أ.د. عبد الرحمن البر
الحمد لله رب العالمين، اللهم ربنا لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وإليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، سبحانك ربنا، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، نعوذ بك ربَّنا من مقام الكافرين وإعراض الغافلين، ونعوذ بك ربنا من دَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وعضال الداء، وشماتة الأعداء.. ونسألك اللهم أن ترزقنا من العلم أنفعه وأصلحه، ومن الأجر أعظمه وأطيبه.
وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير.
ها نحن نعيش في ظلال سيرة الحبيب القدوة صلي الله عليه وسلم، ذلك الذي جعله الله جل وعلا نوراً، فقال: }ô قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} (المائدة: 15)، ذلك الذي كشف الله به الظلمات، ومَحَا به الشبهات. هذا الحبيب المصطفى، الذي جعل اللهُ -تبارك وتعالى- حبَّه سبيلاً للجنة والوصول إليها، ولن يفتح باب الجنة لأحدٍ قبله، ولأمته من خلفه.
يقول صلي الله عليه وسلم: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ»([1])، فالأمر المُعطَى لخازن الجنة، ألا يفتح باب الجنة لأحد قبل الحبيب صلي الله عليه وسلم، ومن ورائه أمته الكريمة .
نسأل الله أن نكون ممن يقف خلفه يوم يحرك حلق الجنة بيده، ببركة حبنا له صلي الله عليه وسلم ، فهو القائل صلي الله عليه وسلم : «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ الله لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ»([2])
ومن المبشِّرات التي أخبرنا بها الحبيبُ المصطفى صلي الله عليه وسلم : ما رواه ابنُ مسعود رضي الله عنه أنه جاءه صلي الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلي الله عليه وسلم: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»([3]).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍرضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟» قَالَ: حُبَّ الله وَرَسُولِهِ. قَالَ: «فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» .
قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم : «فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ» .
قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ([4]).
أما الذي يحب فرعون وهامان وقارون وأُبَيّ بن خلف فسيُحشَر معهم؛ لأن أهل الجنة يُحشَرون زُمَرا، وأهل النار يُحشرون كذلك زمرا.
وسوف نتناول في هذه الرسالة منهجَه الكريمَ وطريقَتَه الرائعة صلي الله عليه وسلم في إعداد وتربية جيل النصر ، هذا الجيل الذي أخرج الله به الدنيا من الظلمات إلى النور ومن الغِوَاية إلى الرُّشد ومن الضلال إلى الهدى ، فكيف أَتَمَّ الله له ذلك ؟
حال الدنيا حين بُعث النبي صلي الله عليه وسلم :
جاء الحبيب صلي الله عليه وسلم إلى الدنيا وهي ممتلئة فسادا وضلالاً ، فجاء برسالة الإصلاح والهدى.
جاء صلي الله عليه وسلم والبشر يعبدون الحجروالشجر، ويسجدون من دون الله للشمس والقمر، وهذا من العجب!! فأين كانت عقولهم؟!وأين ذهبت أحلامهم؟!أين كان عقل الذي يصنع إلهاً بيده ثم يعبده، ويترك عبادة الواحد القهار الذي خلقه من طين وسخر له ما في السماوات وما في الأرض؟! {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ} (فصلت :9). هذا في جانب العبادة..
وفي الجانب الاجتماعي : انقسم الناس فريقين، سادة وعبيدًا، السادة يملكون كل شيء، والعبيد لا يملكون شيئا، بل يُباعون ويُشتَرَوْن!!
ظالم ومظلوم، ظالم متجبر يملك كل شيء، ومظلوم مقهور محروم، لا يستطيع حتى أن يُطالب بحقه، واستمرأ الظالمُ ظلمَه، واستكان المظلوم لما يقع عليه، وشاع في الناس مقولة عجيبة.. قالوا: نحن عبيد من ملك!! بل كان القادر على الظلم يرى أن قدرته عليه مبعث فخره، أي يتفاخر على الناس أنه قادر على أن يَظلم ولا يُظلم!! قادر على أن يُفسد ولا يناله شرّ!!
ينادي المنادي منهم وهو يفتخر بقبيلته وقدرتها على الظلم، فيقول:
بُغــَاةٌ ظَالِـمُونَ وَمَا ظُلِمْــــنَا
وَلَكِـنَّا سَنَبْـقَى ظَـالِـمِيــــنَا
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْواً
وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدَراً وَطِينَا
إِذَا بَلَــغَ الْفِطـَامَ لَنَا رَضِيـعٌ
تَـخِـرُّ لَهُ الجَبَابِـُرُ سَاجِـدِينَا
وأما المظلوم فكان يُتَمَلَّك ولا يَمْلِك، وعاش هذا الحال ساكناً ومستكيناً.
فما رقَّ قلبُ الظالم وما لان ، وما سَمَتْ همةُ المظلوم ليستعيدَ إنسانيَّتَه ويبحث عن حقه!!
بل كان الظلمُ يبلغ مداه، وكان الظالم إذا لم يجد من يظلمه إلا أخاه ابنَ أمه وأبيه فإنه لا يتردد في ظلمه! حتى ليقول قائلهم مفتخراً بكثرة ركوبهم حُمُرَهم للإغارة والنهب والسلب:
وَكُنَّ إذا أَغَــــرْنَ عَلَى جَنَــابٍ وَأَعْوَزهُنَّ نَهْبٌ حَيْثُ كَانَا
أَغَرْنَ مِنَ الضِّبَابِ عَلَى حَلَالٍ وَضَبَّـةَ ، إِنَّهُ مَنْ حَانَ حَانَا
وَأَحْيـَـاناً عَـَلى بَكْــرٍ أَخِيــــنَا إِذَا مَا لَمْ نَجِــدْ إِلَّا أَخَـــانَا
والمعنى: إنهم لا عتيادهم الإغارة على الآخرين لا يصبرون عنها، حتى إذا أعوزهم الإغارةُ على الأباعد عطفوا على الأقارب فأغاروا عليهم .
وبلغ من سَفَه العقل عند الناس أن الحروب كانت تقوم بين القبائل لأسباب في غاية التفاهة..
فهذه ناقة يملكها رجل من قبيلة ما، نزلت في مرعى رجل آخر من قبيلة أخرى، فقامت معركة بين القبيلتين حصدت معها شباب القبيلتين!!
وكلبة يملكها رجل نزلت عند رجل آخر فضربها؛ فقامت معركة حصدت معها شباب القبيلتين!!
وهكذا.. سَفَهٌ!! ناسٌ يقدمون دماءَهم وشبابَهم وخلاصَتَهم وقوداً لحرب بلا معنى..
كان هناك قطع للطريق، فالقادر على قطع الطريق؛ يقطع الطريق!!
يبيتُ الإنسانُ آمناً في سِرْبِه، وعندما يأتي الصباحُ تكون عصابةٌ قد دخلت وقتلت الرجال وسَبَت النساءَ والأطفال وساقتهم عبيدا!!
فسيدنا صهيب بن سنان الرومي مثلا، لم يكن روميّاً، وإنما كان عربيّاً، فقد أغارت إحدى القبائل على قبيلتهم فأخذوه وهو صغير، فباعوه عبدا، واشتراه جماعة من الروم وهو لا يزال صغيرا، فكان في لسانه لكنة الروم.. بعد ذلك بيع في مكة واشترى نفسه.. ولذلك أُطلق عليه صهيب الرومي.. بالرغم من أنه ليس روميا.. إنما عادة الظلم التي كانت متأصلة في الناس في ذلك الوقت؛ دفعت قوما إلى أن يأخذوه من أبويه، ويبيعوه عبداً، ويُذهَب به إلى بلاد الروم، فأصبح لسانه مثل لسان الروم، ثم عاد مرة أخرى لما أراد الله له من الكرامة، فيُباع في مكة، ثم يشتري نفسه، ثم يُكرمه الله بالإسلام.. هكذا كانت الحياة قبل الإسلام..
ولم يكن أحدٌ يخطر بباله أن يصلح هذا الفساد، أو أن يقوم ليهز هؤلاء الناسَ ويُعيد إليهم رشدهم!أو يعيدهم إلى رشدهم !
كان يوجد أناس أصحاب أخلاق كريمة، يُقال لهم الحنفاء، وهم أناس جلس خمسة منهم بعضهم إلى بعض، وقالوا: ماهذا؟!! ماذا يفعل قومنا؟!! هل من المعقول أن نعبد أصناماً نصنعها بأيدينا؟! هل من المعقول أن نترك الإنسان يظلم الإنسان؟!! هل هذا هو دينُ إبراهيم الذي ندّعي أننا أبناؤه؟!! قالوا: والله ما هذا بدين!! ولا يصلح هذا أن يكون دينا!!.. تعالوْا نبحث لنا عن دين صحيح.. فمنهم مَنْ عَبَدَ اللهَ على ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، ومنهم من تنصَّر وقرأ كتب أهل الكتاب، ولكن لم يفكر أحد منهم أن يقوم فيقول للناس: ما أنتم فيه ضلال يجب أن تخرجوا منه!!.. ما أنتم فيه فساد يجب أن يُصْلَح!! بل كانوا صالحين فقط في أنفسهم وتركوا الناس في عمايتهم وأهوائهم.
وكان منهم ورقة بن نوفل ، وكان من أوائل الذين آمنوا برسول الله صلي الله عليه وسلم حين جاءت خديجة إليه برسول الله صلي الله عليه وسلم حين أتاه الوحي أول مرة ، وَكَانَ وَرَقَةُ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ الله أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ الله عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا! لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ([5]).
إذن كان هناك ناس مدركون لهذا الخطأ وهذا الضلال، وبحثوا عن طريق الحق، إنما لأنفسهم فقط، من غير أن يسعوا لإنقاذ الآخرين من هذا الضلال.
رسالة الإصلاح التي جاء بها النبي صلي الله عليه وسلم :
لما جاء الحبيب صلي الله عليه وسلم وأذن الله لهذه الظلمات أن تنكشف ولهذا الفساد أن ينقشع، أنزل الله عليه أعظم رسالة ختم بها الرسالات.. جاء الحبيب صلي الله عليه وسلم إلى البشرية فبدأ مشروعًا إصلاحيًا جديدًا أراد أن يُصلح به الناس ويصلح لهم دينهم ودنياهم، آخرتهم وأولاهم .
وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم دائما يدعو ربه بإصلاح ثلاثة أمور، يقول: «اللهمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي»([6])، وهو بهذا يختصر رسالته، فرسالته جاءت لإصلاح الدين وإصلاح الدنيا وإصلاح الآخرة، ليسعد الناس في دنياهم، ويسعدوا كذلك في آخرتهم، وكان طبيعيا ألا يقبل الفسادُ بنور الإصلاح، فلم نسمع في تاريخ البشرية أن فاسداً رأى مصلحا ثم جلس صامتا ساكتا!! وإنما ينقض انقضاضاً فظاً غليظاً على الصالح وعلى المؤمنين به .
حكى لنا الله تبارك وتعالى عن سيدنا صالح النبي الصالح الذي أرسله الله إلى ثمود يدعوهم إلى عبادة الله فأرادوا قتله، يقول الله جل وعلا: {وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} (النمل: 48)، والنبي صالح عليه السلام أرسله الله تعالى لكي يُصْلِح به وبرسالته قومَ ثمود، فهل يا ترى جرثومة الفساد ستسمح لدواء الصلاح أن يداويها؟!! لا! ولكنهم تحركوا مباشرة، وقالوا {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ}، أي: لِنُقْسِم بالله،{لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أي: لنقتلنه على بيات هو وأهله!! وذلك بالليل، وعندما يُصبح الصباح، نقوله لوليه: إننا ليس لنا أي دخل في جريمة القتل {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ* وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (النمل: 49-50) أي إنهم يدبِّرون في الأرض، والله جل وعلا يدبّر في السماء.. }وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (إبراهيم: 42) هم يحسبون أن المكر والتدبير بأيديهم!! إنما الله تعالى يقول }وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ، وكانت النتيجة {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (النمل: 51).
إذن.. كلما جاء صالحٌ يُصْلح الفساد في الحياة، وقف له أهل الفساد بالمرصاد.. وهكذا مع كل الأنبياء.. ومع كل المصلحين.
فهذا سيدنا موسى عليه السلام الذي جاء برسالة إصلاح، نجد فرعون يقول: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}.. ويبين السبب ويقول: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} (غافر:26).
فالمفسِد يرمي المصلِح بالفساد ليُشَجِّع الناسَ على حربه، وهذا ما فعله المشركون مع رسول الله صلي الله عليه وسلم، وفعله كل المفسدين على مدار التاريخ مع كل المصلحين..
في سورة سيدنا إبراهيم اختصار لهذه القضية.. كل الرسل تأتي رافعة علم الهدايةبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال الكريم الذي يحترم العقل السليم ، وفي النهاية، حين لا يجد المُفسدُ مجالا، وحين ينكشف أمره، وحين يرى أن الإصلاح قادم لا محالة؛ وحين يرى أهلُ الغواية أنْ لا لقاءَ بينهم وبين أهل الحق والهداية والصلاح يعلنون حرباً لا هوادةَ فيها على الإصلاح وعلى أهل الإصلاح: }وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13)؛ أي قال الكفار لرسلهم: إما أن تكونوا مثلَنا غاوين مفسدين، وإما أن تَخرجوا من بلدنا.. وهذا ما حدث مع كثير من الأنبياء، وهو هو ما حدث مع رسول الله صلي الله عليه وسلم.. وهو هو ما يحصل مع المصلحين في كل زمان ومكان، حتى يأذن الله لنور الحق أن يبدد ظلمات الفساد والباطل .
المساواة بين الخلق أبرز سمات دعوته الإصلاحية صلي الله عليه وسلم
كانت دعوة رسول الله صلي الله عليه وسلم واضحة في المساواة بين الخلق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات : 13) .
كانت دعوته صلي الله عليه وسلم قائمة على أساس«أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى[7]) »(
كانت دعوته صلي الله عليه وسلم صريحة واضحة في أن بلالاً مثلُ أبي جهل، وعمارَ بنَ ياسر مثلُ أبي لهب، وإن تفاوتت أنسابُهم، ولن يتميزَ أحدُهم إلا بالإيمان والتقوى.
كانت دعوته صلي الله عليه وسلم ترك عبادة الآلهة المتعددة وعبادة الله الواحد القهار..
كيف واجهت الجاهلية هذه الدعوة الإصلاحية :
لما أعلن صلي الله عليه وسلم هذا وجدنا أبا جهل ومن معه قد شعروا أن امتيازاتهم سوف تُسلَب منهم؛ لذلك، قالوا: }أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ* وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} (ص: 5-7).
وبدأ أبو جهل يجمع المشركين حوله لمحاربة رسول الله صلي الله عليه وسلم، بحجة أنه صلي الله عليه وسلم جاء يُفسد عليهم حياتهم، وجاء ليقطع العلاقة بين الوالد وولده!! وجاء ليشجع العبيد على سادتهم!! وجاء ليساوي بين العامة والسُّوقَة وبين السادة والأشراف!! وهذا لا يُقبَل في نظرهم، ولا بد من محاربة من يدعوهم إلى هذه الأمور العجيبة!.
فبدأوا يواجهون النبي صلي الله عليه وسلم بكل وسائل الإغراء والإغواء، فلم يفلح شيء من ذلك.. قالوا لرسول الله صلي الله عليه وسلم: إنْ كُنْتَ إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالاً جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوّدْنَاك عَلَيْنَا ، حَتّى لَا نَقْطَعَ أَمْراً دُونَك، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا([8]).
فلما رفض النبي صلي الله عليه وسلم هذا الإغراء وأفهمهم أنه صاحب رسالة لا طالب دنيا ، ونه لا يمكن أن يساوم على رسالته سلكوا طريقة أخرى.. شكوه إلى عمه أبي طالب، فرغب إليه أن يهادنهم، ولكنه صلي الله عليه وسلم قال: «يَا عَمّ ، وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ» ([9])..
وتتابعت وتكاثرت وتعاظمت محاولات الترغيب والترهيب، وثبت النبي صلي الله عليه وسلم أمام كل هذه المحاولات، واستطاع بفضل الله في سنوات معدودات، أن يفتح جزيرة العرب بنور الإسلام.
ثم فتح الله تبارك وتعالى أقطار الدنيا على الإسلام فانتشر في أقصى بلاد الصين شرقا، وفي بلاد أوروبا غربا، ومن أقصى بلاد سيبيريا في روسيا شمالا إلى جنوب إفريقيا.. وامتد الإسلام وانتشر بفضل الله تعالى..
والسؤال الذي هو لب هذه الرسالة ومحور هذا اللقاء هو :
كيف فعل النبي صلي الله عليه وسلم هذا في ظل هذه الأحوال التي ذكرناها؟!
كيف استطاع الحبيب صلي الله عليه وسلم أن يرفع لواء هذا الدين؟!!
كيف استطاع أن يجعل للدين كلَّ هذا الانتشار، بينما هو حين قام بدعوته الكريمة قامت لها قيامة الجاهلية ووقف ضدها سادة قريش وسادات العرب، وجمعوا الجموع، وحزَّبوا الأحزاب، ووقفوا يحاربون رسول الله صلي الله عليه وسلم بكل سبيل، ووقفوا على أبواب مكة يحذرون كل من يدخل إلىها من رسول الله صلي الله عليه وسلم، ويقولون : إنه فرَّق بين الزوجة وزوجها وقطع الأرحام.. ومشى وراءه عمّه أبو لهب يقول للناس: لا تصدقوه فإنه كذاب، ورسول الله صلي الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله؛ حتى يقول الناس: إن كان عمه يكذبه فهل نؤمن نحن به؟!!
فكيف استطاع الحبيب صلي الله عليه وسلم في كل هذه الأجواء، أن يجعل لواءَ الإسلام عالياً خفَّاقاً على الدنيا كلها؟!!
يتبع........
أسس أربعة لتربية جيل النصر
يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله: إن الله ربَّى محمدًا صلي الله عليه وسلم على عينه؛ ليربي به العرب، وربَّى العربَ بمحمد صلي الله عليه وسلم؛ ليربي بهم البشرية .
وهذا ما حدث، ربَّى صلي الله عليه وسلمحولَه جماعةٌ من أصحابه تربيةً خاصةً؛ فكان الواحد منهم أُمّةً، واستطاعوا بفضل الله أن يفتحوا بالإسلام مشارقَ الدنيا ومغاربَها.
أدرك النبي صلي الله عليه وسلم بتوفيق الله له أن البداية الحقيقية تكون بتقوية الهمم واستنهاض العزائم لحمل مشروع الإصلاح ، ولا يمكن أن يتأتَّى ذلك بغير يقظةٍ روحيةٍ قويةٍ ، تحرك المشاعر الساكنة ، وتحمل النفوس الكليلة العليلة .
استطاع الحبيب صلي الله عليه وسلم أن يفعل ذلك حين أيقظ الأرواح بأن غرس في نفوس المؤمنين به أربعةَ أمورٍ أساسية ملأ بها قلوبهم ؛ ففتح اللهُ بهم الدنيا بأَسْرِها..
وهذه الأربعة لو عادت إلى قلوبنا نحن المسلمين الآن؛ لفتح الله علينا وعلى الإسلام أقطارَ الدنيا، ولأصبحنا من جديد سادةَ الدنيا وأصحابَ الكلمة الأولى فيها.. أربعة أمور أساسية أصلح بها النبي صلي الله عليه وسلم قلوبَ أصحابِه، فأصلح أصحابُه بها الدنيا كلَّها. فما هي هذه الأسس الأربعة؟!!
الأساس الأول: أنهم على الحق
غرس النبيُّ صلي الله عليه وسلم في قلوبهم أن دعوتَهم هي دعوةُ الحق وما عداها ضلال..
فلا بد أن نؤمن بهذه القضية.. أن ديننا ورسالتنا -هي وحدها- الحق في هذه الحياة، وكل الدعوات الأخرى زائفة باطلة {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: 32)..
جاءهم النبيُّ صلي الله عليه وسلم بهذا الحق وبيّن لهم أن كل الدعواتِ والمللِ الأخرى صارت باطلة؛ لأن أصحابها بدَّلوا وحرَّفوا، وإن كان قد يكون عندهم بعضُ الحق، ولكنَّ الحقَّ كلَّه ليس موجوداً سوى في الإسلام، أما الحق الذي عندهم فحق مخلوط بباطل.. إنما الحقُّ الصافي هو الذي نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله صلي الله عليه وسلم بلسانٍ عربي مبين؛ ولذلك حين أتاه عمرُ ومعه نسخةٌ من التوراة، ليقرأَها عليه صلي الله عليه وسلم، جَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، أَمَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعُوذُ بِالله مِنْ غَضَبِ الله وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ، رَضِينَا بِالله رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلي الله عليه وسلم:«وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ بَدَا لَكُمْ مُوسَى فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي لاَتَّبَعَنِي» ([10]).
فالحقُّ كلُّ الحق في منهج الإسلام وفي اتباع القرآن، وكل المناهج الأخرى باطلة.. قد يكون فيها شيءٌ ظاهرُه طيبٌ، لكن ستجد هناك جوانب فاسدة!!
لماذا الحق في الإسلام؟
لأنه كلمةُ الله.. {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 14)، هو الذي يعلم ما الذي يُصلح الناس؛ ولذلك شرع لهم ما يعلم أن فيه صلاحهم..
من حكمة الله جلَّ وعلا أنه لا يشرع شيئاً إلا وهو يعلم بأن في هذا الشيء مصالحَ العباد؛ وذلك لأنه حكيم، والحكيم لا يَعْبَث، ولا يقول العَبَث؛ ولهذا قال جل جلاله: }فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} (طه: 123) وذلك لأنه هو الحقُّ، الذي لا ضلالَ فيه ولا شقاءَ معه.
والذي يُعْرِضُ عن هذا الحق، يقول المولى في شأنه {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} (طه: 124- 126).
فالحق في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وإن كانت الأمة تريد السعادة، وإن كان الفرد يريد السعادة، وإن كانت الأسرة تريد السعادة، وإن كان المجتمع يريد السعادة، فالحق كل الحق، والهدى كل الهدى، عند الله عز وجل، ولذلك عندما يأتي منافق من المنافقين بقوانين غير قوانين الله وأحكام غير أحكام الله عز وجل ويطبقها؛ فتضطرب حياته وتنقلب الدنيا على رأسه؛ فإنه يرجع باكيا نادما ويقول: إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا!! } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً* فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} (النساء: 60-62)، ولا إحسان ولا توفيق إلا فيما جاء به الله.. إلا في الحق }أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}؟.. فليس هناك أرحم منه بعباده؟..فحين يُشَرِّع هذا الرحيمُ لعباده شيئاً؛ يشرعه لمصلحتهم، فهو أرحم بعباده من الأم بولدها..
فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِرضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم سَبْيٌ(يعني أسرى)، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي(في رواية: تَسْعَى)، إِذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم: «أَتُرَوْنَ (يعني أتظنون) هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ. فَقَالَ: «لله أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» ([11]).
هذا ما يجب أن يفهمه الناس، وهذا ما فهمه الصحابة، علموا أن ما جاءهم به رسول الله صلي الله عليه وسلم هو الحق وما عداه ضلال؛ ولهذا لم يقبلوا كلاماً من أحدٍ إلا كلامَ الله ورسوله صلي الله عليه وسلم، ولم يقدِّموا على كلام الله ورسوله كلامَ أحد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات:1)، أي: أنه طالما هناك قولٌ لله أو لرسول الله صلي الله عليه وسلم فيجب تقديمُه على أي كلام آخر.. وامتلأتْ قلوبُ الصحابة إيماناً بالله رب العالمين، ويقيناً بأن ما جاء به رسول الله صلي الله عليه وسلم هو الحق.. وكل يوم يزداد اقتناعهم بأن هذا هو الحق..
ولئن يسَّر اللهُ لك قراءةَ القرآن وقراءةَ حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعرفة الدين؛ فسيزداد إيمانُك يوماً بعد يوم، وستدرك إلى أي مدى جاءَك الله جل وعلا بالخير والسعادة والرضا في هذا الدين العظيم..
هذا هو الأمر الأول الذي غرسه رسول الله صلي الله عليه وسلم في قلوب أصحابه، ولذلك علموا يقينا أن دينهم دين الحق، ولم يعد هناك أي استعداد للمساومة عليه ، أو التراجع عنه ، أو التردد في نصرته والتضحية بالغالي والنفيس من أجله.
وكلنا يعرف ما حدث لأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، قُتلوا.. وعُذبوا.. وأُوذوا.. إنما الحق الذي ملأ قلوبَهم جعلهم على يقينٍ واستمساكٍ به، ولم يَعُدْ لديهم أيُّ استعدادٍ للتفريط فيه..
وقد بلغ التعذيب للمؤمنين الأولين حداً يفوق الوصف ، حتى اضطر بعضهم لأن يعلن أحيانا -تحت الإكراه- قبوله لما يعرضه الكفار عليه من الباطل، لكن قلبه باق على صدق الإيمان ، فعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: يا أبا عباس أكان المشركون يبلغون من المسلمين في العذاب ما يُعْذَرون به في ترك دينهم؟ فقال: نعم والله، إن كانوا لَيضربون أحدَهم ويُجيعونه ويُعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي به ، حتى إنه لَيُعطيهم ما سألوه من الفتنة([12]).
وبقي كثير منهم لا يستجيب للباطل مهما اشتد الضغط ، فتجد بلال بن رباح رضي الله عنه يؤخذ، ويُرمى به في صحراء مكة الحارقة، ويُوضع الصخر على صدره، ويلعب به الصبيان، ويَجُرُّونه بالحبال، وهو يقول: أحد أحد.. لأن القضية واضحة لديه؛ وليس لديه أدنى استعداد للمساومة عليها، أو التفريط فيها.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍرضي الله عنه قَالَ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ الله بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ الله بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ (أي وافقهم مُكْرَهاً لاتقاء هذا الأذى الشديد) عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ([13]) .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ . ثُمّ إنّهُمْ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ ، وَاتّبَعَ رَسُولَ اللّهِ صلي الله عليه وسلم مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَثَبَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذّبُونَهُمْ بِالضّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَبِرَمْضَاءِ مَكّةَ إذَا اشْتَدّ الْحَرّ ، مَنْ اُسْتُضْعِفُوا مِنْهُمْ يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدّةِ الْبَلَاءِ الّذِي يُصِيبُهُ وَمِنْهُمْ مِنْ يَصْلُبُ لَهُمْ وَيَعْصِمُهُ اللّهُ مِنْهُمْ .
وَكَانَ بَلَالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، لِبَعْضِ بَنِي جُمَحٍ مُوَلّدًا مِنْ مُوَلّدِيهِمْ وَهُوَ بَلَالُ بْنُ رَبَاحٍ ، وَكَانَ اسْمُ أُمّهِ حَمَامَةَ وَكَانَ صَادِقَ الْإِسْلَامِ طَاهِرَ الْقَلْبِ، وَكَانَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ يُخْرِجُهُ إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكّةَ ، ثُمّ يَأْمُرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعَ عَلَى صَدْرِهِ ثُمّ يَقُولُ لَهُ : لَا وَاَللّهِ ، لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمّدِ وَتَعْبُدَ اللّاتَ وَالْعُزّى ، فَيَقُول وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ([14]).
وهكذا فشلت كلُّ الوسائل أن تزحزح كلَّ الصحابة عن الحق؛ لأنهم علموا وآمنوا أنهم على الحق..
وسأضرب لحضراتكم مثالاً آخر على هذا اليقين بالحق والاستمساك به ، ورفض أية مساومات عليه..
خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ ،وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ! إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنَا لَكَ جَارٌ، ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ .
فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ؟
فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ؛ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ.
ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ (يعني ظهر له ألا يقبل بذلك وأن يعلن دينه) فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَذَّفُ (أي يزدحم) عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ.
وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ؛ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي؛ فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ...الحديث ([15])
وإنما فعل أبو بكر ذلك، وردَّ الجِوار على ابن الدغنة ؛ لأنه أيقن أن ما يحمله هو الحق، ولا يجب أن يخفيه.. وهذا هو الإسلام الحق..
الأمرُ الأول إذن هو أن يعلم المسلم أن دعوة الإسلام هي الحق وأن ما دونها هو الباطل.
([1]) أخرجه مسلم في كِتَاب: الإيمان، باب: فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ 1/188 (197).
([2]) جزء من حديث ابن عباس أخرجه الترمذي -وقال : غريب-في كِتَاب: المناقب، باب: فِي فضل النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم 5/448 (3616).
([3]) أخرجه البخاري في كِتَاب الأدب، بَاب بَاب عَلَامَةِ حُبِّ الله عَزَّ وَجَلَّ10 /577 (6169).
([4]) أخرجه مسلم في كِتَاب البر والصلة والآداب، بَاب الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ 4 /2032 (2639).
([5]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي في أول الصحيح 1/ (3) .
([6]) أخرجه مسلم في كِتَاب الذكر والدعاء ، بَاب: التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ مَا عُمِلَ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ يُعْمَلْ4/2085 (2720).
([7]) أخرجه أحمد (23489) بسند صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم .
([8]) نقل هذا العرض إليه صلي الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة. انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/292.
([9]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/266.
([10]) الحديث عن جابر أخرجه الدارمي في المقدمة، باب: ما يتقى من تفسير حديث النبي صلي الله عليه وسلم1/126 (35)، وأحمد(15156)، وغيرهما، وله شواهد كثيرة تقويه.
([11]) أخرجه البخاري في كتاب: الإكراه، باب: رَحْمَةِ الْوَلَدِ وَتَقْبِيلِهِ وَمُعَانَقَتِهِ 10/426(5999)، ومسلم في كتاب: التوبة، باب: فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ 4/2109 (2754).
([12]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى .
([13]) أخرجه ابن ماجه بسند حسن في المقدمة، بَاب فَضْلِ سَلْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَالْمِقْدَادِ 1/53 (150) ، وأحمد1/404 (3832)، وصححه ابن حبان (7083) والحاكم3/284 ، ووافقه الذهبي .
([14]) السيرة النبوية لابن هشام 1/317 ، و361 .
([15]) أخرجه البخاري في كتاب : مناقب الأنصار ، باب : هجرة النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه
يتبع..........
الأساس الثاني: وجوب الاستمساك بهذا الحق
أنهم ما داموا على الحق فيجب أن يعتزوا به ويستمسكوا به ، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه فيما سبق ذكره.
فلابد أن تفخر بأنك على الحق، ولا تتوارى؛ لأنك تحمل أسمى رسالة وأعظم دعوة، وهي دعوة جميع الأنبياء، التي فيها صلاح البشرية وخلاصها من الشرور والمظالم المتراكمة ، وإخراجها من الظلمات إلى النور .
فعندما تكون في طريق سار فيه إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه، أليس هذا هو الفخر؟!!
عندما يكون أسلافُك في الطريق الذي تسير عليه هم أعظم الخلق.. هم خير خلق الله؛ فلابد أن تعتز بالإسلام.. هذا ما ألقاه النبي صلي الله عليه وسلم في قلوب أصحابه؛ فكانوا أعزة بهذا الدين ومعتزين به..
عن طارق بن شهاب ، قال : خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنهإلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراحرضي الله عنه فأتوا على مخاضة (يعني بِرْكة ممتلئة بالمياه) وعمر على ناقة له فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة ، فقال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا ، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك ، وتأخذ بزمام ناقتك ، وتخوض بها المخاضة ؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك ، فقال عمر : «أَوّه! لو يقل ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتُه نَكالاً لأمة محمد صلي الله عليه وسلم ! إنا كنا أذلَّ قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلبْ العزةَ بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله ».
وفي رواية : لما قدم عمرُ الشامَ لقيه الجنودُ وعليه إزارٌ وخُفَّان وعمامة، وهو آخذٌ برأس بعيره يخوض الماء ، فقال له -يعني قائل- : يا أميرَ المؤمنين تلقاك الجنودُ وبطارقةُ الشام وأنت على حالك هذا ؟! فقال عمر : « إِنا قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام ، فلن نبتغيَ العزَّةَ بغيره »([1])
فهذا سيدنا عمررضي الله عنه الذي فتح الله في عهده بيت المقدس للمسلمين، يخاطب أبا عبيدة بن الجراحرضي الله عنه -قائد الجيش الذي فتحها وأرسل إلى عمر ليتسلم مفاتيحها، ويتمنى لو أن أهل البلد رأوا أمير المؤمنين في صورة أفضل- فيقول له هذه المقالة التي تستحق أن تُسَطَّر بماء الذهب، والتي تعبر عن مدى اعتزازه بالإسلام، حقيقةً ومضموناً لا شكلاً ومظهراً .
فلا بُدَّ أن تعتزَّ بإسلامك، وترفع رأسك بأنك تحمل دعوةَ الإسلام؛ لأنك تحمل مشعلَ الهداية..
فحين تحمل رسالة الحق فأنت الطبيبُ الذي يداوي الناس.. وأنت النورُ الذي يهدي الحيران؛ ولذلك لا بد أن تعتز وترفع رأسك.. هكذا فهم المسلمون الأوائل الذين تربوا في مدرسة النبوة الكريمة..
ولذلك كان الصحابي من هؤلاء يدخل على ملوك الدنيا معتزاً بدينه وبالحق الذي يحمله، لا يرى نفسه دونهم ولا يجد في قلبه خشية من مواجهتهم بهذا الحق.
وهاك مثالا من حياة الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله عنه حين دخل على قادة الفرس في معركة القادسية :
عَنْ أَبِي وَائِلٍ شقيق بن سلمة، قَالَ: شَهِدْتُ الْقَادِسِيَّةَ، فَانْطَلَقَ الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَرضي الله عنه ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ سَرِيرِ رُسْتُمَ (قائد الفرس) وَثَبَ، فَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَنَخَرُوا، فَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ: مَا الَّذِي تَفْزَعُونَ مِنْ هَذَا؟ أَنَا الآنَ أَقُومُ فَأَرْجِعُ إِلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُكُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ(في رواية قال : مَا زَادَنِي فِي مِجْلِسِي هَذَا وَلَا نَقَصَ صَاحِبَكُمْ).
قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالَ الْمُغِيرَةُ: كُنَّا ضُلالًا فَبَعَثَ الله فِينَا نَبِيًّا وَهَدَانَا إِلَى دِينِهِ، وَرَزَقَنَا فِيمَا رَزَقَنَا حَبَّةً تَكُونُ فِي بِلادِكُمْ هَذِا، فَلَمَّا أَكَلْنَا مِنْهَا وَأَطْعَمْنَا أَهْلَنَا، قَالُوا: لا صَبَرَ لَنَا حَتَّى تُنْزِلُونَا هَذِهِ الْبِلادَ، قَالُوا: إِذًا نَقْتُلَكُمْ، قَالَ: إِنْ قَتَلْتُمُونَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، وَإِنْ قَتَلْنَاكُمْ دَخَلْتُمُ النَّارَ([2]).
وقال قُرَّةُ بنُ إِيِاسٍ المُزَنِي رضي الله عنه : لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْقَادِسِيَّةِ بَعَثَ الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَرضي الله عنه إِلَى صَاحِبِ فَارِسٍ، فَقَالَ: ابْعَثُوا مَعِي عَشَرَةً، قَالَ: فَشَدَّ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مَعَهُ جَحْفَةً، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَوْهُ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: أَلْقُوا إِلَيَّ بُرْنُسًا. فَجَلَسَ عَلَيْهِ.
فَقَالَ الْعِلْجُ: إِنَّكُمْ مَعَاشِرَ الْعَرَبِ قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى الْجِيئَةِ إِلَيْنَا، أَنْتُمْ قَوْمٌ لا تَجِدُونَ فِي بِلادِكُمْ مِنَ الطَّعَامِ مَا تَشْبَعُونَ مِنْهُ، فَخُذُوا نُعْطِكُمْ مِنَ الطَّعَامِ حَاجَتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ مَجُوسٌ وَإِنَّا نَكْرَهُ قَتْلَكُمْ، إِنَّكُمْ تُنَجِّسُّونَ عَلَيْنَا أَرْضَنَا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ جَاءَ بنا، وَلَكِنَّا كُنَّا قَوْمًا نَعْبُدُ الْحِجَارَةَ وَالأَوْثَانَ، فَإِذَا رَأَيْنَا حَجَرًا أَحْسَنَ مِنْ حَجَرٍ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا غَيْرَهُ، وَلا نَعْرِفُ رَبًّا حَتَّى بَعَثَ الله إِلَيْنَا رَسُولا مِنْ أَنْفُسِنَا فَدَعَانَا إِلَى الإِسْلامِ فَاتَّبَعْنَاهُ، وَأَمَرَنَا بِقِتَالِ عَدُوِّنَا مِمَّنْ تَرَكَ الإِسْلامَ، وَلَمْ نَجِئْ لِلطَّعَامِ، وَلَكِنْ جِئْنَا نَقْتُلُ مُقَاتِلَتَكُمْ وَنَسْبِي ذَرَارِيَّكُمْ.
فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنَّا كُنَّا لَعَمْرِي لا نَجْدُ مِنَ الطَّعَامِ مَا نَشْبَعُ بِهِ، وَرُبَّمَا لَمْ نَجِدْ رِيًّا مِنَ الْمَاءِ أَحْيَانًا، فَجِئْنَا إِلَى أَرْضِكُمْ هَذِهِ فَوَجَدْنَا فِيهَا طَعَامًا كَثِيرًا، فَلا وَاللَّهِ لا نَبْرَحُهَا حَتَّى تَكُونَ لَنَا أَوْ لَكُمْ.
قَالَ الْعِلْجُ بِالْفَارِسِيَّةِ: صَدَقَ، وَأَنْتَ تُفْقَأُ عَيْنُكَ غَدًا بِالْقَادِسِيَّةِ. فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ مِنَ الْغَدِ، أَصَابَتْهُ نُشَّابَةٌ([3]).
فأنت ترى كيف أن سيدنا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما دخل على رستم قائد الفرس ليتفاوض معه، كلّم رستم بغاية القوة ، وقرر مراده وحقيقة ما خرج المسلمون لأجله بغاية الوضوح ، وبلغ من عزته أن رد على استهانة رستم وتهديده بما يليق بذلك من الشدة الدالة على عزة المسلم وعزة الإسلام ، وترتب على ذلك أن ألقى الله في قلب رستم الرعب.. ونصر الله عز وجل المسلمين..
فلا بد من الاعتزاز بدين الله ويقول كل منا بفخر واعتزاز: أنا مسلم أومن بالله، وفي يدي لواء الهداية، والنور الذي يهدي..
قارورةُ الدواء التي يحتاجها العالم عند المسلمين، لو أحسنوا تعريف الناس بالإسلام.. ولو أن الدول الإسلامية قدّمت الإسلام كما ينبغي للبشرية؛ لدان الناس جميعا لهذا الدين..
الأساس الثالث: الثقة بنصر الله لهذا الحق
أنهم إذْ علموا أنهم على الحق واعتزوا به، يجب أن يثقوا بأن هذا الحق هو المنتصر بإذن الله رب العالمين {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَاوَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51)، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)، {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة: 21)، {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 40-41)
الله تبارك وتعالى جعل النصر لهذا الحق {إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128)، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}«قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَالله لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا الله وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ».([4]) (الأنبياء: 105) هذا وعد من الله، والنبي صلي الله عليه وسلم كان على يقين تام أنه منتصر؛ ولذلك ملأ قلوب أصحابه يقينا، ففي أثناء إيذاء قريش للمسلمين جاء إليه سيدنا خباب بن الأرت، وقد اشتد العذاب والإيذاء بأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم والنبي صلي الله عليه وسلم عند الكعبة، فقال خباب: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرْ لَنَا؟!، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟!، فَقَالَ:
ويقول صلي الله عليه وسلم: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلاَ يَتْرُكُ الله بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ -أي لا يترك بيتًا من الطين ولا بيتًا من الشعر إلا دخله الإسلام- إِلاَّ أَدْخَلَهُ الله هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ الله بِهِ الْكُفْرَ».([5])
كان رسول الله صلي الله علي