بسم الله الرحمن الرحيم
فتوى الإمام السُّبْكي بأن القراءات العشر متواترة
كثيراً ما يتردّد على ألسنة الدارسين، وحتى بعض المدرسين القول بأن القراءات العشر المعروفة على قسمين: قسمٌ متواتر بلا خلاف، وقسمٌ متواتر بخلاف، ويعنون بالقسم الأول تلك السبع المذكورة في التيسير والشاطبية، وهي قراءات: نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي. وبالقسم الثاني تلك الثلاث المتممة للعشر، وهي قراءات: أبي جعفر، ويعقوب، وخَلَف.
والصواب: هو أن القراءات العشر جميعها متواترة بلا خلاف؛ لدخولها جميعاً في الضابط المعتمد لصحة القراءة، وهو صحة السند، وموافقة وجهٍ في العربية، وموافقة خط المصحف الإمام، فإذا تحققت هذه الأركان الثلاثة فالقراءة تكون صحيحة ومقبولة، ولو رواها سبعة أو سبعون ألفاً مجتمعين أو متفرقين! ومتى فقدت القراءة أحد هذه الأركان فاحكُم بأنها شاذة.
ولعل القائلين بعدم تواتر القراءات الثلاث أخطأوا توجيه ما ذكره العلامة أبو الحسن السبكي شيخ الشافعية والمحقق للعلوم الشرعية: "قالوا.. يعني أصحابنا الفقهاء: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بالقراءات السبع، ولا تجوز بالشاذة". فظاهر هذا الكلام يُوهم أن غير السبع هو الشاذ، والصواب غير ذلك؛ فمثلاً إذا قال قائل: إنه ثبت وجود النفط في دولة أو في منطقة، فهل هذا يعني عدم ثبوته في دول أو مناطق أخرى؟! طبعاً لا، فذلكم الإمام السبكي نفسه يذكر في موضع آخر: "القول بأن القراءات الثلاث غير متواترة هو قول في غاية السقوط، ولا يصح القول به عمّن يُعتبر قوله في الدين". وقال الإمام إسماعيل القراب في كتابه (الشافي): "ثم التَّمسُّك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سُنَّة".
وقال ابن الجزري رحمه الله: نَقلتُ من خط الإمام أبي حيّان الحيّاني الأندلسي – يرحمه الله – : "قد ثبت لنا بالنقل الصحيح أن أبا جعفر هو شيخُ نافع، وأن نافعاً قرأ عليه، وكان أبو جعفر من سادات التابعين وكان في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان العلماء متوافرين، وقد أخذ القراءة عن الصحابة: عبد الله بن عباس وغيره، فلم يكن من هو بهذه المثابة ليقرأ كتاب الله بشيءٍ محرّم عليه، فكيف وقد تلقّف ذلك في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته غضّاً رطباً قبل أن تطول الأسانيد، وقبل أن تدخل فيها النَّقلةُ غير الضابطين؟!
وأما يعقوب – يرحمه الله – فقد كان إمام الجامع بالبصرة يؤُمُّ الناس، والبصرة إذ ذاك ملأى من أهل العلم، ولم يُنكِر أحدٌ عليه شيئاً من قراءته، ويعقوب تلميذ سلام الطويل، وسلام تلميذ أبي عمرو البصري وعاصم؛ فيعقوب من جهة أبي عمرو كأنه مثل الدوري الذي روى عن اليزيدي عن أبي عمرو، وهو من جهة عاصم كأنه مثل العليمي أو يحيى اللَّذين رَوَيا عن شعبة عن عاصم.
وأما خلف فقراءته لا تخرج عن قراءة أحد من السبعة، بل ولا عن قراءات الكوفيين في حرف، فكيف يقول أحدٌ بعدم تواتر قراءات هؤلاء الثلاثة مع ادِّعائه تواتر قراءات السبعة"؟
ويواصل ابن الجزري قوله: "فمِن أجل ذلك قلتُ: والصحيح أن ما وراء العشرة فهو شاذ، فما يقابل الصحيح إلا فاسد، ثم كتبتُ استفتاءً في ذلك إلى العلامة قاضي القضاة أبي نصر عبد الوهاب السبكي – يرحمه الله – ونصُّه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين في القراءات العشر التي يُقرأ بها اليوم، هل هي متواترة أو غير متواترة؟ وهل كل ما انفرد به واحدٌ من العشرة بحرف من الحروف متواتر أم لا؟ وإذا كانت متواترة فما يجب على من جَحَدها أو جحد حرفاً منها؟ فأجابني ومن خطِّه نقلت: "الحمد لله، القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي، والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر، وقراءة يعقوب، وقراءة خلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكلُّ حرفٍ انفرد به واحدٌ من العشرة معلومٌ من الدين بالضرورة أنه منزّلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يُكابر في شيء من ذلك إلا جاهل، وليس تواترُ شيءٍ منها مقصوراً على من قرأ بالروايات، بل هي متواترة عند كل مسلم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولو كان مع ذلك عامّيّاً جلفاً لا يحفظ من القرآن حرفاً، ولهذا تقريرٌ طويل وبرهان عريض لا يَسعُ هذه الورقة شرحه، وحظُّ كل مسلم وحقُّه أن يدين الله تعالى ويجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر معلوم باليقين لا يتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه، والله تعالى أعلم". (مختصراً عن كتاب النشر في القراءات العشر، لابن الجزري / ج1).
هذا وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(عبد الرحمن جبريل )