بسم الله الرحمن الرحيم
إن ترتيب الآيات والسور القرآنية في رسم المصحف لم يتم حسب ترتيب النزول، بل تم ذلك بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام؛ فأول ما نزل من القرآن أوائل سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وبعدها سورة القلم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، وبعدها سورة المزمل، ثم المدثر، ثم الفاتحة.
أما ترتيبها في المصحف فهو غير ترتيب النزول؛ فالعلق في النزول رقم (1) بينما في ترتيب المصحف رقمها (96)، والقلم في النزول رقم (2) وهي في ترتيب المصحف رقم (68)، والمزمل رقمها (3) في النزول بينما رقمها في ترتيب المصحف (73)، والمدثر رقمها في النزول (4) وفي ترتيب المصحف (74)، والفاتحة في النزول رقم (5) بينما هي في ترتيب المصحف رقم (1).
أما ترتيب الآيات فلم يكن أيضاً وفق تعاقب نزولها، ويكفي دلالة على ذلك أن أول ما نزل من القرآن الآيات الأولى من سورة العلق، وكان نزولها بِحِراء، ثم نزلت أواخرها بعد ذلك بما شاء الله، ووقع بين نزول أولها ونزول آخرها نزول سور القلم والمزمل والمدثر وغيرها.
وهذه سورة القلم الثانية نزولاً قد داخلتها آيات نزلت بالمدينة وهي الآيات (17-33 و 48-50)، وهذا يوضح لنا ظاهرة إدراج آيات مكية في سور مدنية وآيات مدنية في سور مكية، فلم يكن مكان نزول الآيات هو الذي حدّد موضعها في المصحف؛ فمثلاً سورة المزمل مكية بينما الآية الأخيرة منها مدنية، وبينها وبين بقية آيات السورة عشر سنوات أو أكثر، كما أن سبع آيات مكية نُظمت في سورة الأنفال المدنية وهي من قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:30-36] [انظر دراسات قرآنية لمحمد قطب، ص 18-19].
إذاً ترتيب الآيات كان بالتوقيف من رسول الله عليه الصلاة والسلام، والدليل ما أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: “ما حَمَلَكُم على أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني، وإلى (براءة) وهي من المئين ففرقتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموها – أي الأنفال – في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟
فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أُنزلت في المدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال فظننت أنها منها، فقُبض رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قَرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) فوضعتها في السبع الطوال”. [الحديث: سنن الترمذي / باب تفسير سورة التوبة، رقم 3086].
والذي يُفهم من حديث عثمان رضي الله عنه أن ترتيب سورة براءة بعد سورة الأنفال كان اجتهاداً منه لتشابه قصتيهما، فلا بد إذن من بيان اختلاف العلماء في ترتيب السور القرآنية على ثلاثة مذاهب كما يلي:
المذهب الأول: أن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم. قال بذلك مالك والقاضي أبو بكر وابن فارس، واستدلوا على ذلك باختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور قبل جمع عثمان رضي الله عنه.
المذهب الثاني: أن ترتيب السور كله توقيفي بتوجيه الرسول عليه الصلاة والسلام، والدليل إجماع الصحابة على مصحف عثمان وعدولهم عن غيره بل إحراقهم لما يخالفه.
المذهب الثالث: أن ترتيب بعض السور كان توقيفيّاً، وترتيب بعضها كان باجتهاد من الصحابة، قال الزرقاني: ولعله أمثل الآراء، وقال السيوطي: كل الترتيب كان توقيفيّاً إلا ترتيب سورتي الأنفال وبراءة، بدليل حديث عثمان السابق ذكره، ومثل ذلك قاله الحافظ الثقفي معتمداً على التسليم بأن الصحابة رضوان الله عليهم هم العارفون بأسباب النزول ومواضع الكلمات، وهم الأمثل في فهم القرآن ووعيه على ما كانوا يسمعونه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمنه على هذا المذهب ما فيه التوقيف القولي والعملي، ومنه ما بقي لهم فيه مجال نظر واجتهاد [انظر البرهان في تناسب سور القرآن لأحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، والبرهان في علوم القرآن، وترتيب السور للسيوطي، وترتيب السور لمحمد دروزة، والإعجاز للباقلاني، ومناهل العرفان للزرقاني].
وأما عن آخر ما نزل من القرآن، فقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام آية الربا، وأورد الطبري بسنده عن ابن عباس أيضاً أن آخر آية نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام هي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
والملاحظ أن بين الروايتين تعارض، ولكن استطاع الإمام ابن حجر العسقلاني أن يجمع بين الروايتين بأن الرواية الأولى تعني أن آخر ما نزل آية الربا وهي من رقم [275-280/البقرة]، والرواية الثانية تعني أن آخر ما نزل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} هي الآية رقم [281/البقرة]، فيلاحظ أن الآيات متتابعة؛ فالرواية الأولى مبدأ الآيات، والرواية الثانية تشير إلى أواخرها [فتح الباري / 8 / 258].
ثم هناك روايات أخرى عن ابن شهاب (ت 124هـ) وعن سعيد بن المسيب (ت 94هـ) أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدَّين وهي ذات الرقم 282/البقرة، فإنهم جمعوا بين هذه الآثار بأنه يمكن أن تكون آية الدَّين نزلت مع الآيات التي سبقتها في النظم لكن ترتيب رسمها لم يكن كترتيب نزولها، والله تعالى أعلم.
****
مقال من مجلة الفرقان
بقلم : عبد الرحمن جبريل / مجاز بالقراءات العشر المتواترة
****
1- البرهان في علوم القرآن للزركشي.
2- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي.
3- قواعد التدبر الأمثل للميداني.
4- دلائل النظم للفراهي.
5- دراسات قرآنية لمحمد قطب.
6- صحيح البخاري.
7- سنن الترمذي.
إن ترتيب الآيات والسور القرآنية في رسم المصحف لم يتم حسب ترتيب النزول، بل تم ذلك بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام؛ فأول ما نزل من القرآن أوائل سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وبعدها سورة القلم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، وبعدها سورة المزمل، ثم المدثر، ثم الفاتحة.
أما ترتيبها في المصحف فهو غير ترتيب النزول؛ فالعلق في النزول رقم (1) بينما في ترتيب المصحف رقمها (96)، والقلم في النزول رقم (2) وهي في ترتيب المصحف رقم (68)، والمزمل رقمها (3) في النزول بينما رقمها في ترتيب المصحف (73)، والمدثر رقمها في النزول (4) وفي ترتيب المصحف (74)، والفاتحة في النزول رقم (5) بينما هي في ترتيب المصحف رقم (1).
أما ترتيب الآيات فلم يكن أيضاً وفق تعاقب نزولها، ويكفي دلالة على ذلك أن أول ما نزل من القرآن الآيات الأولى من سورة العلق، وكان نزولها بِحِراء، ثم نزلت أواخرها بعد ذلك بما شاء الله، ووقع بين نزول أولها ونزول آخرها نزول سور القلم والمزمل والمدثر وغيرها.
وهذه سورة القلم الثانية نزولاً قد داخلتها آيات نزلت بالمدينة وهي الآيات (17-33 و 48-50)، وهذا يوضح لنا ظاهرة إدراج آيات مكية في سور مدنية وآيات مدنية في سور مكية، فلم يكن مكان نزول الآيات هو الذي حدّد موضعها في المصحف؛ فمثلاً سورة المزمل مكية بينما الآية الأخيرة منها مدنية، وبينها وبين بقية آيات السورة عشر سنوات أو أكثر، كما أن سبع آيات مكية نُظمت في سورة الأنفال المدنية وهي من قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:30-36] [انظر دراسات قرآنية لمحمد قطب، ص 18-19].
إذاً ترتيب الآيات كان بالتوقيف من رسول الله عليه الصلاة والسلام، والدليل ما أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: “ما حَمَلَكُم على أن عمدتم إلى (الأنفال) وهي من المثاني، وإلى (براءة) وهي من المئين ففرقتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموها – أي الأنفال – في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟
فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أُنزلت في المدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال فظننت أنها منها، فقُبض رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قَرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) فوضعتها في السبع الطوال”. [الحديث: سنن الترمذي / باب تفسير سورة التوبة، رقم 3086].
والذي يُفهم من حديث عثمان رضي الله عنه أن ترتيب سورة براءة بعد سورة الأنفال كان اجتهاداً منه لتشابه قصتيهما، فلا بد إذن من بيان اختلاف العلماء في ترتيب السور القرآنية على ثلاثة مذاهب كما يلي:
المذهب الأول: أن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم. قال بذلك مالك والقاضي أبو بكر وابن فارس، واستدلوا على ذلك باختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور قبل جمع عثمان رضي الله عنه.
المذهب الثاني: أن ترتيب السور كله توقيفي بتوجيه الرسول عليه الصلاة والسلام، والدليل إجماع الصحابة على مصحف عثمان وعدولهم عن غيره بل إحراقهم لما يخالفه.
المذهب الثالث: أن ترتيب بعض السور كان توقيفيّاً، وترتيب بعضها كان باجتهاد من الصحابة، قال الزرقاني: ولعله أمثل الآراء، وقال السيوطي: كل الترتيب كان توقيفيّاً إلا ترتيب سورتي الأنفال وبراءة، بدليل حديث عثمان السابق ذكره، ومثل ذلك قاله الحافظ الثقفي معتمداً على التسليم بأن الصحابة رضوان الله عليهم هم العارفون بأسباب النزول ومواضع الكلمات، وهم الأمثل في فهم القرآن ووعيه على ما كانوا يسمعونه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فمنه على هذا المذهب ما فيه التوقيف القولي والعملي، ومنه ما بقي لهم فيه مجال نظر واجتهاد [انظر البرهان في تناسب سور القرآن لأحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي، والبرهان في علوم القرآن، وترتيب السور للسيوطي، وترتيب السور لمحمد دروزة، والإعجاز للباقلاني، ومناهل العرفان للزرقاني].
وأما عن آخر ما نزل من القرآن، فقد روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام آية الربا، وأورد الطبري بسنده عن ابن عباس أيضاً أن آخر آية نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام هي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
والملاحظ أن بين الروايتين تعارض، ولكن استطاع الإمام ابن حجر العسقلاني أن يجمع بين الروايتين بأن الرواية الأولى تعني أن آخر ما نزل آية الربا وهي من رقم [275-280/البقرة]، والرواية الثانية تعني أن آخر ما نزل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} هي الآية رقم [281/البقرة]، فيلاحظ أن الآيات متتابعة؛ فالرواية الأولى مبدأ الآيات، والرواية الثانية تشير إلى أواخرها [فتح الباري / 8 / 258].
ثم هناك روايات أخرى عن ابن شهاب (ت 124هـ) وعن سعيد بن المسيب (ت 94هـ) أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدَّين وهي ذات الرقم 282/البقرة، فإنهم جمعوا بين هذه الآثار بأنه يمكن أن تكون آية الدَّين نزلت مع الآيات التي سبقتها في النظم لكن ترتيب رسمها لم يكن كترتيب نزولها، والله تعالى أعلم.
****
مقال من مجلة الفرقان
بقلم : عبد الرحمن جبريل / مجاز بالقراءات العشر المتواترة
****
1- البرهان في علوم القرآن للزركشي.
2- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي.
3- قواعد التدبر الأمثل للميداني.
4- دلائل النظم للفراهي.
5- دراسات قرآنية لمحمد قطب.
6- صحيح البخاري.
7- سنن الترمذي.