بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا .
وهذه النعم كثير منها ظاهر مشاهد محسوس يشعر بها العبد ويكثر من ذكرها والثناء بها على مسديها والمنعم بها. لكن هناك بعض النعم غير مشاهدة ولا محسوسة لا يشعر بها ولا يدرك قيمتها إلا خواص الناس وعقلائهم لخفائها وكثرة وقوعها.
ومن هذه النعم العظيمة التي لا يفطن إليها نعمة الوقت فهو كنز ثمين ضائع عند كثير من الخلق ومفقود عند أهل البطالة والكسل كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ .رواه البخاري.
إن كثيرا من الناس اليوم مضيع لقيمة الوقت غير مكترث بأهميته يقضيه باللهو والكسل والنزهة واللقاءات الفارغة من كل فائدة وإذا تأملت في حياته لم تجد أي برامج أو أنشطة مفيدة.
أسباب تضييع الوقت والاستخفاف به:
1- الجهل بقيمة الوقت وقدره وعظم منزلته.
2- عدم إدراك منافعه والآثار الحسنة المترتبة على استغلاله.
3- عدم معرفة حقيقة الدنيا والركون إليها.
4- طول الأمل والاغترار بالصحة والغنى.
5- نسيان الموت والذهول عن أهوال القيمة وأحوال الآخرة وشدة الحساب.
6- رفقة أصحاب السوء وأهل البطالة الذين لا يقيمون للوقت وزنا ولا يحسبون له أي حساب.
قال ابن مسعود رضي الله عنه (إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا ليس في شي من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة) .
وأعجب من ذلك أن تجد كثيرا من شباب اليوم يحس بثقل الوقت وملله ويشتكي من ذلك ويشعر بالفراغ ويحاول جاهدا أن يقتل هذا الفراغ ويتخلص منه بسفاسف الأمور ولم يدر هذا المسكين هداه الله أن أهل الآخرة يندمون ويتحسرون على كل ساعة ومجلس مر عليهم من غير أن يذكروا الله فيه
كما روي في سنن أبي داود عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
(ما جلس قوم مجلسا فتفرقوا عن غير ذكر الله عز وجل إلا تفرقوا عن مثل جيفة الحمار وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة).
وقال تعالى (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ).
وهذا فيمن أضاع وقته باللهو الذي لا فائدة فيه فكيف بمن أفناه في ارتكاب الآثام ومقارفة الكبائر والسهر على معصية الله وتضييع الفرائض.
إن المؤمن الحق لا ينقطع عن الذكر والعبادة ولو كان في نزهة لأنه مؤمن أن الله سائله عن هذه النعمة ومحاسبه عليها هل أدى شكرها أم لا.
قال الحسن البصري : أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم
قال بعض السلف: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره...كيف يفرح من يقود عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى موته .
والناس في استثمار الوقت أقسام:
1- قسم استثمرالوقت في إصلاح الدنيا وكسب المعاش وصرف همته وجهده لذلك ولم يلتفت ألبته إلى إصلاح آخرته وفرط في الطاعة الواجبة وأعرض عن ربه فهذا حاله كحال الكفار الذين عمروا دنياهم وخربوا آخرتهم
2- وقسم استثمر وقته في إصلاح دينه ودنياه لكن صرف جل وقته وجهده في طلب الدنيا والتكثر منها وجعل اليسير لدينه وقام بالواجب منه فهذا على خير وإن كان مقتصد في عمل الآخرة.
3- وقسم استثمر وقته في إصلاح دينه ودنياه لكن صرف جل وقته وجهده في طاعة ربه والتزود من الصالحات والمسابقة في الخيرات وصرف القليل من وقته في إصلاح دنياه والحصول على قوته واستغناءه عن الخلق فهذا هو خير الأقسام وهذه طريقة الأنبياء والصالحين.
قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .
4- وقسم لم يستثمر وقته في أمر نافع وضيع وقته في السيئات والأعمال التافهات فلا دينا أقام ولا دنيا أصلح وكان عالة على غيره حملا ثقيلا على أهله فهذا حاله كفقير النصارى الذي ما أصاب دنيا ولا صلحت آخرته وهذا هو شر الأقسام.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على استثمار وقته كله ليلا نهارا في طاعة الله ومرضاته يبتدأ يومه بصلاة الفجر ثم يمكث في المسجد يذكر الله ثم ينصرف في قضاء مصالح المسلمين والدعوة إلى الله ثم يصلي الظهر ويقيل ثم يزور أزواجه عصرا يتفقدهم ويمكث عند من كان يومها ثم يصلي المغرب والعشاء في المسجد ويصلي النوافل في البيت ويصلي من الليل ما كتب له
ومع ذلك كان مشتغلا سائر الوقت بالجهاد وتعليم الخلق ووعظهم وإرشادهم ونفعهم وقضاء حوائجهم وعيادة مريضهم وإجابة دعوتهم وتفقد ضعيفهم ومواساة فقيرهم وكان يتطوع بالنوافل من صوم واعتكاف وغيره.
وهكذا كان حال السلف الصالح رضوان الله عليهم يعتنون بنعمة الوقت ويشغلونه بالطاعة ووجوه الخير
إلى درجة أن كان أحدهم لا يخاف قدوم الموت عليه لكثرة استعداده له في كل حال.
قال الحسن البصري: أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم .
قال معاذ رضي الله عنه : أما أنا فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي . رواه البخاري.
إن أعظم ما يجعل المؤمن مهتما بالوقت معظما لشأنه التأمل والتفكر في حقيقة الوقت في كونه إذا انقضى وذهب لا يرجع أبدا.
قال ابن عمر: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك .رواه البخاري.
وكذلك اليقين بأنه محاسب يوم القيامة على نعمة الوقت والقيام بشكرها وفيما شغله بخير أو شر بحق أو باطل كما يحاسب على المال والصحة وغيرها من النعم
كما روى معاذ بن جبل رضى الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به . رواه الترمذي.
وكذلك النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوال أهل الهمم العالية والعزائم الكبيرة ودراسة سيرهم وتراجمهم يورث المرء نشاطا كبيرا في اغتنام الوقت ويوقظ فيه الهمة ويجعله يشعر بالأسى والندم على كل وقت ضاع بلا فائدة.
قال حماد بن سلمة
ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعا إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصليا وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئا أو عائدا مريضا أو مشيعا جنازة أو قاعدا في المسجد.
قال :فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل
وكان أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله يقول:
إنني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة وتعطل بصري عن المطالعة أعملت فكري في حال راحتي وأنا منصرف، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره
وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاث أجزاء الثلث الأول يكتب والثلث الثاني يصلي والثلث الثالث ينام
ولما حضرت أبا بكر بن عياش الوفاة بكت أخته فقال : لا تبكي وأشار إلى زاوية في البيت فقد ختم أخوك في تلك الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة .
ومما يورث العبرة والعظة في هذا الباب التفكر في أحوال أهل الغفلة والبطالة الذين أمضوا حياتهم في اللهو والباطل والمنكرات ويظنون أنهم في سعادة وهم في الحقيقة قوم مفاليس يسعون وراء سراب ومتعة زائلة
كما قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
وإن تعجب منهم فعجب زعمهم أنهم يحييون الليالي بالمعازف والرقص واللهو المحرم والأحق أن فعلهم إماتة وإفساد للوقت وإهدار لقيمته وإنما الإحياء المحمود هو قضاء الليالي بالصلاة والذكر والاستغفار والثناء والدعاء والعلم.
إن الأسرة الصالحة والوالدين لهما أثر عظيم في تربية الأولاد على الاهتمام بعنصر الوقت وإدراك قيمته من خلال النصائح وإشغالهم بالأنشطة والبرامج المفيدة ومتابعتهم في ذلك وتعزيز قدراتهم على تنظيم الوقت واستثماره في أفضل الأعمال ووضع الحوافز المعنوية والمادية في سبيل تحقيق ذلك.
من فرط يمكنه التدارك وإحسان العمل قبل فوات الأوان وانقطاع الأجل والخروج من الدنيا.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي