داعية فاشل.. لماذا؟!
هذه كلمات لكل من يصدع بالدعوة إلى الله، ثم يقلب ذات يوم كفيه، وينظر في أمره بعد سنين من الدعوة- كما يظن- فلا هو غير شيئاً فيمن حوله، ولا أضاف شيئاً، ولا أنقص شيئا، بينما يحالف
التوفيق غيره خلال مدة قليلة، فترى الناس التفت حوله، واجتمعت عليه، وسمعت كلامه، فسبحان الذي مَنَ
على أفضل خلقه بمحبة الناس له، وتوددهم إليه.
الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- تُبتلى من حين لآخر بمن يفرضون أنفسهم عليها دون أن يكونوا أهلاً لدعوة ولا
لصحبة ولا حتى لكلمة واحدة تقال في مجال الوعظ بين الناس.
والله -سبحانه وتعالى- لا يوفق لهذه الدعوة من لم يحكموا بينهم وبين غيرهم بالإنصاف، أما الذين يرفعون أو
يميزون أنفسهم قليلاً عن الناس، فهؤلاء مرفوضون لا شك وإن اغتر بهم الناس لمدة ما، فهذه هي الدعوة الوحيدة التي لا تقبل في صفوفها إلا من جعل من نفسه سهلاً منبسطاً للناس، وقبل منهم الطبائع
المختلفة، وسعى في خدمتهم والسؤال عنهم دون أن يرى بذلك أي فضل لنفسه، ودون أن يطلب منهم أي جزاء مادي أو معنوي.
الدعوة إلى الله سر؟؟
نعم الدعوة إلى الله سر، لكنه سر غير خفي، على أنه رغم وضوحه لا يُوفَّقُ إليه غير القليلين القليلين، ممن
توافرت فيهم صفات كثيرة، وهذه بعض أسرارها الخفية
الظاهرة:
من جميل هذه الدعوة أنها تعطي صاحبها طالما تعفف، فإذا تطلع إلى شيء من الكسب أو التكسب
منها، نفرت منه الدعوة ونفر منه المدعوون.
وأنها ترفعه طالما تواضع للناس، فإذا رأى لنفسه شيئاً من الفضل، نبذته الدعوة وتخلصت منه قبل المدعوين..
وأنها تجعل الناس في خدمته طالما كان خادماً للناس، فإذا طلب من الناس خدمته نفروا منه وتركوه ونسوا كلامه..
وأنها تجعله مطاعاً مسموع
الكلام طالما كان مطبقاً لما يدعو إليه، فإذا تحول إلى مُنظِر لا يفعل ما يقول، ولا يلتزم بما يدعو إليه، فلا سمع ولا طاعة بل لا ود ولا محبة..
وأنها تجعل كلامه محبوباً طالما
تجنب التشدق والتعجرف والكلام عن نفسه، فإذا طلب تنميق الكلام وزخرف القول، صار واحداً من خطباء
الكلام يخاطب الأسماع، لكن كلماته لا تصل إلى القلوب...
الأخ الداعية..الأخ الخطيب أو الواعظ.... اسمع كلمات تخرج من قلبٍ مشفق محب، لم يجمعه بك غير الحب لهذه الدعوة، وحب الخير للناس:
هذه الدعوة مدرسة عظيمة.....
لا يوفق إلى دخولها إلا المخلصون،
ولا يستمر فيها إلا الأشد إخلاصاً،
ولا يتخرج منها إلا من لا يرون لأنفسهم أي فضل،
ولا يتميز من خريجيها إلا من يرون الفضل لكل أحد من الناس إلا لأنفسهم..
إذا فتشت نفسك بعد طول وعظ وإرشاد فما وجدت لنفسك مكاناً في قلوب الناس، وما وجدت لكلامك
صدى في أفعالهم وأقوالهم، فجدير بك أن تقف مع نفسك وقفة صدق تسأل فيها عن السبب أو عن الأسباب..
كيف تفهم من أنت في قلوب الناس؟؟
إن من جميل الأمور أن العامة لا يخفون مشاعرهم، أو لا يمكنهم إخفاؤها، فإن كان فيهم مدارٍ واحد ففيهم الكثيرون
من المفطورين على الإفصاح بمكنونات أنفسهم دون مواربة، وهذا قد يكون جارحاً في بعض الأحيان، لكنه من أصدق المعايير وأوضحها..
هناك موهبة جميل بالداعية إلى الله أن يمتلكها، وهي قراءة القلوب، وقراءة القلوب تعني فهم ما يشعر به الناس نحو
هذا الداعية، هل يحبونه أم يبغضونه أم لا يبالون به؟ وبما أن القلوب لا يعلم أمرها إلا الله، فعليه أن يقرأها من خلال علامات الوجوه وزلات الألسنة، فهذه من الصعب إخفاؤها.
فإذا رأيت من العامة الحب لك والتعلق بكلامك، ومحاولة تطبيقه فاعلم أنك في فضل من الله، فاسع إلى المزيد منه،
بالإخلاص التام في القول والعمل.
أما إذا رأيت منهم الجفاء عنك والإعراض عن كلامك ففتش: من أنت؟ وما تقول؟ وما تفعل؟
نعم من أنت؟؟ هل أنت حقاً
داعية إلى الله بحق أم أنك تجرب أن تضيف إلى نفسك موهبة الخطابة بين الناس؟؟
وما تفعل؟؟ هل أفعالُك تسبق أقوالك، أم أنك لا تجعل صلة بين هذه وتلك؟؟
بعد هذا هناك أمور جدير بالداعية الإنتباه لها تخص الخطبة نفسها منها:
إياك أن تجعل من نفسك موضوع الحديث!!!
بعض الكلمات قد لا تكون مدحاً مباشراً للنفس، لكنها تفصح عن اعتداد كبير بها، وهي مزعجة للسامع،
منفرة من الخطيب ومنها، على سبيل المثال: أنا أعلم أن بعضكم يفعل كذا، بلغني أن أحد الناس قال عني كذا،
رأيي أن، أنا أقصد كذا، أنا لا أخاف أحداً في الله، وغيرها كثير كثير..
التعريض بالناس ممنوع:
بعض الخطباء يعرضون بالناس أو ببعضهم بعد حوادث معينة، ويظنون أنهم ببعض المواراة لن يعرف أحد من يقصدون،
فيتكلمون بكلام جارح فاضح، ويظنون أنهم يحسنون صنعاً، وهكذا يتناقص المستمعون حسب الظروف؛
لأن الخطيب المفوه، لا يترك فرصة للتعريض بالناس والتنديد بأخطائهم..
لا تتكلم في الهلاميات والفلسفات والكلام غير المفهوم:
وهذه مسألة صار لبعض الناس شغف بها، فهم مولعون بالتفصح الذي يصل إلى الكلام غير المفهوم، وبعضهم
يلجأ إلى كتب الأدب ليحفظ منها العبارات الغريبة العجيبة، ليظهر للناس أنه قادر على الإتيان بكلام لا يستطيعون فهمه، وحبذا لو نظر هؤلاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقد أوتي جوامع
الكلام، ومع هذا فكلامه يفهمه البدوي والحضري، والمتعلم والأمي، والشاب والعجوز.
لا تكلف الناس بما لا يطيقون:
لا ينبغي للخطيب أن يكون مثالياً إلى درجة السذاجة، فيطالب الناس أن يكونوا ملائكة لا يخطؤون ولا يزلون،
بل إن من الحكمة والواقعية توقع الأخطاء والزلات، والتعامل معها بسمو وبعد نظر، وتوصيف العلاج لها من بعد النظر العميق في حال صاحبها، فقد كان الرجال يأتون إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فيسألونه عن الأمر الواحد فيجيب كل واحد منهم بما يناسب حاله وفهمه وعقله.
ليست العبرة بطول الخطب ولا بكثرة الكلام لكن في تأثيره:
بعض الناس يظنون أنهم بخطبة في
مسجد أو درس عام، يؤدون واجبهم، وأنهم قد فعلوا الشيء الكثير الذي يستحقون عليه الحمد والشكر، ويسمون أنفسهم بهذا دعاة إلى الله، لكن من الجدير بهؤلاء أن ينظروا إلى ما تركوه وراءهم، بكلام آخر هل تغير شيء في السامعين، أم أنهم يسمعون الخطيب لعدم
وجود غيره، هل لو ترك مكانه ورحل إلى مكان آخر فلن يترك وراءه من يذكره بالخير ويدعو له؟؟
المهمة لا تنتهي بالانتهاء من الخطبة أو الدرس:
من الخطأ أن يسرع الخطيب
أو المحاضر بالمغادرة بعد كلامه، فالناس لديهم أحوال وحاجات وشكاوى وهموم واستفسارات، وهم معتادون أن يبوحوا بها لمن يرون من أهل الصلاح والخير، لذلك يجدر بالخطيب أن يبقى
بعد الصلاة ليسلم على الناس ويسمع منهم، فهو بهذا يتيقن من تأثير كلامه، ويسمع تعليقاتهم واستفساراتهم،
ويعيش همومهم وقضاياهم، بدل التحليق في فضاء النظريات والكتب التي يقرؤها.
لا تحرم من كلمة طيبة ومن بسمة صادقة:
الكلام الطيب والبسمة الصادقة مفتاح تملك به القلوب، فمن كان عديم البضاعة منهما ليس له حظ في حب
الناس أو التأثير فيهم، الناس قد يسمعون من أي خطيب، وقد يتأثرون بكلامه نوعاً ما احتراماً لأمر الله، لكن الله
-سبحانه- يجعل في قلوب الناس حب المرء المبتسم الوجه، الطيب الكلام، السهل في غير ذلة، والألوف في
غير تزلف، وهذه مواصفات يجعلها الله فيمن يشاء من عباده، ليكونوا دعاة إلى الله وشهداء على الناس.
احترم المكان الذي تتكلم فيه:
الذي يعتلي المنبر يجب أن يفهم أن الأمر تكليف لا تشريف، وأن هذا المنبر هو منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا
يحق له إهانته أو الحط من شأنه، فعليه أن يصبر على أذى الناس، وعليه تحمل شكاويهم، وعليه السعي
بينهم بالخير، والصلح بين المتخاصمين منهم، والمباركة للمحتفل، والتعزية للحزين، وعليه أن يفهم أنه مثل
الطبيب تماماً، فلا يحق له أن يغلق بابه دون الناس، أو أن يقفل الهاتف، أو أن يجيب بجفاف على متصل أو مستفسر.
أما إن كان مبتلى بخلق ضيق، وقلة صبر على العامة، وتسرع في الكلام، وحدة في الطباع، فعليه أن يجاهد نفسه
حتى يتعلم اللين للناس، والتواضع لهم، والصبر على مسائلهم، فإن نجح في الأمر فذلك فضل من الله، وإلا فخير له أن يتركه؛ لأنه سيصبح فتنة للناس لا هادياً لهم.
ومن المفيد إيراد ما ذكره
البعض في تفسير قوله تعالى من سورة الغاشية:
{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } [سورة الغاشية:17-22].
قال: عليك أن تكون بصبر الجِمال، ورفعة السماء، وثبات الجبال، وسهولة الأرض وانبساطها، ثم بعد امتلاك هذه
الميزات أن تصدع بالدعوة، مع هذا فلن تكون مسيطراً عليهم، فإنما أنت مجرد مذكر، أما الهداية فهي هدية الله لمن شاء من عباده.
لك الأجر في الدنيا قبل الآخرة:
في الختام، الخطيب والداعية المخلص ينتظر الأجر من الله، على أنه ينال من حب الناس ودعائهم ورفعهم من
مكانته وتقديمهم له، ما يجعله في خير كثير، وقد قال ابن القيم -رحمة الله عليه-:
" طوبى لمن بات وألسن الناس تدعو له، والويل لمن بات وألسن الناس تلعنه".
وحب الناس للمرء ودعاؤهم له
من عاجل بشرى المؤمن، فنسأل الله أن يعجل لنا البشرى في الدنيا
المصدر