شرح متن الـجزريـة
للإمام العلامة المحقق الثقة
أبي الخير محمد بن محمد بن محمد الجزري
الشهير بابن الجزري
751هـ ـ 833هـ
تأليف
محمود بن محمد عبد المنعم بن عبد السلام العبد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، الحمد لله كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده حمدًا ملء السماوات والأرض وما بينهما، أحمده على نعمه وآلائه، وأصلي وأسلم علي سيدنا محمد e عبد الله ورسوله، الذي أرسله الله بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهو الرحمة المهداة، وسيد البشر، نبي ما طلعت الشمس على أشرق منه وجهًا ولا أنور، وأشهد أنه قد بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغُمَّة، وجاهد في الله حق جهاده، بأبي هو وأمي وبنفسي وبكل ما أملك، فجزاه الله عنا خير ما جزى به نبيًا عن أمته، اللهم أحينا على سنته، وتوفنا على ملته، واحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، ولا تفتنا بعده، وارزقنا مرافقته في الفردوس الأعلى، ومتعنا معه بلذة النظر إلى وجهك الكريم، فأنت ذو الفضل العظيم، وارض اللهم عن أصحابه الطاهرين الكرام، فلقد رضينا عنهم لرضاك ورضا رسولك e عنهم، وعادينا كل من أبغضهم وعاداهم.
وبعد:
اعلم ـ أخي في الله ـ أن لله علينا نعمًا لا تُعد ولا تحصى، وأجَلُّ وأعظم هذه النعم القرآن الكريم، قال الله عز وجل في سورة النحل التي هي سورة النعم، قال سبحانه: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ... ﴾ [النحل: 1، 2] فأول نعمة ذكرها الله عز وجل هي نعمة إنزال الوحي على الرسل، وأجل الكتب السماوية القرآن الكريم؛ فهو النور والبرهان والحجة.
من سار على نهجه سلك، ومن تركه هلك، رفع الله به أقوامًا فجعلهم يمشون على الأرض، وقلوبهم ترفرف حول العرش، أحيا الله ذكرهم بالقرآن في حياتهم، وبعد موتهم، جعلهم رجالاً تحيا بذكرهم القلوب، حملوا راية الإسلام، ونقلوا لنا القرآن عذبًا كما أنزل، جعلنا الله منهم... آمين.
وأَذَلَّ الله بهذا القرآن آخرين، لما تركوا العمل به، ولم يأتمروا بأوامره، ولم ينتهوا بزواجره، وهجروا قراءته، وتركوا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، فاسودت في وجوههم الدنيا، وأصبحوا كالبيوت الخربة، قلوبهم ميتة، لا تهزهم الآيات، ولا تنضح لهم الخبايا والعلامات، فقدوا التلذذ بحلاوة القرآن الكريم وما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم، فصاروا أقوامًا تموت بذكرهم القلوب، وتشمئز من ذكرهم النفوس، نسأل الله أن لا يجعلنا منهم... آمين.
وبعد، فأقول:
إن مما دفعني إلى التقدم لشرح متن الجزرية للعلامة الإمام الثقة العدل بشهادة الأمة، الإمام أبي الخير محمد بن محمد بن محمد بن يوسف الجزري، الشهير بـ(ابن الجزري) ـ دفعني إلى ذلك ـ بعد رضا الله عز وجل وثوابه ما رأيته من حاجة بعض طلبة هذا العلم الشريف إلى شرح وافٍ لهذه المنظومة المباركة بإذن الله عز وجل، وأيضًا ما رأيته من أخطاء يقع فيها كثير ممن يحفظون كتاب الله عز وجل، والتي ينبغي أن لا يقعوا فيها، وأيضًا ما رأيته من إنكار بعض أساتذتي لبعض مواضع في كتب مختلفة من الكتب التي تتكلم في علوم التجويد، إلى غير ذلك.
ولقد ضمنت هذا الشرح إضافات وزيادات لابد من معرفتها، وجمعت بفضل الله عز وجل فوائد من هنا وهناك، وبعض أقوال أهل العلم حتى يتضح المقال، ويظهر البيان، واعلم أن ما ضمنته في هذه الورقات هو أدنى جزء ينبغي لطالب علوم القرآن خاصة أن يَعْلَمَهُ، حتى يكون على بينة من أمره، وحتى يكون بإذن الله في طريقه لأن يكون مع السفرة الكرام البررة.
وعليك أخي طالب العلم، وأخص طالب علوم القرآن الكريم، أن تخلص لله عز وجل في الطلب، وتجتهد فيه، وتبذل من وقتك ومالك، لتتعلم شيئًا ينفعك في دنياك وآخرتك، وعلِّم القرآن لأي إنسان طلب ذلك منك، ولا تذله، وتواضع له، وتذكر أن ما عندك هو كله من فضل الله عز وجل، وأنك كنت لا تعلم من ذلك شيئًا، وابتغ بذلك وجه الله عز وجل وثوابه، وسر على نهج رسول الله e وأصحابه والعلماء الصالحين، وتورع عن أن تأخذ أجرًا على تعليم كتاب الله عز وجل، وعلّمه كلما أمكنك ذلك، وعلمه لمن هو أهل لذلك، واعمل بمقتضاه، وكن قرآنًا يمشي على الأرض كما كان رسول الله e قرآنًا يمشي على الأرض، واقرأه بتدبر وخشوع آناء الليل في قيامك، وأطراف النهار، واحرص على ما ينفعك، ولا تتدخل فيما لا يعنيك، وكن بارًا بوالديك، ولتكن عليك عزة المؤمن من غير تكبر، ولا تذل نفسك لحقيري النفس، ولا تركن إلى الدنيا وزينتها، وخذ منها ما يعينك على طاعة الله عز وجل ويجعلك في غنىً عن الناس، وتضرع إلى الله في الرخاء وفي الشدة، ولا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله عز وجل، فهو من زينة المؤمن، واعلم أنك تحمل في صدرك أشرف وأعز وأعظم شيء وهو كلام الله عز وجل، فاحفظ لذلك قدره، وضعه في موضعه، ولتكن شامة بين الناس، تمتاز بخلقك وسمتك وهيأتك ولباسك الإسلامي
ولتكن حيث يحب الله أن يراك، ولا تكن حيث يحب الله أن يفتقدك، واعلم أن كتاب الله عز وجل حمله إلينا الرجال المؤمنون المخلصون العباد الزهاد الثقات بشهادة الأمة الإسلامية، وبشهادة أعدائها، فلتكن واحدًا من هذا السند الشريف المبارك، ومن هذه الزمرة الطيبة، وتحلَّ بأخلاق عباد الله الصالحين.
وليكن قدوتك وأسوتك رسول الله e فاقرأ سيرته، وانظر إلى أخلاقه، واقرأ في سير الصالحين، وتخلق بأخلاقهم، ولا تغرنك زخرفة ورقات الكتب، ولا تنظر إلى الورق الأبيض والورق الأصفر، ولكن اهتم بمادة الكتاب العلمية، وانظر إلى فوائده، ولقد كان من العلماء من لا يجد ورقًا يكتب عليه فيكتب على ما يراه صالحًا للكتابة عليه، وطلبة العلم في هذه الأيام ترى كثيرًا منهم لا يشتري الكتاب لأن ورقه أصفر، وهو جاهل بهذه الدرر والكنوز التي يحتويها هذا الكتاب.
وغفر الله لي ولك ولإخواننا تقصيرنا في حق الله عز وجل، ونسأله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الكتاب كاتبه وقارءه ومتعلمه وكل من شارك فيه وفي نشره، وأن يجعله زادًا لنا في الدارين، وأن يقبله منا، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجعله في ميزان حسناتنا، اللهم اجز نبينا عنا خير ما جزيت به نبيًا عن أمته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وبارك على نبينا محمد e وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
([1] ) من "حرز الأماني ووجه التهاني" للإمام الشاطبي