وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة، فهو أحق من اتقى، وأولى من قدر، وأجل من عظم، وأكبر من يُستَحى منه، وأشرف من يراقب، وأكرم من يراعى أمره جل في علاه.
هو أهل التقوى؛ لأنه بالمرصاد، مطلع على العباد، يحاسبهم بأفعالهم يوم التناد، فتقواه مهابة واجبة، وتعظيم مفروض، وتوقير محتم، وتقدير لازم ((مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا))[نوح:13]، ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)) [الانعام:91].
هو أهل التقوى ، حق على العباد تقواه سبحانه لأن مسدي الجميل، ومعطي الجزيل، وواهب النعم، والمتفضل بالعطايا ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ))[النحل:53]، ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ))[النساء:79] ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا))[ابراهيم:34].
هو أهل أن يتقى ؛ لأنه شديد العقاب، سريع الحساب عظيم النكال، قوي المحال، أخذه لا يطاق، وانتقامه لا يستطاع، وبطشه لا يقاوم، وجبروته لا يصادم ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ))[الفجر:14] ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ))[هود:102]. ((يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ))[الدخان:16].
وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته، واجتناب معاصيه، وخوف مقامه، والرهبة من أخذه، والحذر من مقته، وتذكر الوقوف بين يديه والوجل من اطلاعه، والحياء منه، والوفاء بعهده.
وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل كقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))[المائدة:69]. وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))[الحشر:18].
وإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ما يتقى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي، قال تعالى: ((وََيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ))[آل عمران:28].وقال تعالى: ((هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ))[المدثر:56].
فهو أهل أن يخشى ويهاب، ويجل ويعظم في صدور عباده، حتى يعبدوه ويطيعوه؛ لما يستحقه من الإجلال والإكرام، وصفات الكبرياء والعظمة، وقوة البطش وشدة البأس. وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه كالنار، أو إلى زمانه كيوم القيامة؛ قال تعالى: ((وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ))[آل عمران:131].وقال تعالى: ((فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ))[البقرة:24]. ((وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا))[البقرة:48].
ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات، وترك المحرمات والشبهات، وربما دخل فيها
بعد ذلك فعل المندوبات، وترك المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى قال الله تعالى؛
((الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ))[البقرة:1-4].
وقال تعالى: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))[البقرة:177].
قال معاذ بن جبل :ينادى يوم القيامة: أين المتقون؟
فيقومون في كنف من الرحمن، لا يحتجب منهم ولا يستتر. قالوا له: من المتقون؟
قال: قوم اتقوا الشرك، وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة، فجزاؤهم عند ربهم النزل الكريم وسكنى جنات النعيم، مع الفوز العظيم، والحظوة بالنظر إلى وجه الرحمن الرحيم
وقال ابن عباس :المتقون: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفونه من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.
وقال الحسن: المتقون: اتقوا ما حرم الله عليهم، وأدوا ما افترض الله عليهم.
وقال عمر بن عبد العزيز : ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين
ذلك، ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو
خير إلى خير.
وقال طلق بن حبيب : التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله؛ ترجو ثواب الله،
وأن تترك معصية الله على نور من الله؛ تخاف عقاب الله.
وعن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقى الله العبدُ، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً، يكون حجاباً بينه وبين الحرام؛ فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليهفقال: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه))[الزلزلة:7-8]].
فلا تحقرن شيئاً من الخير أن تفعله، ولا شيئاً من الشر أن تتقيه.
وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام.
وقال الثوري : إنما سموا متقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
وقال موسى بن أعين : المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام؛ فسماهم الله المتقين.
وحديث: (فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)[اخرجه البخاري ومسلم] .
وقال ميمون بن مهران : المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ))[آل عمران:102].
قال: (أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر) اخرجه الحاكم مرفوعاً، والموقوف أصح .
وشكره يدخل في جميع فعل الطاعات.
ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته، وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها.
وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات؛ كما قال أبو هريرة ، عندما سئل عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟
قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟
قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه. قال: ذاك التقوى.
وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى