هذا الكتاب هو رسالة إليه .. وإليها
ودعوة له.. ولها.. فكما أنه حريص على الخير.. فهي حريصة عليه أيضاً.. وقد أمر الله المؤمنين والمؤمنات بالتسابق إلى الخيرات.. ووعدهم على ذلك بالجنات.. وهذا الكتاب.. محاولة لبيان الطريق إلى تلك الجنات ..
فيه عبر وهمسات.. للتائبين والتائبات.. عبرة بخبر شاب صارعته الأمراض.. وأخرى بقصة فتات ولغت في الملذات.. وأخبار عن المتعلقين بالشهوات.. ووقفة مع المغترين ب ( الخنفشاريين ).. ونصح لمن شابه المشركين..
وكلمات حول قيام الليل والإكثار من الذكر.. وهمسات حول العشق وغض البصر.. ولمحة حول بر الوالدين.. وإشارة بأهمية الدعوة ونشر الدين ..
هي كلمات تنتفع بها الفتيات.. في المجالس والمدارس والكليات..
وينتفع بها الشباب.. في المدارس والجامعات.. أسأل الله أن يجعلها رسالة من القلب إلى القلب.. وأن يصفيها من درن الرياء والسمعة.. وأن ينفع بها .. ويجعلها سبب هداية لمن قرأها..
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد..
نعم.. أكثر الناس يحرصون على الوظائف.. ويتسابقون إليها..
فما يُعلن عن وظيفة شاغرة إلا ويتسابق إليها الآلاف..
ولكن هناك وظائف شاغرة.. وظائف ربانية.. عرضها الله تعالى على العالمين.. لا يوفق إليها إلا من أحب.. قال r : } إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله قبل موته.. فسأله رجل من القوم ما : استعمله يا رسول الله ؟! قال r يوفقه الله عز وجل إلى العمل الصالح قبل موته ثم يقبضه على ذلك { (1).. ولهذا.. كان الصالحون يتحسرون على فواتها..
وانظر إلى رسول الله r وهو يحدث أصحابه عن يوم القيامة.. ويخبرهم.. أن من أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب..
فيعجب الصحابة بهذا الفضل العظيم.. ويقفز عكاشة بن محصن t .. سريعاً.. يبادر الموقف وينتهز الفرصة قبل أن تفوت..
ويقول : ( يا رسول الله أدعْ الله ان يحعلني منهم .. قال : ( أنت منهم ).. ويفوز بها عكاشة.. ثم يغلق الباب.. ويقال لمن بعده : سبقك بها عكاشة.. نعم.. كانوا يعيشون حالة سباق في جميع أبواب الخير..
وأنت ترى نفسك لا تهشّ إلى مسابقة الأخيار في ميدان العمل الصالح.. فحاسب نفسك.. فلعل ذنوبك هي السبب..وتذكر أولئك.. الذين كرههم الله فلم يستعملهم في خير أبداً.. قال الله تعالى عن المنافقين :
﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين .. ﴾
وقد اجتهدت في جمع بعض الوظائف ذات الأجور العظيمة.. ونثرتها في هذه الورقات.. فما كان فيها من صواب فهو من توفيق الله وإحسانه وفضله.. وما كان فيها من خطأ فهو من نفسي والشيطان.. وأنا تائب إلى الله ومستغفر منه.. وقابل للتنبيه والنصح.. وشاكر وداع لمن أشار ونصح..
في مساء ليلة شاتية.. رن جرس الهاتف..
رفعت السماعة فإذا هو صوت عبد الله..
نعم.. عبد الله.. قد تخرج من الكلية في العام الماضي , وانقطعت العلاقة بيننا منذ ذلك الحين..
ما إن سمعت صوته , حتى استعادت ذاكرتي ذاك الوجه البهيّ والجسم الممتلئ
شباباً..
- حياك الله يا عبد الله.. مرحباً.. كيف حالك.. ما أخبارك.. ما..
قاطعني بصوت ضعيف :
- تذكرتني يا شيخ ؟
- نعم.. وكيف أنساك
لم يتفاعل مع عباراتي , ولم يبدُ منه تجاوب , لكنه قال بصوت ضعيف : أريدك أن تزورني في البيت.. ضروري.. هاه!.. أنا لا أستطيع زيارتك.. لا تسألني لماذا! إذا جئتني عرفت السبب!
قال هذه العبارات بصوت خافت حزين.. لكنه كان بنبرة جادة.. وصف لي طريق منزله.. طرقت الباب.. فتح لي أخوه الصغير..
- أين عبد الله؟
- عبد الله.. في المجلس.. تفضل..
مشى الصغير أمامي , وفتح باب المجلس,فلما دخلت المجلس دُهشت.. ماذا أرى!! عبد الله على سرير أبيض.. بجانبه عكاز.. وجهاز يُلبس في الرّجل لأجل المشي.. ومجموعة من الأدوية.. أما هو فجسد ملقى على السرير..
قال لي مُرحِّباً وقد حاول جاهداً أن يقف على قدميه للسلام..
- حياك الله يا شيخ.. حياك الله.. كلفناك وأتعبناك..
- لا.. لم تتعبني في شيء.. عفواً لم أعلم بمرضك من قبل.. ولكن ماذا أصابك؟ ماذا حدث لك ؟ ألم تتخرج من الكلية؟ ألم تكن تحدثني أنك سوف تتزوج , وسوف.. وسوف..
- نعم , ولكن ما حدث لم يكن في حسباني..
تخرجت من الكلية قبل أشهر معدودة كما تعلم , وأصابني ما يصيب الشباب عادة من الزهو والفرح بالتخرج.. وبدأت مشوار الحياة الجديدة.. فتحت كتاب مستقبلي المزهر ورُحت استمتع بتقليب صفحاته وأحلم بأيامه السعيدة..
ومضت الأيام السعيدة سريعة.. لا يكدر صفوها إلا صداع بسيط كان ينتابني في بعض الأوقات.. ومع مضي الأيام بدأ هذا الصداع يزداد شدة وألماً.. لكن الأدوية المسكنة كانت كفيلة بالقضاء عليه.. ومضت الأيام على هذا الحال وقد تعوّد رأسي على هذا الصداع حتى صرت أنساه في كثير من الأحيان مع شدته وألمه.
لكن شدة هذا الصداع بدأت تزداد وتزداد.. وبدأ يصاحب ذلك ضعف في النظر.. حتى اشتدّ ذلك عليّ في إحدى الليالي.. فذهبت إلى قسم الطوارئ في أحد المشتسفيات.. شاكياً مما أصابني من صداع وضعف في النظر.. فلما قابلني الطبيب المختص,عمل لي التحاليل والأشعة اللازمة ,ثم قال لي :
- نحتاج إلى إجراء أشعة مقطعية دقيقة لرأسك , وهذا غير متوفر حالياً في المستشفى.. اذهب إلى مستوصف خاص واعمل هذه الأشعة ثم ارجع إليّ بها.. وحاول أن يكون ذلك سريعاً!..
خرجت يتملكني الوجل تارة.. والاستغراب تارة أخرى.. هذا الطبيب! لماذا يتعبني هكذا؟ كان الأحرى أن يعطيني مسكناً للصداع.. أو قطرة للعين.. وينتهي الأمر.. وجعلت أشاور نفسي : هل أهمل الطبيب وأشعته.. وأشتري دواءً بخمسة ريالات يسكن هذا الصداع وأذهب للبيت وأنام ؟ أم أعمل الأشعة التي طلبها وأنظر على ماذا ينتهي الأمر.. لكني مع كل هذه الخواطر ذهبت إلى ذاك المستوصف وأجريت الأشعة.. ثم رجعت إلى الطبيب, أحمل بين يديّ أوراقاً لا أفهم شيئاً من رموزها..
- تفضل يا دكتور.. هذه الأشعة التي طلبت.
لبس الطبيب نظارة سميكة على عينيه.. أخذ يقلب الأوراق بين يديه.. تغير وجهه.. وسمعته يقول:لا حول ولا قوة إلا بالله.. ثم رفع بصره إليّ وقال :
- استرح.. اجلس..
- بشّر يا دكتور.. خيراً إن شاء الله؟
- خيراً.. إن شاء الله.. خيراً..
وظل صامتاً لا يرفع بصره إليّ! ثم رفع سماعة الهاتف, وبدأ بالاتصال على مجموعة من كبار الأطباء يطلب حضورهم!! ما هي إلا دقائق حتى اجتمع عنده ستة أو سبعة منهم.. بدؤوا جميعاً يقلبون نتائج التحاليل.. يتأملون صور الأشعة.. ويتحدثون باللغة الإنجليزية , ويسارقونني النظر..
مضت قرابة ساعة على هذه الحال.. وأنا في حال لا أحسد عليه..
بدأ يمرّ في عقلي شريط ذكرياتي.. أخذت أستعرض سجل حياتي.. بل مستقبلي.. ترى ما بالهم يتناقشون؟ ما بال الطبيب اهتم كل هذا الاهتمام..
ثم رحت أطمئن نفسي وأقول لها:هؤلاء الأطباء يُكبرون المسائل دائماً.. كل منهم يريد أن يستعرض قواه.. تحاليل..! أشعة..! اجتماعات..! والمسألة حلها سهل:حبة أو حبتان من ال(بندول) مع قطرة للعين,وينتهي كل شيء!!
ظللت أنظر إلى الأطباء محاولاً أن أفهم شيئاً مما يقولون,ولكني مع تركيزي الشديد لم أفهم كلمة واحدة.. بدأت نقاشاتهم تهدأ وتهدأ.. ثم خيم الصمت عليهم..
خرج أحدهم من العيادة وتبعة آخر.. فثالث.. حتى لم يبق إلا اثنان..
قال لي أحدهما :
- اسمع يا عبد الله ! أنت أكبر من أن نقول لك أحضر والدك!!
- خير إن شاء الله يا دكتور.. ماذا تقصد؟!
فقال بأسلوب حازم:
- التقارير والأشعة تدل! على وجود ورم في رأسك , حجمه يزداد بسرعة مُخيفة , وهو الآن يضغط على عروق العين من الداخل , وفي أي لحظة يمكن أن يزداد هذا الضغط.. فتنفجر عروق العين من الداخل.. فتصاب بالعمى.. ثم تصاب بنزيف داخلي في الدماغ ثم تموت!!..
ثم سكت الطبيب.. نعم سكت.. لكن كلمته الأخيرة بدأت تتردد في أذني.. تموت.. تموت.. يا للهول.. ما أقسى هذه الكلمة.. ما أشد وقعها على النفس.. أموت.. نعم أموت.. لكن شبابي.. رواتبي.. وظيفتي.. أمي.. أبي.. أموت!!
صحت بأعلى صوتي..
يا دكتور!!.. ماذا؟.. كيف؟.. متى؟.. ورم؟.. كيف ورم؟.. متى ظهر عندي؟.. ما سببه؟.. وأنا في هذه السن؟.. أعوذ بالله؟ ورم؟.. سرطان؟.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
- نعم , ورم.. ولا بدّ من علاجه بسرعة , كل دقيقة.. بل كل ثانية تمرّ.. ليست في صالحك.. الليلة ندخلك المستشفى ونكمل التحليلات الللازمة , وفي
الصباح – إن شاء الله – نفتح رأسك ونخرج الورم..
قال الطبيب هذه الكلمات بكل حزم.. وبرود..
قالها وهو يمسح نظارته ويقلب نظره في أوراق بين يديه..
أما أنا فلم أكن أستمع إليه بأذني فقط بل أظن أن جسدي كله قد تحول في تلك الساعة إلى أذن تسمع وتعي..
استمر الطبيب في كلامه..اصبر.. واحتسب.. لست الوحيد الذي تجرى له مثل هذه العملية.. أناس كثيرون أجريت لهم وشُفوا بإذن الله.. وأنت شاب مؤمن وعاقل,لا يحتاج مثلك إلى تصبير وتثبيت.. واصل
(1) صحيح.رواه الإمام أحمد وغيره.