الترتيل ودوره في بيان المعاني والأحكام
القرآن الكريم كتاب الله المعجز يجب أن يُقرأ بالوجه المخصوص الذي أنزله الله به. : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} [القيامة: 18]. و: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4].
و: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106]، لذا فإنه يجب علينا أن نقرأ القرآن كما أُنزل على سيدنا محمد ، وكما قرأه الرسول على أصحابة بتؤدة، واطمئنان، وتأنٍّ، وترسُّل، مع إعطاء الحروف حقّها من المخارج والصفات، ومُستحقّها من المد، والغُنّة، والإظهار، والإدغام، والإخفاء، والتفخيم، والترقيق، وتجويد الحروف، ومعرفة الوقف والابتداء.. إلخ.
وقراءة القرآن الكريم وتلاوته طبقاً لما أُنزل وحسب أحكام التلاوة تُظهر لنا المعاني الحقيقية للنص القرآني بآفاقها الواسعة.. بل إننا يمكن لنا أن نستنتج منها أحكاماً في قضايا معينة.
إن هذا الموضوع يجب أن يهتم به أهل الفكر الإسلامي في كل بقاع الدنيا؛ لأنه يحتاج إلى دراسات وأبحاث مستفيضة.. لا يمكن لفرد أو لأفراد أن يحيطوا بعلمه، ولكن يجب عليهم المحاولة والتدبر والتفقّه.
إن هذه المقالة الموجزة تعتبر مقدمة أو مدخلاً لهذا الموضوع المذهل وهو بيان معاني القرآن الكريم من خلال أحكام التلاوة.
أمثلة في بيان المعنى من خلال مدّ بعض الحروف:
إن المدّ في القراءة لبعض أحرف الكلمة القرآنية يعتبر ظاهرة من ظواهر زيادة أحرفها، وإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.. لذا فإن ظاهرة المد لبعض حروف كلمات القرآن مدّاً زائداً على المد الأصلي الطبيعي حين التلاوة يدل على تفخيم هذه الكلمة وزيادة معناها..
ونستعرض فيما يلي أمثلة من الكلمات القرآنية التي يجب مد بعض حروفها مدّاً زائداً لنعرف أن هذا المد لم يأت عبثاً، وإنما جاء لبيان أهمية هذه الكلمة وأنها تدل على شيء مخصوص وغير عادي، ومثل هذه الكلمات كثيرة جدّاً في القرآن الكريم، وسنذكر بعضها حسب الآتي:
- {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات:34].
- {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22].
- {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:39].
- {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125].
حينما ننظر إلى هذه الكلمات (الطَّامَّةُ، وَالسَّمَاءَ، وَلَا جَانٌّ، لِلطَّائِفِينَ) نجد أن كلاًّ منها يدل على شيء عظيم غير عادي؛ لذا جاء المد ليزيد المعنى.. وحينما نقارن وجود المد في كلمة (الطَّامَّةُ) بعدم وجوده في كلمة قرآنية أخرى قريبة في المعنى وهي (الْقَارِعَة)، نجد أن عدم وجود المد في (الْقَارِعَةُ) مطلوب بشدة لتحقيق معناها وهو أنها (تقرع) آذان الناس وهو شيء لا يستلزم زمناً، فهو لحظيّ ليدل على الفجاءة ولا يحتاج مدّاً أو مدة ..
كذلك، فإننا حينما نتدبر (سورة الكافرون)، نجد أنه حينما يذكر القرآن (مَا تَعْبُدُونَ) و (مَا عَبَدْتُمْ) فإنه لا يوجد مدّ على كلمة (مَا) للدلالة على تحقير ما يعبدون، غير أنه حين يذكر (مَا أَعْبُدُ) – وقد جاءت مرتين –، نجد أنه يوجد مدّ على كلمة (مَا) لتدل على عظمة ما يعبده الرسول ورفعته.. حينما نرجع إلى أحكام التلاوة في المد، نجد أن المد قد جاء لأن الحرف الذي تلا المد هو (الهمزة).. هذا الحكم يوضح حكمة اختيار الحروف التي تبدأ بها الكلمات القرآنية لتبين المعنى على أكمل وجه.. كذلك فإننا حينما نتكلم عن المد الجائز المنفصل (مد الصلة الطويلة) وهو المد المتولد من هاء الضمير المكسورة أو المضمومة الواقعة بين متحركين ثانيهما همز نذكر المثالين الآتيين:
- {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة:131].
وجاء مد الصلة الطويلة ليدل على عظمة الرب سبحانه.
- {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
جاء مد الصلة الطويلة ليدل على عظمة قدر الله سبحانه.
وبالنسبة للمد اللازم المثقّل (لوجود التشديد بعد حرف المد) نذكر المثال الآتي: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
نجد أن كلمة (الضَّالِّينَ) ممدودة مدّاً لازماً مثقّلاً مقداره ست حركات.. على عكس كلمة (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بدون مد زائد.
ويدل مد كلمة (الضَّالِّينَ) على كثرة هؤلاء الضالين ووفرتهم وهم (النصارى) وذلك بالمقارنة بـ (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود حيث جاءت بدون مد لتدل على قلة عددهم..
الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب:
ورد في مصحف المدينة النبوية في اصطلاحات الضبط ما يلي: "والقاعدة: أن حفصاً عن عاصم يصل كل هاء ضمير للمفرد الغائب بواو لفظية إذا كانت مضمومة، وياء لفظية إذا كانت مكسورة بشرط أن يتحرك ما قبل هذه الهاء وما بعدها"، وقد استثنى من ذلك ما يأتي:
1. الهاء من لفظ (يرضه) في سورة الزمر، فإن حفصاً ضمّها بدون صلة.
2. الهاء من لفظ (أرجه) في سورتي الأعراف والشعراء، فإنه سكَّنها.
3. الهاء من لفظ (فألقه) في سورة النمل، فإنه سكّنها أيضاً.
وحتى نتدبر سبب هذا الاستثناء فإن علينا أن نرجع إلى الآيات الكريمة التي وردت فيها هذه الألفاظ:
- فكلمة (يَرْضَهُ) وردت في قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، ولم ترد هنا الصلة حتى توحي بفورية رضا الله عن شكر عباده.
- كلمة (أَرْجِهْ) وردت في الآية (111) من سورة الأعراف والآية (36) من سورة الشعراء عن موسى وهارون عليهما السلام {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}، ولم ترد هنا الصلة حتى توحي بتقليل شأنهما عليهما السلام في نظر ملأ فرعون حيث كانوا يعتبرونهما ساحرين.
- كلمة (فَأَلْقِهِ) وردت في قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28]، ولم ترد هنا الصلة لتوحي بتقليل شأن قوم سبأ في نظر سليمان عليه السلام وكذلك بطلب سرعة إلقاء الكتاب.
ومن خلال ما سبق تتبين لنا الحكمة في الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب في بعض الآيات القرآنية لتوضح المعنى المراد أجمل وأدق توضيح وبيان، وأن ترتيل القرآن كما أنزل له فائدة كبرى في توضيح المعاني وإبرازها بجلاء.
أمثلة في بيان المعنى من خلال صفات الحروف:
من المعروف في أحكام التلاوة أن لكل حرف مخرجاً يخرج منه وكيفية تميزه في المخرج، وهذه الكيفية في صفة الحرف، وسنعرض هنا أمثلة تساعد في توضيح المعاني المقصودة...
حروف الاستعلاء:
حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء.. وحرف (ص) من حروف الاستعلاء.. وحينما نتلو الآيتين الكريميتن التاليتين:
- { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:37].
- { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:22].
نجد أن كلمة (مصيطر) وكذلك كلمة (المصيطرون) في الأصل تكتب بحرف (س) أي (مسيطر)، (المسيطرون) وحيث إن حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء، فإنه لن يؤدي المعنى المراد وهو التحكم والسيطرة والقوة والاستعلاء.. لذا جاءت تلاوة القرآن لهذه الكلمة باستخدام حرف (ص) وهو حرف من حروف الاستعلاء وذلك ليؤكد المعنى وتكون التلاوة موضحة للمعنى المراد أعظم توضيح...
حروف القلقلة وحرف الامتداد:
القلقلة تعني التحريك أي: إبراز صوت زائد للحرف بعد ضغطه.. ما يجعل اللسان يتقلقل بها عند النطق.. وحروف القلقلة خمسة هي: (ق، ط، ب، ج، د).
أما حرف الامتداد فهو حرف واحد هو (ض). والامتداد يعني امتداد الصوت من أول اللسان إلى آخره.. ويعني أيضاً (القبض) على الحرف حتى لا يتحرك أو يتقلقل.. في حالة السكون.
وحينما نقرأ الآيات التي وردت فيها حروف قلقلة، خاصة القلقلة الكبرى وهي حالة إذا ما سكنت حروف القلقلة آخر الكلمة نجد أن هذه القلقلة تعطي معنى واسعاً للكلمة تعتبر كأنها زادت حروفها حرفاً، وزيادة مبنى الكلمة يوحي بزيادة معناها.. ونضرب فيما يلي أمثلة في هذا المجال:
- : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2].
وقلقلة (ق) في كلمة (خَلَق) تعطي معنى واسعاً لخلق الله حيث إنه لا توجد حدود للخلق .. وكذلك كلمة (علق) فهي توحي بالأعداد الكبيرة العالقة من مني الذكر..
كذلك حينما ترد الكلمات القرآنية: (أولو الألباب – العذاب – الحق – الأسباط – الأحزاب – أزواج – الميعاد... إلخ) فإن هذا يزيد في معنى هذه الكلمات ويحفّزنا على إعطاء الآيات الواردة بها مزيداً من العناية والتدبر..
أما بخصوص حرف (ض) في حالة سكونه؛ فإنه يجب الإمساك به بقوة حتى لا يتقلقل أثناء التلاوة.. ومثال ذلك: : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46].
ويدل سكون حرف (ض) وعدم قلقلته على تأكيد معنى كلمة (القبض) التي ورد بها هذا الحرف.. وعدم إمكانية تحريك هذا القبض أو زحزحته...
أمثلة في بيان المعنى من خلال إدغام المتماثلين والمتجانسين والمتقاربين:
- إدغام المتماثلين: هو أن يتّحد الحرفان مخرجاً وصفة.
- إدغام المتجانسين: هو أن يتّفق الحرفان مخرجاً ويختلفا صفة.
- إدغام المتقاربين: هو أن يتقارب الحرفان مخرجاً ويختلفا صفة.
- الإدغام الكامل بدون غنّة يدل على التصاق الكلمتين التصاقاً كاملاً مما يوحي بقطعية الأمر وعدم وجود أي فاصل أو مسافة زمنية وكذلك يدل على العجلة الفائقة.
ونضرب فيما يلي أمثلة لكل نوع من أنواع هذا الإدغام لنتبين المعنى الذي أضافه وبيّنه:
أ- إدغام المتماثلين:
- : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
حين تلاوة كلمة (يُدْرِكُكُمُ) نجد أن الكاف الساكنة الأولى قد أدغمت في الكاف الثانية فأصبحت حرفاً واحداً مشدداً وأصبحت تُقرأ (يدركّم)، والإدغام يوحي بنقص أحرف الكلمة مما يدل على سرعة الموت في إدراك من قضى عليه الموت...
- : {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28].
إدغام حرفَي (الباء) يدل على السرعة التي طلب بها سليمان عليه السلام من الهدهد أن يطير بها إلى ملكة سبأ، والذي يؤكد ذلك أن الآية رقم (29) التي تلت هذه الآية: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]. أي: إنه لم يظهر هناك أي زمن بين أمر سليمان للهدهد وبين استلام الملكة للكتاب..
ب- إدغام المتجانسين:
وذلك للحروف (ت، د، ط) وللحروف (ت، ذ، ظ) وللحرفين (ب، م):
- : {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].
إدغام (الدال) في (التاء) يدل على قطعية بيان الرشد.
- : {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89].
إدغام (التاء) في (الدال) يدل على سرعة استجابة الله لدعاء موسى وهارون على فرعون وملئه بألا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم..
ج- إدغام المتقاربين:
وذلك للحرفين (ل، ر) وللحرفين (ق، ك):
- : {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
إدغام اللام الساكنة في الراء المتحركة وينطق بهما راء مشددة.. ويأتي هذا الإدغام ليبين ضرورة التعجيل في دعاء الله بزيادة العلم وإبراز قيمة العلم..
- : {بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158].
إدغام اللام الساكنة في الراء المتحركة.. ويدل هذا الإدغام على سرعة رفع الله لعيسى عليه السلام وإنقاذه من اليهود والحاكم الروماني..
د- الإشمام:
الإشمام في التلاوة: هو ضم الشفتين كمن يريد النطق (بضمّة).
وقد جاء هذا الحكم في تلاوة قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف:11].
وحين نقرأ الميم في هذه الكلمة بالفتحة وشفتانا مضمومتان فينتج عن ذلك نطق يدل على التردد وعدم الثقة في إجابة الطلب.. وهو بالفعل ما كان عليه إخوة يوسف حينما طلبوا من أبيهم أن يرسله معهم لأنهم كانوا يكيدون لأخيهم.. لذا كان هذا الحكم في التلاوة ليوضح المعنى أصدق توضيح..
منقووووول للفائدة
القرآن الكريم كتاب الله المعجز يجب أن يُقرأ بالوجه المخصوص الذي أنزله الله به. : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} [القيامة: 18]. و: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4].
و: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء:106]، لذا فإنه يجب علينا أن نقرأ القرآن كما أُنزل على سيدنا محمد ، وكما قرأه الرسول على أصحابة بتؤدة، واطمئنان، وتأنٍّ، وترسُّل، مع إعطاء الحروف حقّها من المخارج والصفات، ومُستحقّها من المد، والغُنّة، والإظهار، والإدغام، والإخفاء، والتفخيم، والترقيق، وتجويد الحروف، ومعرفة الوقف والابتداء.. إلخ.
وقراءة القرآن الكريم وتلاوته طبقاً لما أُنزل وحسب أحكام التلاوة تُظهر لنا المعاني الحقيقية للنص القرآني بآفاقها الواسعة.. بل إننا يمكن لنا أن نستنتج منها أحكاماً في قضايا معينة.
إن هذا الموضوع يجب أن يهتم به أهل الفكر الإسلامي في كل بقاع الدنيا؛ لأنه يحتاج إلى دراسات وأبحاث مستفيضة.. لا يمكن لفرد أو لأفراد أن يحيطوا بعلمه، ولكن يجب عليهم المحاولة والتدبر والتفقّه.
إن هذه المقالة الموجزة تعتبر مقدمة أو مدخلاً لهذا الموضوع المذهل وهو بيان معاني القرآن الكريم من خلال أحكام التلاوة.
أمثلة في بيان المعنى من خلال مدّ بعض الحروف:
إن المدّ في القراءة لبعض أحرف الكلمة القرآنية يعتبر ظاهرة من ظواهر زيادة أحرفها، وإن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.. لذا فإن ظاهرة المد لبعض حروف كلمات القرآن مدّاً زائداً على المد الأصلي الطبيعي حين التلاوة يدل على تفخيم هذه الكلمة وزيادة معناها..
ونستعرض فيما يلي أمثلة من الكلمات القرآنية التي يجب مد بعض حروفها مدّاً زائداً لنعرف أن هذا المد لم يأت عبثاً، وإنما جاء لبيان أهمية هذه الكلمة وأنها تدل على شيء مخصوص وغير عادي، ومثل هذه الكلمات كثيرة جدّاً في القرآن الكريم، وسنذكر بعضها حسب الآتي:
- {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات:34].
- {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22].
- {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:39].
- {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125].
حينما ننظر إلى هذه الكلمات (الطَّامَّةُ، وَالسَّمَاءَ، وَلَا جَانٌّ، لِلطَّائِفِينَ) نجد أن كلاًّ منها يدل على شيء عظيم غير عادي؛ لذا جاء المد ليزيد المعنى.. وحينما نقارن وجود المد في كلمة (الطَّامَّةُ) بعدم وجوده في كلمة قرآنية أخرى قريبة في المعنى وهي (الْقَارِعَة)، نجد أن عدم وجود المد في (الْقَارِعَةُ) مطلوب بشدة لتحقيق معناها وهو أنها (تقرع) آذان الناس وهو شيء لا يستلزم زمناً، فهو لحظيّ ليدل على الفجاءة ولا يحتاج مدّاً أو مدة ..
كذلك، فإننا حينما نتدبر (سورة الكافرون)، نجد أنه حينما يذكر القرآن (مَا تَعْبُدُونَ) و (مَا عَبَدْتُمْ) فإنه لا يوجد مدّ على كلمة (مَا) للدلالة على تحقير ما يعبدون، غير أنه حين يذكر (مَا أَعْبُدُ) – وقد جاءت مرتين –، نجد أنه يوجد مدّ على كلمة (مَا) لتدل على عظمة ما يعبده الرسول ورفعته.. حينما نرجع إلى أحكام التلاوة في المد، نجد أن المد قد جاء لأن الحرف الذي تلا المد هو (الهمزة).. هذا الحكم يوضح حكمة اختيار الحروف التي تبدأ بها الكلمات القرآنية لتبين المعنى على أكمل وجه.. كذلك فإننا حينما نتكلم عن المد الجائز المنفصل (مد الصلة الطويلة) وهو المد المتولد من هاء الضمير المكسورة أو المضمومة الواقعة بين متحركين ثانيهما همز نذكر المثالين الآتيين:
- {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة:131].
وجاء مد الصلة الطويلة ليدل على عظمة الرب سبحانه.
- {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
جاء مد الصلة الطويلة ليدل على عظمة قدر الله سبحانه.
وبالنسبة للمد اللازم المثقّل (لوجود التشديد بعد حرف المد) نذكر المثال الآتي: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
نجد أن كلمة (الضَّالِّينَ) ممدودة مدّاً لازماً مثقّلاً مقداره ست حركات.. على عكس كلمة (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بدون مد زائد.
ويدل مد كلمة (الضَّالِّينَ) على كثرة هؤلاء الضالين ووفرتهم وهم (النصارى) وذلك بالمقارنة بـ (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود حيث جاءت بدون مد لتدل على قلة عددهم..
الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب:
ورد في مصحف المدينة النبوية في اصطلاحات الضبط ما يلي: "والقاعدة: أن حفصاً عن عاصم يصل كل هاء ضمير للمفرد الغائب بواو لفظية إذا كانت مضمومة، وياء لفظية إذا كانت مكسورة بشرط أن يتحرك ما قبل هذه الهاء وما بعدها"، وقد استثنى من ذلك ما يأتي:
1. الهاء من لفظ (يرضه) في سورة الزمر، فإن حفصاً ضمّها بدون صلة.
2. الهاء من لفظ (أرجه) في سورتي الأعراف والشعراء، فإنه سكَّنها.
3. الهاء من لفظ (فألقه) في سورة النمل، فإنه سكّنها أيضاً.
وحتى نتدبر سبب هذا الاستثناء فإن علينا أن نرجع إلى الآيات الكريمة التي وردت فيها هذه الألفاظ:
- فكلمة (يَرْضَهُ) وردت في قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، ولم ترد هنا الصلة حتى توحي بفورية رضا الله عن شكر عباده.
- كلمة (أَرْجِهْ) وردت في الآية (111) من سورة الأعراف والآية (36) من سورة الشعراء عن موسى وهارون عليهما السلام {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}، ولم ترد هنا الصلة حتى توحي بتقليل شأنهما عليهما السلام في نظر ملأ فرعون حيث كانوا يعتبرونهما ساحرين.
- كلمة (فَأَلْقِهِ) وردت في قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28]، ولم ترد هنا الصلة لتوحي بتقليل شأن قوم سبأ في نظر سليمان عليه السلام وكذلك بطلب سرعة إلقاء الكتاب.
ومن خلال ما سبق تتبين لنا الحكمة في الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب في بعض الآيات القرآنية لتوضح المعنى المراد أجمل وأدق توضيح وبيان، وأن ترتيل القرآن كما أنزل له فائدة كبرى في توضيح المعاني وإبرازها بجلاء.
أمثلة في بيان المعنى من خلال صفات الحروف:
من المعروف في أحكام التلاوة أن لكل حرف مخرجاً يخرج منه وكيفية تميزه في المخرج، وهذه الكيفية في صفة الحرف، وسنعرض هنا أمثلة تساعد في توضيح المعاني المقصودة...
حروف الاستعلاء:
حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء.. وحرف (ص) من حروف الاستعلاء.. وحينما نتلو الآيتين الكريميتن التاليتين:
- { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:37].
- { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:22].
نجد أن كلمة (مصيطر) وكذلك كلمة (المصيطرون) في الأصل تكتب بحرف (س) أي (مسيطر)، (المسيطرون) وحيث إن حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء، فإنه لن يؤدي المعنى المراد وهو التحكم والسيطرة والقوة والاستعلاء.. لذا جاءت تلاوة القرآن لهذه الكلمة باستخدام حرف (ص) وهو حرف من حروف الاستعلاء وذلك ليؤكد المعنى وتكون التلاوة موضحة للمعنى المراد أعظم توضيح...
حروف القلقلة وحرف الامتداد:
القلقلة تعني التحريك أي: إبراز صوت زائد للحرف بعد ضغطه.. ما يجعل اللسان يتقلقل بها عند النطق.. وحروف القلقلة خمسة هي: (ق، ط، ب، ج، د).
أما حرف الامتداد فهو حرف واحد هو (ض). والامتداد يعني امتداد الصوت من أول اللسان إلى آخره.. ويعني أيضاً (القبض) على الحرف حتى لا يتحرك أو يتقلقل.. في حالة السكون.
وحينما نقرأ الآيات التي وردت فيها حروف قلقلة، خاصة القلقلة الكبرى وهي حالة إذا ما سكنت حروف القلقلة آخر الكلمة نجد أن هذه القلقلة تعطي معنى واسعاً للكلمة تعتبر كأنها زادت حروفها حرفاً، وزيادة مبنى الكلمة يوحي بزيادة معناها.. ونضرب فيما يلي أمثلة في هذا المجال:
- : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2].
وقلقلة (ق) في كلمة (خَلَق) تعطي معنى واسعاً لخلق الله حيث إنه لا توجد حدود للخلق .. وكذلك كلمة (علق) فهي توحي بالأعداد الكبيرة العالقة من مني الذكر..
كذلك حينما ترد الكلمات القرآنية: (أولو الألباب – العذاب – الحق – الأسباط – الأحزاب – أزواج – الميعاد... إلخ) فإن هذا يزيد في معنى هذه الكلمات ويحفّزنا على إعطاء الآيات الواردة بها مزيداً من العناية والتدبر..
أما بخصوص حرف (ض) في حالة سكونه؛ فإنه يجب الإمساك به بقوة حتى لا يتقلقل أثناء التلاوة.. ومثال ذلك: : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46].
ويدل سكون حرف (ض) وعدم قلقلته على تأكيد معنى كلمة (القبض) التي ورد بها هذا الحرف.. وعدم إمكانية تحريك هذا القبض أو زحزحته...
أمثلة في بيان المعنى من خلال إدغام المتماثلين والمتجانسين والمتقاربين:
- إدغام المتماثلين: هو أن يتّحد الحرفان مخرجاً وصفة.
- إدغام المتجانسين: هو أن يتّفق الحرفان مخرجاً ويختلفا صفة.
- إدغام المتقاربين: هو أن يتقارب الحرفان مخرجاً ويختلفا صفة.
- الإدغام الكامل بدون غنّة يدل على التصاق الكلمتين التصاقاً كاملاً مما يوحي بقطعية الأمر وعدم وجود أي فاصل أو مسافة زمنية وكذلك يدل على العجلة الفائقة.
ونضرب فيما يلي أمثلة لكل نوع من أنواع هذا الإدغام لنتبين المعنى الذي أضافه وبيّنه:
أ- إدغام المتماثلين:
- : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
حين تلاوة كلمة (يُدْرِكُكُمُ) نجد أن الكاف الساكنة الأولى قد أدغمت في الكاف الثانية فأصبحت حرفاً واحداً مشدداً وأصبحت تُقرأ (يدركّم)، والإدغام يوحي بنقص أحرف الكلمة مما يدل على سرعة الموت في إدراك من قضى عليه الموت...
- : {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28].
إدغام حرفَي (الباء) يدل على السرعة التي طلب بها سليمان عليه السلام من الهدهد أن يطير بها إلى ملكة سبأ، والذي يؤكد ذلك أن الآية رقم (29) التي تلت هذه الآية: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]. أي: إنه لم يظهر هناك أي زمن بين أمر سليمان للهدهد وبين استلام الملكة للكتاب..
ب- إدغام المتجانسين:
وذلك للحروف (ت، د، ط) وللحروف (ت، ذ، ظ) وللحرفين (ب، م):
- : {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].
إدغام (الدال) في (التاء) يدل على قطعية بيان الرشد.
- : {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89].
إدغام (التاء) في (الدال) يدل على سرعة استجابة الله لدعاء موسى وهارون على فرعون وملئه بألا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم..
ج- إدغام المتقاربين:
وذلك للحرفين (ل، ر) وللحرفين (ق، ك):
- : {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
إدغام اللام الساكنة في الراء المتحركة وينطق بهما راء مشددة.. ويأتي هذا الإدغام ليبين ضرورة التعجيل في دعاء الله بزيادة العلم وإبراز قيمة العلم..
- : {بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158].
إدغام اللام الساكنة في الراء المتحركة.. ويدل هذا الإدغام على سرعة رفع الله لعيسى عليه السلام وإنقاذه من اليهود والحاكم الروماني..
د- الإشمام:
الإشمام في التلاوة: هو ضم الشفتين كمن يريد النطق (بضمّة).
وقد جاء هذا الحكم في تلاوة قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف:11].
وحين نقرأ الميم في هذه الكلمة بالفتحة وشفتانا مضمومتان فينتج عن ذلك نطق يدل على التردد وعدم الثقة في إجابة الطلب.. وهو بالفعل ما كان عليه إخوة يوسف حينما طلبوا من أبيهم أن يرسله معهم لأنهم كانوا يكيدون لأخيهم.. لذا كان هذا الحكم في التلاوة ليوضح المعنى أصدق توضيح..
منقووووول للفائدة
(د.محمد زغلول)