اليوم سنتحدث عن خلق من الأخلاق الإيمانيةالعالية،
ذلك الخلق الذي قال عنه العلماء إنه حياة القلب،
وبدونه يكون القلب ميتالا حياة فيه ولا خير يُرجى منه
إنه خلق الحياء.
ولقد علّمنا النبي أدق وأنبل صور الحياء، في المواقف الكبيرة وفي صغائر الأمور، وأدركنا من خلاله أن خلق الحياء من أخلاق الله التي أمرنا أن نتخلق بها ونعمل على أن نتخذها منهجا وسلوكا،
فإن تعجب حين نقول إن الله هو صاحب خلق الحياء فإننا نذكرك بالحديث المشهور الذي ورد فى سنن الترمذي عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن الله حَيِيٌّ كريم، يستحيي إذارفع الرجل إليه يديه أن يردهما صِفْرًا خائبتين".
والحياء المقصود من حديثنا اليوم هو الحياء من الله
أستحيي من أن يراني حيث نهاني أو أن يفتقدني حيث أمرني، أستحيي منه في قولي لعلميأنه السميع
وأستحيي منه في فعلى لعلمي أنه البصير وأستحيي منه فيما خفي في صدريلعلمي أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،
أستحيي منه في خواطري لعلمي أنه يعلم السر وأخفى. أستحيي منه في كل حركة وسكنة لأني أعلم أنه دائما معي وأنه سبحانه أحاط بكل شيء علما، فإن لم أكن أراه فإنه يراني.
والحياء له صور متعددة، فها هو رسولنا الكريم في مجلسه الشريف فإذ بثلاثة من المسلمين يدخلون عليه بين صحابته،
أولهم أدرك زحام المسجد لكنه كان يودأن يتمتع بقربه من رسول الله فغلبه هذا فظل سائرا حتى أدرك مكانا فجلس بين اثنين منصحابة رسولنا الكريم،
والآخر استحيا أن يتخطى رقاب الجالسين فالتزم بوجوده حيثانتهى به الصف
أما الثالث فوجد الزحام فرحل عن مجلسه صلى الله عليه وسلم.
ومن هذاالموقف قال صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح البخاري: "ألا أخبركم بالثلاثة؟قلنا: بلى.. قال:
أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله -أي رحمه الله-
وأما الثاني فاستحيا فجلس فاستحيا الله منه -أي استحيا أن يعذبه-
وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه
فما أعظم الحياء وما أعظم جزاء من يتخلقون به، وكيف لا نستحيي ممن خلقنا ورزقنا وأطعمنا وسقانا بعد أن أوجدنامن عدم
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا}..
إن الإنسان السوي الخلق ليستحيي من الله الذي أعطاه من كل شيء ولم يطالبه بشيء سوى أن يتحقق بإنسانيته ويتحقق بعبوديته بعد ما هيأ له كل أسباب الحياة الطيبة:
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيِنِ
نعصاه فيمهلنا،ولا يقطع رزقه عنا، فإذا طغينا صبر علينا ونادانا أن عودوا إليّ
{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}..
وفي "مستدرك الحاكم" وهو أحد كتب الأحاديث،
ورد عن سيدنا عمر بن الخطاب قوله: "إن الحياء والإيمان قرينان، فإذا رفع العبدأحدهما رُفع عنه الآخر".
وفى سنن ابن ماجه عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"الإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أوْ سَبْعُونَ بَابًا أدْنَاهَا إمَاطَةُالأذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَأرْفَعُهَا قَوْلُ لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَالْحَيَاءُشُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"..
ذلك لنعلم أن الحياء مقياس الدين والقرب من الله.
ولنعلم أن الفطرة السليمة جُبلت على الحياء،
وأود أن أختتم حديثي عن الحياء من الله بقصة هذا الرجل المؤمن "أبو بكر المسكي" -رضي الله عنه-
وقد كان رجلا بهيّ الطلعة أخذ من الجمال الكثير. وكانت النساء يتحدثن عنه ويفتتنّ به، فأرادت امرأة أن تمكر به؛ ليواقعها منشدة فتنتها به.
فكيف تستدرجه لتدخله منزلها؟
لقد أوصلتها الحيلة لأن تنتظر مروره بجوار دارها ثم تصرخ ليظن أن مكروها أصاب أصحاب الدار فيدخل لنجدتهم،
وبالفعل حدث هذا فأبت عليه إلا أن يواقعها في الحرام، وهددته إن لم يفعل لتقولن للناس إنه دخل ليعتدي عليها وتفضح أمره.
فماذا يفعل وهو الذي يستحيي أن يراه الله في هذه المعصية؟
طلب منها أن يدخل الخلاء ليتطيب، وبعد أن دخل أخذ يلطخ وجهه بفضلات البشر. ثم خرج لها برائحة كريهة
فإذا بها تصرخ في وجهه وتطلب منه أن ينصرف من دارها
.
يقول أبو بكر: فخرجت من بيتها ورائحتي نتنة، ثم اغتسلت وما زالت الرائحة لا تخرج مني
،
ثم نمت وأنا أشعر بأذى في نفسي وبدني فإذا بي أرى في منامي رجلا يقول لي:
"قد تأذيت منأجلنا فإن سنعطرك إلى يوم القيامة"..
فاستيقظت ورائحتي المسك فسموني أبا بكرالمسكي
فاللهم ارزقنا الحياء منك في كل حركة وسكنة ونظرة وخاطر
..
ارزقنا الحياء منك فيما نعلم وما لا نعلم وما أنت به أعلم..
إنك أنت الأعز الأكرم.