من طرف مودة السبت 02 أغسطس 2008, 1:30 am
الجمع الأول للنص القرآني :
ظل الصحابة يقرأون القرآن كما تلقوه من رسول الله e شفاهة طيلة حياته ومن بعد مماته
حتى استحر القتل بالقرّاء في حروب الردة، فأمر أبو بكر ـ بدافع من عمر ـ بجمع القران
لضمان سلامة النص، فتمّ ذلك لهم، وأُودِعتْ الصُحُف عند أبى بكر حتى توفى ثم عند عمر ثم
عند حفصة .. حتى حدث ما حدث من قتال في عهد عثمان.
الجمع الثاني للنص القرآني :
وقع اختلاف بين المسلمين في تلاوة القران باتساع الفتوحات الإسلامية وتفرُقِ المسلمين في
الأمصار، وبلغ الأمر ذروته حينما كان المسلمون من أهل الشام والعراق يغزون أذربيجان
وأرمينية، حيث حدا الاختلاف بهم في القراءة أن يكفر بعضهم بعضا، وكان معهم أبو حديفة
اليمان، فأسرع إلى عثمان وأخبره بما حدث، فأمر عثمان على التو بإحضار الصحف المودعة
عند حفصة ونسخها في مصحف ـ هو ما عرف بالمصحف العثماني ـ وقال للناسخين: "إذا
اختلفتم في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم".
ويقف الباحث عند مقالة عثمان متسائلا : هل نزل القرآن بلغة قريش فحسب؟ ومن ثم فهي
أفصح اللغات، ولماذا وصفت بأنها أفصح اللغات؟ وإن لم يكن هذا، فما دلالة هذه المقالة؟
والحق أن الباحث لا يستطيع أن يبدي رأيه إلا في ختام البحث، حيث يتبين له الخيط الأبيض
من الأمر، وذلك من خلال تحليل الكلمات التي يقف بصددها بالدرس والتحليل، غير أنه يشير
هنا إلى ما أورده ابن فارس في وسم لغة قريش بأنها أفصح اللغات، حيث يقول: "وكانت
قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم
وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم فصاروا بذلك أفصح العرب" .
من خلال هذا النص يرى الباحث أن قريشا من حيث لهجتها الخاصة لم تكن أفصح العرب،
وإن ما جعلها (أفصح العرب) أنها كانت مركز الجزيرة بها البيت الحرام يأوي إليه الناس من
مختلف القبائل العربية؛ فكانت قريش تنتقي من كلامهم أحسنه وأفصحه؛ فاجتمع لها الأفصح،
ولعل من خصائصها اللهجية التي تبعدها عن الفصحى تخفيف الهمز، إذ اللغة الفصحى تحقيق
الهمز، وقد اكتسبت قريش هذه الخاصية من القبائل الأخرى كقبيلة (تميم)
التي تتسم بهذه السمة .
ولعل ثمة رأيا يؤكد فيه صاحبه رأي الباحث، إذ يقول: "والذي أميل إليه أن قريشا
كانت مثل غيرها من قبائل العرب تستخدم اللغة الفصحى، ولها لهجة خاصة بها،
فيها ظواهر تفردوا بها عن غيرهم" .
وبناء على مسبق يري الباحث أن لغة القرآن ليست قاصرة على لهجة قريش،
وإنما لغته هي لغة أدبية نموذجية تمَكّن بها العرب في جاهليتهم من الحديث بعضهم إلى
بعض، وهي لغة منتقاة من فصحي لهجات العرب جميعا، ولا تعود إلى قبيلة واحدة.
ولعل حديثا لأبي شامة يؤكد هذا الرأي يقول فيه: "القرآن العربي فيه من جميع لغات
العرب؛ لأنه أنزل عليهم كافة، وأبيح لهم أن يقرأوه على لغاتهم
المختلفة، فاختلفت القراءات فيه لذلك" . ويقول أحد الباحثين : "إنه يوجد في القرآن
أكثر من خمسمائة جذر لغوي يعود إلى لغات متباينة متناثرة" . ويعتقد الباحث أن
هذه اللغة الأدبية الراقية النموذجية آلت إلى قريش فاحتضنتها؛ لكونها مركزا
للجزيرة العربية.
السماع والمشافهة أساس قبول القراءة :
ثبت أن عثمان كتب ثمانية مصاحف وأرسلها إلى الأمصار الإسلامية ، ومع كل مصحف
أرسل مقرئا يقرئ الناس؛ ليستمر السماع والمشافهة هما الأساس لقبول القراءة واعتمادها ؛
ومن ثم لم يعتمد المسلمون قط على خط المصحف.
وكان ممن أرسلهم عثمان إلى الأمصار أبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش،
حيث أرسلهما إلى الكوفة، وعلى أيديهما تلقّي أهل الكوفة قراءاتهم.
وفي آخر عصر التابعين تجردت طائفة للقراءة والإقراء؛ حيث اعتنوا كثيرا بضبط التلاوة
والأداء؛ فصاروا في ذلك أئمة يقتدي بهم ويرحل إليهم، ويؤخذ عنهم، فنسبت القراءة إليهم،
وهم أبو جعفر ونافع في المدينة وابن كثير في مكة وابن عامر في الشام وأبوعمرو
ويعقوب في البصرة وعاصم وحمزة والكسائي في الكوفـة .
هل بين المصاحف العثمانية اختلاف؟!
هذا تساؤل ربما يثير الدهشة لو كانت الإجابة بالإثبات! ولكن هذا ما تبيّن للباحث؛
حيث ثبت ثبوتا لاشك فيه أن بين المصاحف العثمانية اختلافا سمح باستيعاب القراءات
المتواترة التي أقرّها عثمان، ويبدو هذا الاختلاف في المواضع
التي لا يحتملها الخط، أعني بذلك مواضع الزيادة والحذف والتغيير، ومن ذلك قوله تعالي:
(فتوكل) بالفاء، (وتوكل) بالواو، و(فإن الله هو الغني)، (فإن الله الغني)
بإثبات الضمير وحذفه، ويبدو أن علماءنا السالفين قد لحظوا هذا الاختلاف؛
فألفوا في ذلك مؤلفات، منها (اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة)
للكسائي . ولعل هذا لا يخالف قول
د.عبد الصبور شاهين: "كل قراءة صحيحة لابد أن تتفق مع الرسم، فالرسم يسعها جميعا،
وما لم يسعه فهو شاذ، لا يؤخذ به لا قراءة ولا احتجاجا" ، فلعل مقصده من
الرسم الجنس لا التوحيد، أي رسم جميع المصاحف الثمانية، وإلا فهذا القول
مخالف لما انتهي إليه الباحث، ومن ثم فماذا يقول ـ مثلا ـ في قراءة حفص:
(عملته) في سورة يس 35، حيث قرأها بالهاء، وهي من غير هاء في
مصاحف الكوفة، وعليه قراءة الكوفيين سوي حفص؟!
ولعل ابن الجزري قد أشار إلى هذا الاختلاف حينما أرسي شروط قبول القراءة؛ فذكر
عبارة (موافقة أحد المصاحف العثمانية) ولم يقل: "موافقة المصحف العثماني".
شروط قبول القراءة بين المناقشة والتحليل :
لعل من نافلة القول أن ابن مجاهد هو أول من أرسي مقياسا لقبول القراءة وكان مقياسه يتركز
علي (صحة السند ومطابقة الرسم وموافقة العربية) ، وهذا المقياس من وجهة نظر الباحث
كان ضيقا لا يستوعب القراءات المتواترة كلها؛ ولعل هذا ما جعل القراءات المتواترة لديه
سبعا فحسب، تلك التي ألّف فيها كتابه .
ومن ثم فالباحث يرى أن القراءات التي نعتت بالشذوذ لم تنعت بذلك لضعف رواياتها أو لأنها
تشتمل على ظواهر لهجية شاذة في اللسان العربي، وإنما لأنها خرجت عن سبعة ابن مجاهد،
وربما تنبه ابن الجزرى إلى ضيق هذا المقياس، فتوسع فيه، ونلمس هذا التوسع في قوله:
(كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح
سندها، فهى القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها، بل هي من الأحرف السبعة ويجب على
الناس قبولها، سواء كانت عن السبعة أو عن العشرة أو عن غيرهم" ؛ ومن ثم أضاف ابن
الجزرى ثلاث قراءات أخرى هى: قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف.
وللباحث وقفة مع هذه الشروط للمناقشة والتحليل .
ـ صحة السند :
أشار الباحث سلفا إلى أن السماع والمشافهة هما الأساس في قبول القراءة، ولم يعتمد
المسلمون على الرسم قط، ويؤكد هذا ما روى عن أبى عمرو أنه قال: "لولا أنه ليس
لي أن أقرا إلا بما قد قرئ لقرأت حرف كذا وكذا"، وسأله الأصمعي عن آيتين
متماثلتين في الخط (وتركنا عليه) 108 و(وبركنا عليه) 113 من سورة الصافات
كيف يُعرف نطقهما؟ فقال: ما يعرف ذلك إلا أن يسمع من المشايخ الأولين"
ويقول أبو عمرو الدانى: "وأئمة القراءة لا تعمل فى شئ من حروف القرآن على
الأفشى فى اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح فى النقل،
والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة،
يلزم قبولها والمصير إليها" .
ـ موافقة الرسم ولو احتمالا :
هذا شرط لقبول القراءة، فإذا ما خرجت عنه فهى شاذة، والرسم قد امتاز بميزتين جعلتاه
يستوعب القراءات المقبولة كلها: إحداهما خلوه من النقط والأخرى خلوه من الشكل ـ
أى الضبط الحركي ـ فضلا عن تناوب الألف والواو في الكتابة حينا وحذف الألف
حينا آخر مثل (أصلوتك) و(ثمرت)، فهاتان الكلمتان يقرآن بالإفراد والجمع.
وربما ساعد ذلك بعض المستشرقين وغيرهم أن يُرجعوا تعدد القراءات واختلافها إلى
طبيعة الرسم زاعمين أنها ليست من التشريع في شئ؛ هدفا إلى ضرب السنة، يقول
الألماني جولد زيهر: "وترجع نشأة جزء كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط
العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة تبعا لاختلاف النقاط الموضوعة
فوق هذا الهيكل أو تحته وعدد تلك النقاط وكذلك اختلاف الحركات، فكانا السبب
الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات" .
ولا شك أن هذا رأي واهٍ؛ إذ لم يعتمد المسلمون قط على الخط ، بل كانوا شديدي الحرص
أن يكون سبيلهم إلى قبول القراءة سماعها، وكانوا يقفون بالمرصاد ضد من يشذ عن
مقياسهم، ولعل موقفهم من ابن مقسم النحوي خير دليل على ذلك، فهذا العالم النحوي
قد قرأ القرآن بحروف تخالف السند؛ اعتمادا على أنها لها وجه في العربية،
ومن الكلمات التي قرأها مخالفا السند كلمة (نجيا) من قوله تعالى في سورة يوسف:
(فلما استيئوا منه خلصوا نجيا)؛ إذ قرأها (نجبا) بالباء ، وقد
وصفه الرافعى بقوله: "فإن هذا الأحمق بقراءته هذه قد أزالها عن أحسن
وجوه البيان العربي" . وكان جزاء هذه القراءة أن استدعاه الحاكم وأدبه استتابةً،
فتاب ورجع.
وإذا كان ثمة حاقدون، فإن هنالك المنصفين، ومنهم الطبيب الفرنسي
(موريس بوكاى)، يقول: "لقد تمت عملية تحقيق النص بمنتهى الدقة؛ وذلك لضمان انتشار
النص في نقائه الأصلي"، ثم يؤكد: "أن الخط والسياق يحتمل أكثر
من قراءة في آيات كثيرة، ومع ذلك لم يقرأ بذلك القراء" .
وهذا الرأي الحق يفاد منه معنى جميل يماثل قول ابن تيمية: "إنه لم يكن الاعتماد
على الرسم إطلاقا ، وإنما كان الاعتماد على السماع والمشافهة" .
ـ موافقة العربية ولو بوجه :
اختلف النحاة في نظرتهم للقرآن وقراءاته، فمنهم من نظر للنص أيا كانت القراءة
وصفه نصا مقدسا حُجّةً على العربية، ولعل معظم أولئك من الكوفيين ،
وآخرون أخضعوا النص للقواعد المستقاة من كلام العرب؛ مما حدا بهم إلى
وصف بعض القراءات بالخطأ، وتنكروا لبعض القراء، وكان معظم هؤلاء من
البصريين .
ولعل حديثا للسيوطى يشير إلى ذلك، يقول فيه: "كان قوم من النحاة المتقدمين يعيبون
على عاصم وحمزة وابن عامر قراءات بعيدة في العربية، وينسبونهم إلى اللحن،
وهم مخطئون في ذلك؛ فإن قراءاتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة الصحيحة التي لا
مطعن فيها، وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية، وقد رد المتأخرون كابن مالك
على من عاب عليهم بأبلغ ردّ، واختار جواز ما وردت به قراءاتهم في العربية" .
ومما تنكروا له من قراءات قراءة حمزة (تساءلون به والأرحام) بخفض الأرحام،
وقراءة حفص عن عاصم (ثم ليقطع) و(ثم ليقضوا) 15و29 الحج بإسكان اللام .
ولعل موقف النحويين هذا جـرّأ المستشرقين على الطعن في كثير من القراءات
والنيل منها متسترين بلباس البحث العلمي حينا وبالحقد الدفين والسهام المسمومة أحيانا،
وهم في ذلك قد تنكبوا الطريق السوي ؛ فضلّوا وأضلّوا في بعض ما كتبوا ونقلوا .
ومن ثم كان ينبغي لأولئك النحاة أن يقدموا النص على أقيستهم المستقاة
من كلام العرب؛ لأن (القياس يتضاءل عند السماع) . ولن يفرط الباحث في موقف
النحاة من القراء وقراءاتهم ، فهذا أمر قد أوفى من درس السابقين نصيبا موفورا .