الافتقار إلى الله
كتبه/ علي حاتم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالطغيان لغة: مجاوزة الحد.
واصطلاحًا: مجاوزة الحد في العصيان.
وللطغيان أسباب كثيرة، منها: المال, والعشيرة, والأنصار, والقدرة, كما أن هناك طغيانـًا في العلم إذا انضاف إلى كل ذلك حب الدنيا, وإيثارها على الآخرة.
وقد جمع قول "وهب بن منبه" بين طغيان المال, وطغيان العلم: "إن للعلم طغيانـًا كطغيان المال".
يقول "ابن الأثير":
"أي أن العلم يحمل صاحبه على الترخص بما اشتبه منه إلى ما لا يحل له,
ويترفع به على من دونه, ولا يعطي حقه بالعمل به كما يفعل رب المال".
وقد وصف الله -عز وجل- ذلك الإنسان الذي علم من نفسه أنه مستغنٍ عن الله بماله, وأنصاره, وعشيرته بأنه طغى. قال -تعالى-: (كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6-7), و"كَلا" هنا بمعنى حقـًا كما يقول المفسرون, أو هي كلمة ردع لمن كفر بنعمة الله عليه في طغيانه.
"والإنسان"
يراد به العموم على الراجح من قولي أهل العلم, والقول الآخر عند كثير من
المفسرين: أن الإنسان هنا إنسان واحد هو أبو جهل, ومع أن الآية الكريمة
نزلت فيه حيث كان يطغى بكثرة ماله, ويبالغ في عداوة النبي -صلى الله عليه
وسلم- فقد روي أنه قال -للنبي صلى الله عليه وسلم-: "أتزعم أن من استغنى
طغى, فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبًا؛ لعلنا نأخذ منها فنطغى, فندع ديننا,
ونتبع دينك, فنزل عليه جبريل -عليه السلام- فقال: إن شئت فعلنا ذلك, ثم إن
لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة, فكف رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- الدعاء إبقاءً عليهم".
نقول:
مع أن الآية نزلت في أبي جهل إلا أن العبرة بعموم النص, لا بخصوص السبب؛
لأن الله -تعالى- كما يقول الرازي: بيَّن أنه مع أنه خلق الإنسان من علق,
وأنعم عليه بالنعم التي ذكرت في أول السورة, إذا أغناه وزاد في النعمة
عليه؛ فإنه يطغى, ويتجاوز الحد في المعاصي لاتباع هوى النفس, وذلك وعيد
وزجر عن هذه الطريقة, والله -سبحانه- أكد على هذا الزجر بقوله: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:، فتقع المحاسبة على ما كان فيه من العمل, والمؤاخذة بحسب ذلك.
والغِنى
كما يقول الشوكاني -رحمه الله-: "مطغٍ إلا من عصم الله"، وقد أفاض
الشنقيطي -رحمه الله- في التأكيد على أن الغنى وحده ليس موجِبًا للطغيان
إلا أن يصحبه إيثار الدنيا على الآخرة, واستدل -رحمه الله- على ذلك بأنه
قد وجد الكثير من الناس يستغنى ولا يطغى, فيكون لفظ الإنسان في الآية من
العام المخصوص, ولا يكون الاستغناء وحده هو سبب الطغيان, ولذا جاء في
السنة ذم العائل المستكبر؛ لأنه مع فقره يرى نفسه استغنى, فالاستغناء إذن
معنى في نفسه, لا بسبب غناه كما قال -عز وجل-: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:37-39)، فإيثار الحياة الدنيا هو الموجب للطغيان.
وكما في قوله -عز وجل-: (الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الهمزة:2-4), ومفهومه أنه من لم يؤثر الحياة الدنيا, ولم يحسب أن ماله أخلده لن يطغيه ماله ولا غناه.
وأكثر المفسرين يؤكدون على هذا المعنى, وهو أن الغنى وحده ليس موجبًا للطغيان, ولذلك يفسرون قول الله -عز وجل-: (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)
أي: رأى نفسه, ومعنى الرؤية العلم, أي علم نفسه مستغنيًا, ولذلك فإن جملة
"استغنى" مفعول ثان لرأى التي هي بمعنى عَلِمَ, وقالوا: إن ذلك لا يكون في
غير أفعال القلوب.
وضرب الشنقيطي -رحمه الله- أمثلة كثيرة على أن الغنى وحده لا يوجب الطغيان،
إنما الذي يوجبه ما يحدث في النفس من معاني الاستعلاء والاستغناء عن الله,
والاستكبار وإيثار الحياة الدنيا، وغيرها من الآفات التي تورد الإنسان
موارد الهلاك, وقد أشار -رحمه الله- إلى قول هارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص:78), كما أشار إلى قول ثالث الثلاثة من بني إسرائيل: (إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ) (رواه مسلم), وذلك بخلاف المسلم فلا يزيده غناه إلا تواضعـًا وشكرًا للنعمة كما قال نبي الله سليمان: (قَالَ
هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ
شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي
غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40).
وقد بيَّن الله في نفس السورة أنه -عليه السلام- شكر الله -عز وجل-؛ قال -تعالى-: (فَتَبَسَّمَ
ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ
الصَّالِحِينَ) (النمل:19).
وقد
كان في أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم- من هم من أصحاب المال
الوفير, فلم يزدهم ذلك المال إلا قربة لله كعثمان, وابن عوف, وغيرهم -رضي
الله عنهم-.
كيف النجاة إذن من الطغيان بكل أنواعه: طغيان المال, أو العشيرة, أو العلم, أو الجاه, أو القدرة؟
هو
في علاج النفس, هو في علاج القلب من تلك الآفات, وأن يشاهد العبد فقره في
كل حال من أمور دينه ودنياه, ويتضرع لله, ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة
عين, وأن يعينه في جميع أموره, وعلى العبد أن يستصحب هذا المعني في كل
وقت, حتى يفوز بالإعانة الكاملة من ربه الذي هو أرحم به من الوالدة
بولدها، قال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر:15-17).
قال ذو النون: "الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة, فكيف لا ووجودهم به؟!".
وقال سهل: "لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى, ولهم بالفقر, فمن ادعى الغنى حُجِب عن الله, ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه".
وقال الواسطي:
"من استغنى بالله لا يفتقر, ومن تعزز بالله لا يذل"، وعلى قدر افتقار
العبد إلى الله يكون غناه بالله, وكلما ازداد افتقارًا إليه ازداد غنى به.
وقال النسفي -رحمه الله- في شرحه للآية السابقة: "إن
الله لم يسمهم بالفقراء للتحقير, بل للتعريض على الاستغناء, ولهذا وصف
نفسه بالغَنِيِّ الذي هو مُطعِم الأغنياء, وذكر الحميد ليدل على أنه الغني
النافع بغناه خلقه, والجواد المنعم عليهم, إذ ليس كل غني نافعـًا بغناه
إلا إذا كان جوادًا منعمًا, وإذا جاد وأنعم حمده المُنْعَمُ عليهم".
ويقول الزمخشري:
"فإن قلتَ: لم عرَّف الفقراء -أي عرف الكلمة بالألف واللام-؟ قلتُ: قصد
بذلك أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء, وإن كانت الخلائق كلها
مفتقرة إليه من الناس وغيرهم؛ لأن الفقر مما يتبع الضعف, وكلما كان الفقير
أضعف كان أفقر, وقد شهد الله على الإنسان بالضعف في قوله: (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء:28), وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (الروم:54).
فإن
قلتَ: قد قوبل الفقراء بالغني فما فائدة الحميد؟ قلتُ: لما أثبت فقرهم
إليه, وغناه عنهم, وليس كل غني نافعـًا بغناه إلا إذا كان الغني جوادًا
مُنْعِمًَا, فإذا جاد وأنعم حمده المنعَمُ عليهم, واستحق بإنعامه عليهم أن
يحمدوه على ألسنة مؤمنيهم" الزمخشري "الكشاف".
إن
الله -عز وجل- يأمر العباد بطاعته, وينهاهم عن معصيته, لا لينتفع بطاعتهم,
ولا ليدفع الضر بمعصيتهم, بل النفع في ذلك كله لهم, وهو -سبحانه- الغني
لذاته الغنى المطلق.
ويقول السعدي -رحمه الله-:
"وقوله -تعالى- الحميد أي أنه من غناه -تعالى- أن قد أغنى الخلق في الدنيا
والآخرة, فهو الحميد في ذاته وأسمائه؛ لأنها حسنى, وصفاته لكونها عليا,
وأفعاله؛ لأنها فضل وإحسان, وعدل وحكمة ورحمة, وفي أوامره ونواهيه فهو
الحميد على ما فيه من الصفات, وعلى ما فيه من الفضل والإنعام, وعلى الجزاء
بالعدل, وهو الحميد في غناه, والغني في حمده.
وقوله -تعالى-: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي: إن يشأ يذهبكم أيها الناس, ويأت بغيركم من الناس أطوع لله منكم, فمشيئته غير قاصرة عن ذلك, فهي نافذة في كل شيء.
(وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)
أي: بممتنع ولا معجز, ورجح السعدي -رحمه الله- أن المراد بذلك: البعث
والنشور, وأن مشيئته نافذة في كل شيء, وفي إعادتكم بعد موتكم خلقـًا
جديدًا, ولكن لذلك الوقت أجل قدره الله, لا يتقدم ولا يتأخر.
إرشادات هامة مستفادة:
1- وجوب حذر العبد من التكثر بالمال, والعشيرة, والأنصار, والقدرة, والعلم, وغير ذلك.
2- أن ما عند العبد من مال, أو عشيرة, أو قوة, أو علم إلى غير ذلك إنما هو من نعم الله عليه.
3- وجوب شكر العبد لنعم الله عليه, وذلك بأداء حق الله فيها.
4- ذم الاستكبار, وهو من أخطر الأمراض التي تورد الإنسان موارد التهلكة.
5- التخلق بخلق التواضع.
6- إيثار الحياة الدنيا على الآخرة موجِب للطغيان.
7- استحضار الافتقار إلى الله -عز وجل- في كل وقت, وفي كل شأن من شئون العبد.
8- الطغيان أصله في القلب.
9- أن يسعى العبد دائمًا في علاج أمراض القلب.
10- الإيمان بمشيئة الله النافذة, وقدرته الشاملة.
11- الاستغناء الحقيقي يكون بالله وحده.
12- الإنسان مخلوق ضعيف يحتاج دائمًا إلى التقوي بربه -عز وجل-.
13- أن الله -عز وجل- هو الغَنِيُّ الغنى المطلق, فهو الذي أغنى الخلق في الدنيا والآخرة.
14- أنه -سبحانه- وحده هو المحمود على كل حال؛ لأنه هو الموصوف بصفات الكمال, ونعوت الجلال.
15- وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته, وتدبرها, والعمل بمقتضاها, فهي الطريق إلى معرفة العبد ربه.
والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد, وعلى آله, وصحبه أجمعين.
كتبه/ علي حاتم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالطغيان لغة: مجاوزة الحد.
واصطلاحًا: مجاوزة الحد في العصيان.
وللطغيان أسباب كثيرة، منها: المال, والعشيرة, والأنصار, والقدرة, كما أن هناك طغيانـًا في العلم إذا انضاف إلى كل ذلك حب الدنيا, وإيثارها على الآخرة.
وقد جمع قول "وهب بن منبه" بين طغيان المال, وطغيان العلم: "إن للعلم طغيانـًا كطغيان المال".
يقول "ابن الأثير":
"أي أن العلم يحمل صاحبه على الترخص بما اشتبه منه إلى ما لا يحل له,
ويترفع به على من دونه, ولا يعطي حقه بالعمل به كما يفعل رب المال".
وقد وصف الله -عز وجل- ذلك الإنسان الذي علم من نفسه أنه مستغنٍ عن الله بماله, وأنصاره, وعشيرته بأنه طغى. قال -تعالى-: (كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6-7), و"كَلا" هنا بمعنى حقـًا كما يقول المفسرون, أو هي كلمة ردع لمن كفر بنعمة الله عليه في طغيانه.
"والإنسان"
يراد به العموم على الراجح من قولي أهل العلم, والقول الآخر عند كثير من
المفسرين: أن الإنسان هنا إنسان واحد هو أبو جهل, ومع أن الآية الكريمة
نزلت فيه حيث كان يطغى بكثرة ماله, ويبالغ في عداوة النبي -صلى الله عليه
وسلم- فقد روي أنه قال -للنبي صلى الله عليه وسلم-: "أتزعم أن من استغنى
طغى, فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبًا؛ لعلنا نأخذ منها فنطغى, فندع ديننا,
ونتبع دينك, فنزل عليه جبريل -عليه السلام- فقال: إن شئت فعلنا ذلك, ثم إن
لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة, فكف رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- الدعاء إبقاءً عليهم".
نقول:
مع أن الآية نزلت في أبي جهل إلا أن العبرة بعموم النص, لا بخصوص السبب؛
لأن الله -تعالى- كما يقول الرازي: بيَّن أنه مع أنه خلق الإنسان من علق,
وأنعم عليه بالنعم التي ذكرت في أول السورة, إذا أغناه وزاد في النعمة
عليه؛ فإنه يطغى, ويتجاوز الحد في المعاصي لاتباع هوى النفس, وذلك وعيد
وزجر عن هذه الطريقة, والله -سبحانه- أكد على هذا الزجر بقوله: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق:، فتقع المحاسبة على ما كان فيه من العمل, والمؤاخذة بحسب ذلك.
والغِنى
كما يقول الشوكاني -رحمه الله-: "مطغٍ إلا من عصم الله"، وقد أفاض
الشنقيطي -رحمه الله- في التأكيد على أن الغنى وحده ليس موجِبًا للطغيان
إلا أن يصحبه إيثار الدنيا على الآخرة, واستدل -رحمه الله- على ذلك بأنه
قد وجد الكثير من الناس يستغنى ولا يطغى, فيكون لفظ الإنسان في الآية من
العام المخصوص, ولا يكون الاستغناء وحده هو سبب الطغيان, ولذا جاء في
السنة ذم العائل المستكبر؛ لأنه مع فقره يرى نفسه استغنى, فالاستغناء إذن
معنى في نفسه, لا بسبب غناه كما قال -عز وجل-: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:37-39)، فإيثار الحياة الدنيا هو الموجب للطغيان.
وكما في قوله -عز وجل-: (الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ . كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الهمزة:2-4), ومفهومه أنه من لم يؤثر الحياة الدنيا, ولم يحسب أن ماله أخلده لن يطغيه ماله ولا غناه.
وأكثر المفسرين يؤكدون على هذا المعنى, وهو أن الغنى وحده ليس موجبًا للطغيان, ولذلك يفسرون قول الله -عز وجل-: (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)
أي: رأى نفسه, ومعنى الرؤية العلم, أي علم نفسه مستغنيًا, ولذلك فإن جملة
"استغنى" مفعول ثان لرأى التي هي بمعنى عَلِمَ, وقالوا: إن ذلك لا يكون في
غير أفعال القلوب.
وضرب الشنقيطي -رحمه الله- أمثلة كثيرة على أن الغنى وحده لا يوجب الطغيان،
إنما الذي يوجبه ما يحدث في النفس من معاني الاستعلاء والاستغناء عن الله,
والاستكبار وإيثار الحياة الدنيا، وغيرها من الآفات التي تورد الإنسان
موارد الهلاك, وقد أشار -رحمه الله- إلى قول هارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص:78), كما أشار إلى قول ثالث الثلاثة من بني إسرائيل: (إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ) (رواه مسلم), وذلك بخلاف المسلم فلا يزيده غناه إلا تواضعـًا وشكرًا للنعمة كما قال نبي الله سليمان: (قَالَ
هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ
شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي
غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40).
وقد بيَّن الله في نفس السورة أنه -عليه السلام- شكر الله -عز وجل-؛ قال -تعالى-: (فَتَبَسَّمَ
ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ
الصَّالِحِينَ) (النمل:19).
وقد
كان في أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم- من هم من أصحاب المال
الوفير, فلم يزدهم ذلك المال إلا قربة لله كعثمان, وابن عوف, وغيرهم -رضي
الله عنهم-.
كيف النجاة إذن من الطغيان بكل أنواعه: طغيان المال, أو العشيرة, أو العلم, أو الجاه, أو القدرة؟
هو
في علاج النفس, هو في علاج القلب من تلك الآفات, وأن يشاهد العبد فقره في
كل حال من أمور دينه ودنياه, ويتضرع لله, ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة
عين, وأن يعينه في جميع أموره, وعلى العبد أن يستصحب هذا المعني في كل
وقت, حتى يفوز بالإعانة الكاملة من ربه الذي هو أرحم به من الوالدة
بولدها، قال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر:15-17).
قال ذو النون: "الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة, فكيف لا ووجودهم به؟!".
وقال سهل: "لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى, ولهم بالفقر, فمن ادعى الغنى حُجِب عن الله, ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه".
وقال الواسطي:
"من استغنى بالله لا يفتقر, ومن تعزز بالله لا يذل"، وعلى قدر افتقار
العبد إلى الله يكون غناه بالله, وكلما ازداد افتقارًا إليه ازداد غنى به.
وقال النسفي -رحمه الله- في شرحه للآية السابقة: "إن
الله لم يسمهم بالفقراء للتحقير, بل للتعريض على الاستغناء, ولهذا وصف
نفسه بالغَنِيِّ الذي هو مُطعِم الأغنياء, وذكر الحميد ليدل على أنه الغني
النافع بغناه خلقه, والجواد المنعم عليهم, إذ ليس كل غني نافعـًا بغناه
إلا إذا كان جوادًا منعمًا, وإذا جاد وأنعم حمده المُنْعَمُ عليهم".
ويقول الزمخشري:
"فإن قلتَ: لم عرَّف الفقراء -أي عرف الكلمة بالألف واللام-؟ قلتُ: قصد
بذلك أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء, وإن كانت الخلائق كلها
مفتقرة إليه من الناس وغيرهم؛ لأن الفقر مما يتبع الضعف, وكلما كان الفقير
أضعف كان أفقر, وقد شهد الله على الإنسان بالضعف في قوله: (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء:28), وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (الروم:54).
فإن
قلتَ: قد قوبل الفقراء بالغني فما فائدة الحميد؟ قلتُ: لما أثبت فقرهم
إليه, وغناه عنهم, وليس كل غني نافعـًا بغناه إلا إذا كان الغني جوادًا
مُنْعِمًَا, فإذا جاد وأنعم حمده المنعَمُ عليهم, واستحق بإنعامه عليهم أن
يحمدوه على ألسنة مؤمنيهم" الزمخشري "الكشاف".
إن
الله -عز وجل- يأمر العباد بطاعته, وينهاهم عن معصيته, لا لينتفع بطاعتهم,
ولا ليدفع الضر بمعصيتهم, بل النفع في ذلك كله لهم, وهو -سبحانه- الغني
لذاته الغنى المطلق.
ويقول السعدي -رحمه الله-:
"وقوله -تعالى- الحميد أي أنه من غناه -تعالى- أن قد أغنى الخلق في الدنيا
والآخرة, فهو الحميد في ذاته وأسمائه؛ لأنها حسنى, وصفاته لكونها عليا,
وأفعاله؛ لأنها فضل وإحسان, وعدل وحكمة ورحمة, وفي أوامره ونواهيه فهو
الحميد على ما فيه من الصفات, وعلى ما فيه من الفضل والإنعام, وعلى الجزاء
بالعدل, وهو الحميد في غناه, والغني في حمده.
وقوله -تعالى-: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي: إن يشأ يذهبكم أيها الناس, ويأت بغيركم من الناس أطوع لله منكم, فمشيئته غير قاصرة عن ذلك, فهي نافذة في كل شيء.
(وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)
أي: بممتنع ولا معجز, ورجح السعدي -رحمه الله- أن المراد بذلك: البعث
والنشور, وأن مشيئته نافذة في كل شيء, وفي إعادتكم بعد موتكم خلقـًا
جديدًا, ولكن لذلك الوقت أجل قدره الله, لا يتقدم ولا يتأخر.
إرشادات هامة مستفادة:
1- وجوب حذر العبد من التكثر بالمال, والعشيرة, والأنصار, والقدرة, والعلم, وغير ذلك.
2- أن ما عند العبد من مال, أو عشيرة, أو قوة, أو علم إلى غير ذلك إنما هو من نعم الله عليه.
3- وجوب شكر العبد لنعم الله عليه, وذلك بأداء حق الله فيها.
4- ذم الاستكبار, وهو من أخطر الأمراض التي تورد الإنسان موارد التهلكة.
5- التخلق بخلق التواضع.
6- إيثار الحياة الدنيا على الآخرة موجِب للطغيان.
7- استحضار الافتقار إلى الله -عز وجل- في كل وقت, وفي كل شأن من شئون العبد.
8- الطغيان أصله في القلب.
9- أن يسعى العبد دائمًا في علاج أمراض القلب.
10- الإيمان بمشيئة الله النافذة, وقدرته الشاملة.
11- الاستغناء الحقيقي يكون بالله وحده.
12- الإنسان مخلوق ضعيف يحتاج دائمًا إلى التقوي بربه -عز وجل-.
13- أن الله -عز وجل- هو الغَنِيُّ الغنى المطلق, فهو الذي أغنى الخلق في الدنيا والآخرة.
14- أنه -سبحانه- وحده هو المحمود على كل حال؛ لأنه هو الموصوف بصفات الكمال, ونعوت الجلال.
15- وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته, وتدبرها, والعمل بمقتضاها, فهي الطريق إلى معرفة العبد ربه.
والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد, وعلى آله, وصحبه أجمعين.