الأمة وثقافة الإنهزام
منذ أن استخلف الله الإنسان في الأرض وأقامه فيها لعبادته وإعمار أرضه، سخّر له كل مافيها لكي يفكر ويستنتج ،ويعمل كل ما من شأنه أن ينفعه ويجعل من الأرض مستقرّا صالحا للعيش الطيب ، وتتابعت الرسل والرسالات على الأرض لكي يظل الإنسان مرتبطا بالله ، حاكما بشرعه ونهجه الذي ارتضاه له.
وتنوعت وتعاقبت الأمم كذلك في سلّم الحضارات ،فمنها حضارات عاشت وأمدت البشرية بأنماط من الآثار المتباينه ،ومنها ماخلّده التاريخ لحسنه ونفعه للبشرية ،ومنها ما ذهب أدراج الرياح، ونسيه التاريخ وأسقطه من حسابه فطواه النسيان.
ولأننا أمة لها من الحضارة والتميّز، ما يضعها في قمّة سلّم الأمم بفضل عقيدتها البنّاءة ،وشريعتها المرنة ،ومنهجيتها في التفكير الإبداعي القائم على تحرير العقل وإطلاق القدرات الفاعلة ،والحث الدائب على العمل الجاد الدؤوب لكل ما فيه مصلحة الإنسان ،دون النظر إلى ما بين البشر من التباين العقائدي،والإجتماعي ،والعرقي.
وذلك لأن الإنسان في هذه الحضارة مكرم كإنسان فإنه لمن المؤسف أن يتراجع أداؤنا ويضعف دورنا، ولكننا أبدا لن نتلاشى وأبدا لن تغيب شمسنا بإذن الله وبما أن الدوام و الإستمرارية على نفس الحال من القوة أو الضعف من المحال
،
إن ما يعتري الأمة المسلمة اليوم من التراجع الحضاري، أمر طبيعي ناجم عن عدة عوامل.
لعل أبرزها تهميش دور الدين في حياتنا العامة والخاصة،وانشغالنا بالفرعيات والجزئيات والمسائل الخلافية إضافة إلى تكالب الأمم عليناوإشغالنا بحروب دائمة منهكة ومتتابعة ممّا جعل جهد الأمة موزّعا على أكثر منصعيد،إلا أنّ هذا لا يستدعي التوقف المتهاون عن العمل الدائب في مشروع الأمةالنهضوي، والسعي إلى استرجاع كرسي الاستاذية، الذي ظل ولقرون طوال ملكا لها تتوارثهجيلا بعد جيل.
كما أنه لا يعني أبدا أن نتيح المجال للمحبطين والناعيين على الخراب، أولئك الذين يبثون في أجيالنا ثقافة الانهزام، وروح اليأس، والاستسلام لثقافة ومنهجية شرعة الآخر، وهو ما يسعى إليه ويبتغيه كل أعداء الأمة، وهو ما نلمسه أيضا من تكالب الأمم على أمة الإسلام لإيهانها وإفناء فكرها ومقومات نهضتها.
وإنه لمن الخطأ الشنيع أن ترتفع هنا وهناك أصوات تندب حضارتنا وتنعى وجودنا وتضعنا جنبا إلى جنب مع الحضارات البائدة والأمم المندثرة، وهي دعوات تتباين أهدافها وتتعدد مصادرها ،فمنها تلك الأصوات المشفقة التي ظنّت أن الأمة في طريقها إلى الفناء الحضاري،
كنتيجة حتمية لبعدنا عن تعاليم الله، وعدم أخذنا بأسباب التقدم ، وضعف التأثير في الآخر،بل ومسارعتنا إلى السير في ركابه.
وهي معطيات من وجهة نظر المشفقين تنذر بالضياع إن لم تكن ضياعا حقيقيا،وهنا تبدأ
الآراء المتشائمةوالتفسيرات المحبطة ، والدعوات المستسلمة، لتصل إلى أجيال الأمة جيلا فجيلا،وتتناقلالأمة الفكر الإنهزامي كواقع لا مفر منه، ووضع يصعب التخلّص منه، وتنطلق الأفكارالإستسلامية،في دعوة صريحة للأمة أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان فلنجلس وننتظر ماياتي به المستقبل .
والذي هو أيضاً من نفس وجهة النظر قاتم ولا يبشر بخير ومن هناك تنطلق أصوات الظلام تفح وتنفث سمومها في أوساط الأمة التي تعرف أنها ضعفت وتدرك أنها تراجعت ، وتعي أنّ واقعها لا يسرّ ولا يرضي فتسمع أصواتاً هنا تلقيباللائمة على الدين ككلّ، لكي يتسنّى لها الوصول إلى نقطة إتهام الإسلام بالتحديد ،كعقيدة وشريعة بالتخلف الحضاري الذي وصلت إليه الأمة،
فالدين هنا أفيون الشعوب حينا، ومشاعر صبيانية حيناً آخر، وأيديولوجية متحجرة تتلاعب بمشاعر الناس، وتحجر على أفكارهم.
وهو في أحسن حالاته قيد اضطهادي يحجم دور المرأة ،ويقيدمشاعرها، ويجعلها جارية مملوكة للرجل، وهو أيضا سبب الحروب ، ومثير الفتن بين بنيآدم كلّهم في الشرق والغرب.
وهذا كلّه يتم وفق برامج محددة الهدف خبيثة واسعة الأساليب متعددة ومتطورة ، بل لربما وضعت كل الإمكانات في خدمة برنامجها المدمّر للأمة، وفي حرب ناعمة حينا، وشرسة أحيانا يهاجم الإسلام ، ويغزى في قلوب أبنائه وافكارهم.
ويسعى أعداؤه إلى تدميره بكل قيمه ورقيّه وواقعيته وإيجابياته ، فالحرب الحقود لا تتوقف، والوسائل المؤثرة لا تنفك ّتسفر عن كل ّ جديد وخبيث.
كل هذا ونحن نسهم في مسح أدمغة أبنائنا ولا نضع لأنفسنا منهجاً يساعدهم على التعرف إلى مقوّمات حضارتهم وروعة تاريخ أمتهم،ورحابة دينهم وقدرته على استيعاب الكون بما فيه ومن فيه ،كل ذلك في نسق إنساني وحضاري وعقائدي راق وبنّاء ومتفهّم .
حقاً يكفينا تباكِ على ما فاتواستسلام للوهن والخور، ورضا بكل ما يقذفه لنا الغرب والشرق من تفاهة الفكر وانحطاطالأخلاق،واستهانة بالدين ،ولنركّز على استعادة ثقة أجيالنا بالمستقبلواتخاذهم من دين الله سبباً ووسيلة للرفعة والعزة، ومن ماضينا البديع وصنّاعهالمبدعون قدوة ومثالا، ولنحيي في الأمة روح الحرية والكرامة التي لم تتحقق لأمة منالأمم كما تحققت لأمة الإسلام.
ولنزيل ركام الوهم الذي غرسه فينا أعداؤنا حين أوهمونا بأن شمسنا أفلت وأن زماننا ولّى وأن حضارتنا محض وهم زال ولن يعود.
ولنتحدّث إلى أمتنا والدنيا بأسرها بلسان الحق الواضح الجلي
أليست هذه مآذننا التي تصدح في كل بقاع الأرض بالوحدانية؟ أوليست هذه الجموع التي تدخل جماعات ووحدانا في الإسلام كل يوم هي رافد غزير وشاهد حيّ على بقائنا ونمائنا وحياتنا المعطاءة للإنسانية ؟
.
يا أمة الإسلام لا تقعدنك الكبوة، ولا تردنّك الهفوة، ولا يستضعفنك المرجفون، ولا يثنينك عن خوض غمار المعالي وهن الموهنين.