أحترسي من الذئاب التي لا يشعر بها أحد
يمر الإنسان منّا بمراحل إيمانية مختلفة ويستشعر أشياء في وقت لا يستشعرها في وقت أخر، أتذكر منذ بداية التزامي عندها أخذت على نفسي عهدا ألاّ أعصي الله، ووقتها كنت أظن أنّني مادمت لا أعصي الله وما دمت أحبه وأحب ديني وأحرص على رضا ربي فأنا على خير عظيم ولا داعي للخوف من النّار، وكنت وقتها أستعيذ من سوء الخاتمة بلساني ولا أستشعر بقلبي خطورة الأمر، وكنت أتعجب كثيرا عندما أسمع من يقول بوجوب عدم الأمن من مكر الله.
ومرت الأيّام وأنا أشعر بهذا الرضا عن نفسي، وكلما مر الوقت زاد عندي العجب بهذه النفس التي لا تستطيع أي معصية الوقوف أمامها ولا تمل أبدا من الطاعة، وشاء الله أن حدثت لي مشكلة كبيرة شغلتني كثيرا واستمرت هذه المشكلة شهورا، وبعدها إذا بي أجد نفسي قد انشغلت بها عن طاعة الله وغفلت كثيرا، لم أعد أجد تلك اللذة التي أجدها رغم أنّني لم أفرط في الطاعة ولم ارتكب معصية، وجدت علاقتي بربي قد أصابها شيء، لم تعد كسابق عهدها، ومن استشعر حلاوة الإيمان ولذة العبادة يستطيع أن يفرق بينها وبين الإبعاد والطرد، لقد انقلبت حياتي عذاب، وقتها شعرت أنّني فقدت روحي، بل فقدت كل حياتي كلها ولم تعد لها أي لذة أو طعم بل شقاء وعذاب وضنك ليس له نهاية، لم يكن يخطر ببالي أنّني سيحدث لي هذا أبدا، وقتها بكيت وصرخت هل أنا خائنة؟ لماذا استبدلت القرب بالبعد، والوصل بالجفاء؟ وكيف استمرئت الانشغال عن الله؟ وهل مثل ربّي يغفل عنه؟ جلست أبكي؟ ماذا حدث؟ أين الخلل؟ هل هذا غضب حل بي أم عقاب؟ وأحضرت كتاب عن الانتكاسة وأخذت أقرأه، بحثت عن شريط لأسمعه وإذا بالشيخ يقول:
أيّها المعرض عنا
إن إعراضك منا
لو أردناك لجعلنا
كل شيء فيك يردنا
فهاجت مشاعري واحترق قلبي وصرخت: ربّاه أنت من مننت علي بالهدى والالتزام ولذة الإيمان من غير ابتداء مني ولا فضل، فلما سلبتني إيّاه يا كريم، هل ستجعلني من القوم الخاسرين؟ أخذت استرجع ما حدث وأبكي، أين الخلل؟ أين هو؟ لقد من الله علي فهو اللطيف الجواد أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، أدركت بتوفيق الكريم أن الخلل كان في العجب بالنفس ورؤية العمل، أصابني غرور الطاعة وأنساني أنّ ما أنا فيه ليس مني، بل الفضل والمنة لله وحده وهو فضل منه جل وعلا، ولو وكلني ربّي لنفسي لوكلني إلى نفس أمارة وضيعة حقيرة فضعت وهلكت، وتعلمت أن أظل أخاف من تقلب القلوب فهي سريعة في التقلب، وأضل على وجل أن يمكر الله بي وأن أداوم على الاستعاذة من سوء الخاتمة، وأن أظل أعرف نفسي بالفقر والضعف والذل والجهل والضعة وأن أعرف ربي بالغنى والقوة والعلم والعظمة والإجلال، وأنّ ما أنا فيه ليس لشرف ذاتي داخلي بل هي وهبة مكتسبة من رب البرية، عرفت أن ذنوب القلوب التي لا نستشعرها أخطر بكثير من ذنوب الجوارح، تعلمت أن احذر هذه الذئاب الجائعة التي تأكل الإيمان وتخسف بالقلب، كما مثلها لنا رسولنا فقال: «ما ذئبان جائعان، أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» [صحيح الجامع: 5620] ماذا يترك الذئبان الجائعان من الغنم؟ هو نفسه ما يتركه الشرف والمال لدين صاحبه أو ربما أكثر، يا الله كم هي الذئاب الجائعة، العجب والفخر والرياء وحب المال والدنيا والشهرة والرئاسة والسلطة والحقد والحسد والغيرة و...
لا أدري على ماذا أشكر الله على هدايته لي الأولى أم على غفلتي التي أيقظتني أم على هدايته الثانية أم على ماذا؟
يا الله ما أرحمك وما أكرمك وما ألطفك وما أجودك على أمتك الحقيرة الضعيفة الوضيعة، لقد كان الذئب الذي سلبني حلاوة الإيمان ولذة الطاعة هو رؤية العمل والعجب به، فقد كنت جاهلة أظن أن الإخلاص هو نقيض الرياء فحسب، لم أكن أعلم أن العجب بالنفس الذي أدى إلى الأمن مكر الله من قوادح الإخلاص، وكذلك طبعا الرياء والسمعة حب الدنيا والشهرة والشرف من قوادح الإخلاص، لقد صيرت نفسي العمل الصالح جندا من جنودها فصالت به وجالت فكان البعد جزاؤها،
الله الله في القلوب يا عباد الله.