أنفق ينفق عليك (2)
أحبَّتي في الله، عَودًا على بدء أقول: هذه باقة من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبيّن لنا أهمّيَّة النَّفقة والإنفاق في سبيل الله - جل وعلا - وتحثُّنا حثًّا عظيمًا للمسارعة في هذا الباب العظيم.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - تعالى -: أنفق أُنفق عليْك))، وقال: ((يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحَّاء اللَّيل والنَّهار، أرأيتُم ما أنفق منذ خلق السَّماوات والأرض فإنَّه لم يَغِضْ ما بيدِه، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يَخفض ويرفع))؛ متَّفق عليه: البخاري (4684) مسلم (993).
وعنْه أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من يوم يُصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: الَّلهم أعْطِ منفِقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللَّهم أعْطِ ممسكًا تلفًا))؛ متَّفق عليه: البخاري (1442) ومسلم (1010).
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا ابن آدم، إنَّك أن تبذل الفضل خيرٌ لك، وأن تُمسكَه شرّ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بِمَن تعول، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى))؛ أخرجه مسلم (1036) وغيره.
وعن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما طلعت شمس قطّ، إلاَّ وبجنبيها ملَكان يُناديان: اللَّهم مَن أنفق فأعقبْه خلفًا، ومَن أمسك فأعقبه تلفًا))؛ أخرجه الحاكم في المستدرك (2 /445) والبيهقي في "شعب الإيمان" (3412) وابن حبَّان في صحيحه (3319) وغيرهم بإسناد صحيح.
وعن الإمام مالك - رحمه الله - أنَّه بلغه عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ مسكينًا سألها وهي صائمة، وليس في بيْتها إلاَّ رغيف، فقالتْ لمولاة لها: أعْطيهِ إيَّاهُ، قالت: ففعلتُ، فلمَّا أمسيْنا أهدى لها أهلُ بيت أو إنسان ما كان يُهدي لنا؛ شاة وكنفها، فدعتْها فقالت: كُلي من هذا، هذا خيرٌ من قرصك؛ رواه مالك في الموطَّأ (2 /997).
قلتُ: وما حدث لعائشة - رضي الله عنها - هو مصْداق لقول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - تعالى -: أنفق أُنفِق عليك))، وصدق الله إذْ يقول: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 96].
عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما مِن يوم طلع شمسُه إلاَّ وبجنبتيها ملكان يُناديان نداءً يسمَعُه خلق الله كلّهم غير الثَّقلين: يا أيُّها النَّاس، هَلُمُّوا إلى ربِّكم، إنَّ ما قلَّ وكفى خيرٌ ممَّا كثُر وألْهى، ولا آبت إلاَّ وكان بجنبتيْها ملَكان يُناديان نداءً يَسمعه خلقُ اللَّه كلّهم غير الثَّقلين: اللَّهم أعْطِ منفقًا خلفًا وأعْطِ ممسكًا تلفًا)).
وأنزل الله في ذلك قرآنًا في قوْل الملكين: ((يا أيُّها النَّاس، هلمُّوا إلى ربِّكم)): (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [يونس: 25]، وأنزل في قولِهما: ((اللَّهم أعطِ منفقًا خلفًا، وأعْطِ ممسكًا تلفًا)): (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [اللَّيل: 1 - 10]؛ رواه الحاكم في المستدرك (2 /445) والبيهقي في شُعَب الإيمان (3412).
مثل المنفق والبخيل:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مثَل البخيل والمنفق، كمثل رجُلَين عليهما جُنَّتان من حديد من ثُديِّهما إلى تراقيهما؛ فأمَّا المنفِق، فلا ينفق إلاَّ سبغتْ أو وفرتْ على جلده حتى تُخفي بنانه وتَعْفُو أثرَهُ، وأمَّا البَخيل فلا يُريد أن يُنفق شيئًا إلاَّ لزمت كلّ حلقة مكانَها فهو يوسّعها فلا تتَّسع))، وفي رواية: ((...فجعل المتصدّق كلَّما همَّ بصدقة قَلصتْ، وأخذت كلّ حلقة بمكانِها))، قال أبو هريرة: فأنا رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بأصبعه هكذا في جيبِه يوسعها ولا تتوسَّع؛ متَّفق عليه: أخْرجه البخاري (1375) ومسلم (1021).
معنى الحديث:
أنَّ المنفق كلَّما أنفق طالتْ عليه، وسبغت حتَّى تستر بنان رجْلَيه ويديْه، والبخيل كلَّما أراد أن ينفق لزمتْ كلّ حلقة مكانَها فهو يوسعها ولا تتَّسع، شبَّه - صلى الله عليه وسلم - نِعَم الله - تعالى -ورِزْقَه بالجُنَّة، وفي رواية: بالجبَّة، فالمنفق كلَّما أنفق اتَّسعت عليه النِّعَم وسبغت، ووفرت حتَّى تستره سترًا كاملاً شاملاً، والبخيل: كلَّما أراد أن ينفق منعه الشّحّ والحرص، وخوف النَّقص، فهو بمنعه يطلب أن يزيد ما عنده، وأن تتَّسع عليه النِّعَم، فلا تتَّسع ولا تستر منْه ما يروم ويلزم ستره،، والله أعلم.
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على بلالٍ وعِنْدَه صُبَرٌ من تمرٍ، فقال: ((ما هذا يا بلال؟)) قال: أعدُّ ذلك لأضيافك، قال: ((أما تَخشى أن يكون لك دخانٌ في نار جهنَّم؟ أنفق يا بلالُ، ولا تَخش من ذي العرْش إقلالاً))؛ رواه البزَّار في كشف الأستار (3654)، وقال الهيثمي في مجمع الزَّوائد (3 /126): رواه الطَّبراني في الكبير ورجاله ثقات.
وفي رواية أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عاد بلالاً فأخرج له صُبرًا من تَمر، فقال: ((ما هذا يا بلالُ؟)) قال: أدَّخره لك يا رسولَ الله، قال: ((أما تَخشى أن يُجْعَلَ لك بخار في نار جهنَّم؟ أنفق يا بلالُ، ولا تخْش من ذي العرش إقلالاً))؛ رواه أبو يعلى (6040) والبزَّار في كشف الأستار (3654)، وقال الهيثمي في "مجمع الزَّوائد" (3 /126): رواه الطبراني في الكبير والأوْسط بإسناد حسن.
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا حسدَ إلاَّ في اثنتَين، رجل آتاه الله مالاً، فسلَّطه على هلكتِه في الحقّ، ورجُل آتاه الله حكمةً فهو يقْضي بها ويُعَلِّمُها))؛ متَّفق عليه: البخاري (73) ومسلم (815).