الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين. وبعد..
معلوم أيها الإخوة أن فاتحة الكتاب سورة عظيمة، جُعلت في بداية كل ركعة لحكم كثيرة، من ضمنها أن لها بالغ التأثير في سير الصلاة ككل، فمن قرأها بتريث، وأدرك معاني كلماتها عند تلاوتها كلمة كلمة، وحاول تذوق تلك المعاني والربط بين الآيات، فمثل هذا قد قطع شوطا كبيرا في تسهيل عملية الخشوع في صلاته، أما من تسرع فيها سرعة مخِلة.. وتجول بفكره عند تلاوتها فعليه تدارك الموقف قبل انقضاء الصلاة..
اِستحضر -رعاك الله- عند قولك {بسم الله الرحمن الرحيم} أنها بمعنى: "أبتدئ بكل اسم لله تعالى" (تفسير العلامة السعدي ص39) فتخيل عظمة بدايتك بكل اسم لله تعالى وأي خير ذاك وأي فضل.. ثم يُخصَّص من كل أسمائه سبحانه "اسمان دالاّن على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمت كل حي" (نفس المصدر) "أما {الرحمن} فدال على الصفة القائمة به سبحانه، و {الرحيم} دال على تعلُقِها بالمرحوم. فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله {وكان بالمؤمنين رحيما} ولم يجئ قط رحمن بهم" (بدائع الفوائد للإمام ابن القيم)
فانطق بالبسملة بتريث حتى تستقر معانيها في وجدك..
"{الحمد لله} هو الثناء على الله بصفات الكمال"(السعدي)، فتجد "تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب فعلا ووصفا واسما، وتنزيهه عن كل سوء وعيب فعلا ووصفا واسما، وإنما هو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه منَزه عن العيوب والنقائص.. فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، لا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال وأسماؤه كلها حسنى" (أسرار الصلاة للإمام ابن القيم ص78/79)
" {رب العالمين} الرب: هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه لهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة" (السعدي)
فالرب هو الخالق الرازق المدبّر، والعالمين هم كل من سوى الله من ملائكة وإنس وجن وحيوانات وحشرات ونباتات وأفلاك وغيرها.. ولكنه سبحانه اختص أولياءه بتربية خاصة "فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له، ويكمله لهم.. وحقيقتها تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر.." (السعدي)
{الرحمن الرحيم} مرت معنا في البسملة.. وفي تكرارها إشارة لطيفة جميلة؛ فعندما ذكر سبحانه أنه هو رب العالمين، أردف هذا الإخبار بأن هذه الربوبية ربوبية رحمة، لأن ذكر الربوبية قد يُتوقع معه أنها ربوبية قهر وتسلط.. فتأمل.."{مالك يوم الدين} المالك هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويُثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم يُدان الناس فيه بأعمالهم خيرها وشرها، لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق.." (السعدي)
{إياك نعبد وإياك نستعين} بمعنى نخُصك وحدك بعبادتنا فلا نعبد إلا أنت، كما نخصك وحدك باستعانتنا فلا نستعين إلا بك، "والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة" ( شيخ الإسلام بن تيمية) " والاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.. والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية والنجاة من جميع الشرور.." (السعدي). وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، هو لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يعنه الله لن يقوى على فعل الأوامر، واجتناب النواهي.. ثم إن في العبادة إشارة لتوحيد الإلهية لأنها من مستلزماتها، وفي الاستعانة إشارة لتوحيد الربوبية..
"{إهدنا الصراط المستقيم} أي دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله وجنته، وهو معرفة الحق والعمل به" (السعدي) والهداية نوعان، مجملة وهي الهداية إلى الإسلام بالاستمرار في لزومه، وهداية تفصيلية هي الهداية إلى الحق ولزومه في تفاصيل الإسلام من أركان وشعائر وغيرها..
{صراط الذين أنعمت عليهم} وفي القرآن آية تفسر من هم الذين أنعم الله عليهم وهي قوله تعالى {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}(النساء:69) وقد أنعم الله عليهم كذلك عندما وفقهم للزوم الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه..
{غير المغضوب عليهم}. أما المغضوب عليهم، فهم كل من تبين لهم الحق وعلموه ولم يتبعوه، ومثالهم اليهود.. فنحن ندعوا الله تعالى أن يحفظنا من أن نسلك مسلكهم فيغضب علينا كما غضب عليهم.. ولم يقل "غير صراط المغضوب عليهم" لأنهم لا صراط لهم أصلا! بل هم أتباع سُبل الباطل والأهواء وشياطينها..
{ولا الضالين}. والضال هو كل من ضل عن الحق لأمرين، الأول أنه جهِله، والثاني أنه لم يُكلف نفسه عناء البحث، فلو فعل لهداه الله تعالى- إن شاء سبحانه-، خصوصا أن الحق واضح أكثر من وضوح الشمس.. فعاش في ضلال أكثر من ضلال الأنعام.. ومثالهم أغلب النصارى ومن سلك مسلكهم..
والأصناف الثلاثة المذكورة هي الموجودة على مر الزمان، إما مهديين- نسأل الله أن نكون منهم-
أو مغضوبا عليهم أو ضالين.. فانظر -رعاك الله- لعظمة هذه المعاني، ومدى تأثيرها على خشوعك إذا أحسنت التأمل فيها وحرصت على الاستمرار في ذلك..
أما الآن أيها المتأمل، فخذ لك نفسا عميقا.. وأعد قراءة الفاتحة مع استحضار المعاني السابقة.. وستلحَظ الفارق بين تلاوتك السابقة وبين تلاوتك بعد تدبر المعاني! وأعد قراءة هذا النص كلما بدأ يتسرب إليك النسيان حتى تتركز المعاني في قلبك. والله أسأل التوفيق لخير الأعمال..
منقول