الأم .. نبع الحنان ، ومرتع الأمان ، وسلوة الأحزان ، حديثنا عن الأم التي تواجه القسوة من أبنائها ، وتذوق مرارة الجفوة والفجوة منهم ..
فداكِ روحي إذا لم تـُفْـدِ أشعار ................... بحر هواك وقلبي فيه بحّار
فداك روحي وأحشائي وفيضِ دمي ............. فداك قلب ينبض الحب موّار
أماه أماه يا لحن الهوى بفمي .................... يا عذبة الروح فيكِ الشعر يحتار
الأم هي رمز التضحية والفداء والطهر والنقاء ، والحب والحنان، وهي الأصل الذي يتشرف الولد به، ويفخر بنسبه له ونسبته إليه، وتأمل في هذا الفرق الذي جاء على لسان النبي عيسى(عليه السلام)، فهو حين تكلّم عن وجوب البرّ والإكرام ذكر وصف "الوالدة"، فقال: {وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً} [مريم:32]. وعندما أراد الله عز وجل لفت نظر الأبناء إلى معاناة الأم من جراء الولادة، مقدماتها وآثارها ونتائجها، فإن القرآن الكريم يطلق كلمة "الأم" المضحية الصابرة التي أمرنا الله بإكرامها في الدنيا إكراماً مطلقاً لا حدود له، فمن أساليب القرآن الكريم البليغة في هذا المجال أنه يوصينا ببرّ الوالدين ثم يعقبها بالحديث عن الأم فقط لشدة فضلها على الأب {ووصّينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن} [لقمان:14].
وهكذا تحدّث الله عن فضل الأم لشدة معاناتها وهناً على وهن في الحمل وما يلزم له من تضحيات، ومثل ذلك قوله تعالى: {ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً..} وعندما أراد الله عزّ وجل بيان مدى حنان الوالدة على أولادها، ومدى شفقتها وإشفاقها على أولادها عبر الله عنها بلفظ الام فقدقال الله{وأصبح فؤاد ام موسى فرغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين } القصص 10 . وعندما عبّر القرآن الكريم عن مدى سعادة الوالدة وفرحها بعودة ولدها الغائب من خطر عليه أطلق عليها كلمة "الأم" فقال عز وجل: فرجعناك الى امك كى تقر عينها ولا تحزن} طه 40 .] وجاء رجل يسال الرسول صلى الله عليه وسلم : من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك .
الأم منذ الحمل ، تحمل في جسدها التعب على الابن ، وفي صدرها الحب والحنان ، وفي عينيها القلق والسهر، فهي حكاية بلا نهاية ، وعطاء بلا حدود ، ومثال لا مثيل له .
إن أجمل وردة في الكون هي ابتسامة على وجه الأم ، وأفضل نبع يجرى في نفسها هو نبع الحب ، وأرقى شيء تتمتع به هي العاطفة . إن مكانة الأم لها ثقل في قلوب الأبرار ، وشذى في نفوس الصغار والكبار ، ومن يجهل ذلك ، أو يغيب عنه الإحسان لها فإنه يتخبط في عنفوان القسوة .. يا مقلة سهِرَت ... يا دمعة سُكِبَت ......... يا أنّة جُمِّدت من حرّها النار يا من سَهِرَت لترعى أنّتي وعلى .......... أجفانك الدمع بالآمال موّار
تكفكفين دموعا لا تكفكفها ......... كف ولم يُكْفها بالكف صبّار
ائذن لي أيها القارئ في رواية مظاهر للقسوة ، في جوف حكايات حزينة أورثها الأبناء لأمهاتهم ، وإن أشد شيء على النفس ، دموع الأم حينما تنهمر من أجل قسوة الابن ...
ما أشد آهات الأمهات المسنات من أبنائهم ، وما أقوى أنينـَهم وحنينـَهم عليهم ، فهذه أم تركها أبناؤها في دار للمسنين بإحدى الدول العربية ، تعترف بأن الأبناء يرسلون لها النقود التي تنفقها في الدار، ولكنها ترى أن الأهم من ذلك هي حاجتها لحسن التعامل والدعم العاطفي ... تقول: اخترت بإرادتي أن أقيم في دار المسنين بعد وفاة زوجي وانشغال أبنائي ، وما أغضبني هو ترحيب أبنائي بهذا الاقتراح ولم يَعرِض أيا منهم عليَّ أن أقيم معه في منزله ، أدركت وقتها أن الإنسان ثقيل للغاية حتى وإن كانت الأم... وفي الدار وجدت زميلات يؤنسن وحدتي، ولكنني أظل أترقب الباب طويلاً لعل أحداً من أبنائي يأتي لزيارتي...
حكاية أخرى لأم أتى بها أبناؤها لإيداعها أحد مراكز المسنين لعدم تفرغ أحد لرعايتها... نسي الأبناء حق أمهم عليهم ، زادت مشاغلهم إلى درجة أنهم لم يتذكروها حتى في الأعياد أو المناسبات.. والأم صامتة تتألم لحال أبنائها في صمت مطبق.. شكواها دموع تنهمر فقط....
وأحد الأمهات جاوزت الخامسة والسبعين من العمر تقول: " قلبي على ولدي أنفطر وقلب ولدي علي حجر". فمفاهيم الأمومة والبنوة اختلفت تماماً عن الماضي حين كانت الأم كبيرة السن تحظى باهتمام ورعاية فائقة من قِبل أبنائها ، أما العصر الحالي فبات الجحود هو السمة البارزة فيه من قبل الأبناء ، وعن تجـرُبتها الشخصيةِ مع أبنائها تقول: إن الأبناء -والحمد لله- فيهم البار بي الذي يرعاني في مرضي ويهتم بي، وفيه من لا يسأل عني سوى مرة في العام . أُدرك أنه مشغول، ولكنه يبدو أنه نسي أن له أماً!! أعترف أنني أحزن كثيراً لجفائه لي وجحوده، ومع ذلك أنا أدعو له ، ولا أملك أبداً أن أغضب عليه خوفاً عليه من عقاب الله تعالى ....
وأحد الأمهات ترى أن جحود الأبناء ، ونسيانهم لأمهاتهم هو قمة الأوضاع السلبية التي آلت إليها بعض الأسر المسلمة في عصرنا الحالي ، مؤكدة على أن الأبناء ينبغي أن يدركوا تماماً أن الأم المسنة لها احتياجات ، وخاصة بعد وفاة الزوج ، حين تجد الأم نفسها وحيدة ومنعزلة في ظل انشغال الأبناء ، مما ينعكس عليها سلباً نفسياً وهذا غير مطلوب ، بل من الضروري مراعاة الاحتياج النفسي المضاعف الذي تحتاج إليه الأم ، فالأم لا تنتظر شيئاً من أولادها ، ولكنها تكون بحاجة إلى مجرد الدعم النفسي وخصوصا في آخر العمر ، فموقف بسيط من الممكن أن يسعدها ، وموقف آخر من الممكن أن يدمرها نفسياً ويشعرها أنها عبء........
هناك العديد من الأبعاد النفسية التي تؤثر على المسن سلباً أو إيجاباً ، فيرى أحد الأطباء النفسيين أن مرحلة الشيخوخة يشهد خلالها الإنسان تغيرات متعددة قد تؤثر على الحياة النفسية والاجتماعية للأم المسنة خاصة ، وقد نجد أن القصور البدني أو تدهور بعض الوظائف الحيوية للأم المسنة ، وهو أمر لا مفر منه ، قد يفضي إلى اضطرابات نفسية وانفعالية أعمق ، إذا لم تجدِ المُسنةِ الإحاطة الوجدانية والحميمة الكافية التي تشعرها بالأمان .. فالأم في آخر عمرها تكون في أمس الحاجة إلى التوافق النفسي والاجتماعي ، والتوافق هو تواجد الأم في علاقة توازن وانسجام مع الذات ، ومع المحيط .. مما يستوجب ضرورة توفر عوامل ذاتية وموضوعية لتحقيق هذه الغاية ... ومن الضروري أن نعي حساسية الأم المسنة خلال هذه الفترة، وهي تمثل ظاهرة عادية ، لذا يجب على الأسرة أن تحقق للأم المسنة على وجه الخصوص التفاعل الاجتماعي ، والدعم العاطفي ، فالحاجات المادية وحدها لا تكفي ، ولكن الأهم هو حسن التفاعل مع هذه الفئة ، خاصة في ظل العديد من المتغيرات العميقة التي تشهدها مجتمعاتنا ، إذ أصبحت الأم المسنة لها نفسية هشة للغاية من أبسط المواقف ، لذا فإنها تكون بحاجة إلى رعاية نفسية مضاعفة خوفاً عليها من الإحساس المعنوي القاتل لها........
الأم معنا في هذه الحياة أشبه بالشمس مع الناس ، تكسونا الضياء ، وتغذينا بالعافية ، تُقدم لنا الروح لنسعد ، فلماذا عندما كبر بعضنا ، منحوا أمهاتهم أكتافهم ، وأداروا لها ظهورهم ، وقلبوا لها ظهر المِجن ، وأسمعوها ما يندى له الجبين ..
أيها الغالي --
أحسب أن هناك شريكاً لا يستهان به في قسوة الرجل على أمه ..
وقد يكون هو المحرك لها ، والدافع إليها ، والمشجع عليها -- و أعني بذلك .. الزوجة .. وأنا لا أعمم بأن كل الزوجات قد يكن سببا في ذلك ، ولا أريد أن تكون هذه اللفتة سبب في النزاع بين الزوج وزوجته ، ولكن غالب مظاهر العقوق تبدأ شرارتها من الزوجة .