ما زال في مخيلتي ذلك الطيف الحزين, تلك العجوز الجالسة لوحدها تتأمل الأفق, كانت الساعة السابعة مساءاً عندما هممت بالخروج أنا وزوجتي...سيدة مسنة على شرفة بيتها ترقب الغروب بصمت سحيق... قلت في نفسي: لا بد أن تكون هذه العجوز تنتظر شيئا ما, أو قدوم غائب بعد سفر, فهي غارقة في صمتها متأملة للطبيعة والحياة ... وبدأت افكر في أمرها...هل هي مريضة.... وحيدة... حزينة؟!
هممت بالخروج وتقاسيم وجه هذه العجوز ما زال في مخيلتي, شعر أشيب, ووجه شاحب مجعد تبدو علية آثار الزمن الغابر, ويدين يابستين كقطعة جلد قديمة, مرت ثلاثة أيام... وفي كل يوم كنت أرى هذه العجوز تجلس وحدها تنظر نحو الأفق, تناجيه بعينيها الحزينتين الغائرتين في وجهها...فكرت كثيرا في أمر هذه العجوز , وقررت أن أبادرها الحديث وأن أسالها عن أحوالها... تقدمت نحو الشرفة وقلت لها: مساء الخير، نظرت نحوي بحيرة وإستغراب, وعيناها تفيضان حزنا وألما, ...هل تعيشين لوحدك في هذا المنزل؟!
قالت بصوت يقطر هدوءاً ... نعم, فقد مات زوجي منذ سنوات وأنا أعيش لوحدي, قلت: ألا تخرجين ؟ ألا يأتي أحد لزيارتك, اين أبناؤك وبناتك ؟
هزت العجوز رأسها وكأنما تنفض عن ذاكرتها رماد الزمن الغابر، وقالت لي صديق يا بني يزورني دائما واتحث إليه، أفضي إليه بكل أحزاني وآلامي... أسهر معه في كل ليلة حتى السحر ثم يودعني ويذهب ... احسست أن نبرة صوتها تخفي شيئا ما, وبدى الإستغراب يظهر في نظراتي إليها, وبدت عليّ أثار الوجوم والحزن ... ثم استجمعت مشاعري وقلت: وأولادك؟!
قالت: إن لي ولدين وبنت...أما البنت فقد ذهبت مع زوجها للعيش في الخليج, وأما إبني الأكبر فيعيش في عمان, أما ابني الثاني فيعيش هنا في المدينة, وهنا قاطعتها قائلا: وهل يأتوا لزيارتك؟ّ! قالت لا, لا أحد منهم يأتي لزيارتي يا بني ... لقد كانت آخر مرة دخلوا فيها بيتي منذ شهور طويلة, ولم أر أيا منهم بعدها...
وهنا ثارت في نفسي زوبعة من الأفكار, يا إلهي...ألهذا الحد تسحقنا عجلة الحياة وننسى فيها آبائنا وأمهاتنا! وهل هذه هي الحضارة والمدنية ؟! وهل الجفاء والقسوة من مقتضيات العيش في هذا العالم المادي؟! أم أن نفوسنا قد أقفرت من الحب والجمال فبتنا آلات تحركنا أصابع الدهر, وتكسرنا عجلة الأيام؟ ننسى من كانوا سرا لوجودنا، وننسى الماضي القريب الذي عانوا فيه الأمرين لتربيتنا...رحمك الله يا امي كم كنت تسعدين عندما ناتي انا واطفالي لزيارتك...فنقضي معك أجمل الاوقات...نستمع إلى حكاياتك العذبة...لتروي فيها ضمأ الروح... رحمك الله يا أبي...أيها المتجذر في الأرض وقلبي ...رب ارحمهما كما ربياني صغيرا...
أما أنت أيها القمر ...يا أنيس الوحيدين في الليل...شكرا لك, يا من تنثر أشعتك الرخية على وجوه المحرومين والحزينين والبؤساء فتنيرها وتسعدها, فنستقي منك الحنان, ونلتمس فيك الهدوء والتأمل, ونستعين بك على الوحدة...
ودعت تلك العجوز, واستأذنتها أن نأتي إليها بين حين وآخر
فنجلس معها ونستمع إليها ونؤنس وحشتها ونكون معها أصدقاء للقمر.
* قصة رمزية مستوحاة من واقع زيارتي للصديق الدكتور عوني علي سليم القضاة في ضاحية Lanham في ولاية ميريلاند الأميركية صيف عام 2009
د. عاطف القاسم
هممت بالخروج وتقاسيم وجه هذه العجوز ما زال في مخيلتي, شعر أشيب, ووجه شاحب مجعد تبدو علية آثار الزمن الغابر, ويدين يابستين كقطعة جلد قديمة, مرت ثلاثة أيام... وفي كل يوم كنت أرى هذه العجوز تجلس وحدها تنظر نحو الأفق, تناجيه بعينيها الحزينتين الغائرتين في وجهها...فكرت كثيرا في أمر هذه العجوز , وقررت أن أبادرها الحديث وأن أسالها عن أحوالها... تقدمت نحو الشرفة وقلت لها: مساء الخير، نظرت نحوي بحيرة وإستغراب, وعيناها تفيضان حزنا وألما, ...هل تعيشين لوحدك في هذا المنزل؟!
قالت بصوت يقطر هدوءاً ... نعم, فقد مات زوجي منذ سنوات وأنا أعيش لوحدي, قلت: ألا تخرجين ؟ ألا يأتي أحد لزيارتك, اين أبناؤك وبناتك ؟
هزت العجوز رأسها وكأنما تنفض عن ذاكرتها رماد الزمن الغابر، وقالت لي صديق يا بني يزورني دائما واتحث إليه، أفضي إليه بكل أحزاني وآلامي... أسهر معه في كل ليلة حتى السحر ثم يودعني ويذهب ... احسست أن نبرة صوتها تخفي شيئا ما, وبدى الإستغراب يظهر في نظراتي إليها, وبدت عليّ أثار الوجوم والحزن ... ثم استجمعت مشاعري وقلت: وأولادك؟!
قالت: إن لي ولدين وبنت...أما البنت فقد ذهبت مع زوجها للعيش في الخليج, وأما إبني الأكبر فيعيش في عمان, أما ابني الثاني فيعيش هنا في المدينة, وهنا قاطعتها قائلا: وهل يأتوا لزيارتك؟ّ! قالت لا, لا أحد منهم يأتي لزيارتي يا بني ... لقد كانت آخر مرة دخلوا فيها بيتي منذ شهور طويلة, ولم أر أيا منهم بعدها...
وهنا ثارت في نفسي زوبعة من الأفكار, يا إلهي...ألهذا الحد تسحقنا عجلة الحياة وننسى فيها آبائنا وأمهاتنا! وهل هذه هي الحضارة والمدنية ؟! وهل الجفاء والقسوة من مقتضيات العيش في هذا العالم المادي؟! أم أن نفوسنا قد أقفرت من الحب والجمال فبتنا آلات تحركنا أصابع الدهر, وتكسرنا عجلة الأيام؟ ننسى من كانوا سرا لوجودنا، وننسى الماضي القريب الذي عانوا فيه الأمرين لتربيتنا...رحمك الله يا امي كم كنت تسعدين عندما ناتي انا واطفالي لزيارتك...فنقضي معك أجمل الاوقات...نستمع إلى حكاياتك العذبة...لتروي فيها ضمأ الروح... رحمك الله يا أبي...أيها المتجذر في الأرض وقلبي ...رب ارحمهما كما ربياني صغيرا...
أما أنت أيها القمر ...يا أنيس الوحيدين في الليل...شكرا لك, يا من تنثر أشعتك الرخية على وجوه المحرومين والحزينين والبؤساء فتنيرها وتسعدها, فنستقي منك الحنان, ونلتمس فيك الهدوء والتأمل, ونستعين بك على الوحدة...
ودعت تلك العجوز, واستأذنتها أن نأتي إليها بين حين وآخر
فنجلس معها ونستمع إليها ونؤنس وحشتها ونكون معها أصدقاء للقمر.
* قصة رمزية مستوحاة من واقع زيارتي للصديق الدكتور عوني علي سليم القضاة في ضاحية Lanham في ولاية ميريلاند الأميركية صيف عام 2009
د. عاطف القاسم