْمَاً وَهُوَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لا يُرِيْدُ إِلاِّ أَنْ يَنَالَ عَرَضَاً مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ ، أخلص النية لله عزّ وجل
.
* ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالمهاجر فقال:
فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ الهجرة في اللغة: مأخوذة من الهجر وهو التّرك.
وأما في الشرع فهي: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام
مسألة:هل الهجرة واجبة أو سنة؟
والجواب: أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لايستطيع إظهار دينه في بلد الكفر، فلايتم إسلامه إذا كان لايستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لايتم الواجب إلا به فهوواجب. كهجرة المسلمين من مكّة إلى الحبشة، أو من مكّة إلى المدينة.
فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله،أي: يريد ثواب الله، ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)(الأحزاب: الآية29) إذاً يريد الله: أي يريد وجه الله ونصرة دين الله، وهذه إرادة حسنة.
* مسألة:بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة والسلام؟
والجواب: أما إلى شخصه فلا، ولذلك لايُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول صلى الله عليه وسلم
، لأنه تحت الثرى، وأما الهجرة إلى سنّته وشرعه صلى الله عليه وسلم فهذا مما جاء الحث عليه وذلك مثل: الذهاب إلى بلدٍ
لنصرة شريعة الرسول والذود عنها. فالهجرة
إلى شريعته فقط
نظير هذا قوله تعالى ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرسول صلى الله عليه وسلم ِ)(النساء: الآية59) إلى الله دائماً،
وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته. فمن ذهب من بلدٍ إلى بلد ليتعلم
الحديث، فهذا هجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ماهاجر إليه
فالحديث إذاً صحيح يفيد العلم اليقيني، لكنه ليس يقينياً بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم .