عوامل الثبات عند الفتن - للشيخ ياسر برهامي
تمهيد عن الفتن:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) (رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم- (لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا إِلاَّ بَلاَءٌ وَفِتْنَةٌ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، فالفتن واقعة لا مَحَالة كَوْنًا وقَدَرًا، وهي إذا وقعت طاشت العقول وماتت القلوب، ولا يثبتُ فيها إلا مَن عَصَمَه الله
ووَفَّقَهُ للثبات؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ... إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ... إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ... وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ... فَوَاهًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)،
وقولُه (فواهًا): مَعْنَاهُ التَّلَهُّف وَالتَّحَسُّر؛ أَيْ: وَاهًا لِمَنْ بَاشَرَ الْفِتْنَة وَسَعَى فِيهَا.
ولاشك أن الثبات له عوامل وأسباب، إذا وَفَّقَ الله العبدَ للأخذ بها كان من السُعَداء:
ومن عوامل الثبات عند الفتن:
1- البصيرة:
هي قوة القلب المُدْرِكة، وهي للقلب كالبَصَر بالنسبة إلى العين؛ يُفرِّق المؤمن بها بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، والمصلحة والمفسدة، والدعوة إلى الله بغيرها تضر أكثر من أن تنفع، فعَدَمُها مَضَلة أقوام ومَزَلة أقدام؛ إذ الانحراف في مقام الدعوة والتغيير يمتد خطرُه أجيالاً، ويتحمل صاحبُه أوزارًا؛ لذا فتحصيل البصيرة فريضة على كل مسلم -وهي على الدعاة أوجب-؛
(
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)، والمؤمن في أزمنة الفتن أحوج إليها؛ فنورها يبدد ظلمات الفتنة؛ فقد شَبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- الفتنة بقطع الليل المُظلِم؛ أي: الذي لا قمر فيه ولا ضياء؛ فالساري فيه على شَفَا هَلَكة إن لم يكن معه نور يبصر به مواقع قَدَمه، وهو في حال الفتن نُورُ العِلم الذي يكشف أهلَها ويُبَيِّن حالَها؛ قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-: "لا تضرك الفتنة ما عَرَفتَ دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل
".
وإليك أسبابٌ لتحصيل البصيرة -وهي عوامل كذلك للثبات في أزمنة الفتن-؛ فالزمها:
أ- صدق الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -تعالى- (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122).
ب- العلم النافع بما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال الله -تعالى- (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)، وقال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:28)،
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)
،
والعلمُ بالله وأحكامِه يَعصِم "المؤمنَ" و"الطائفةَ المؤمنةَ" مِن الإفراط والتفريط؛ فلا يُفْرِطُ ويَغلو، فينتهك الحُرُمات ويقع في الفتنة ويهلك نفسَه وغيرَه، كما فعل الخوارج وغيرُهم مِمَّن أرادوا الخيرَ فلم يبلغوه!
ولا يُفَرِّطُ فيقول الباطلَ ويسير في رَكْبه كما هو حال كثير مِمَّن يركبون فُلْكَ منافقي زماننا، ويسارعون في موالاة أهل الكفر وطلبِ مرضاتهم
.
ج- العمل بالعلم: فمَن عَمِل بما عَلِم رزقه الله علمَ ما لم يَعلَم، ومن ثمراته التقوى؛ التي تقود إلى البصيرة والنور؛
قال الله -تعالى- (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة:282)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال:29).
د- صدق اتباع السنة ظاهرًا وباطنًا: قال الله -تعالى- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد:28)،
وهذا يستلزم تقديمَها في الأصول والفروع على قول كل أحد وهَدْيِه.
قال ابن القيم -رحمه الله- في شأن الهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقلب: "سفر الفِكْر في كل مسألةٍ من مسائل الإيمان، ونازلةٍ من نوازل القلوب، وحادثةٍ من حوادث الأحكام إلى مَعْدِنِ الهُدَى، ومَنبَع النور المُتَلَقَّى مِن فَمِ الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:4)؛
فكل مسألة طلعتْ عليها شمسُ رسالته، وإلا فاقذِفْ بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عَدَّلَه هذا المُزَكِّي وإلا فعُدَّه من أهل الرَّيْب والتُّهمات".
هـ- التمسك بالقرآن والعناية به: قراءةً وفهمًا، وتدبرًا وحفظًا، وتعاهُدًا واستدلالاً وعملاً؛ فبحسب نصيبك من القرآن يكون نصيبك من النور
قال الله -تعالى- (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)،
وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النساء:174)،
وقال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (التغابن:،
وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157