سألت توفيق الحكيم: ماهو الفرق بين إسماعيل ابنك وبينك؟
فأجاب الحكيم: اسماعيل ابني عاش في زمن غير زمني.. لا هو أحسن ولا أنا أسوأ.. نحن مختلفان.. عندما كانوا يسألون الواحد منا : ماهو الشيء أو الحيوان الذي إذا عبر البحر فإنه لا يبتل؟
كان جيلي يجيب: انه العجل في بطن أمه.. ولكن جيل اسماعيل ابني يقول : إنها الطائرة !!
والإجابتان صحيحتان.. فلا راكب الطائرة ولا الطائرة تبتل اذا عبرت المحيط.. وكذلك العجل في بطن أمه لا يبتل اذا أمه خاضت إحدى الترع أو أحد المصارف..
ولا الحوت في بطن أمه وهو يعبر به المحيطات..
المعنى واحد.. ولكن الاسلوب مختلف.. والاختلاف جاء من تطور الصورة أمام الإنسان..
قال طه حسين: نحن تحت سقف واحد وفي زمن واحد.. ونتعايش مختلفين لا متعارضين ونتقاسم كل شيء دون استخدام السيف أو السكين.
بالضبط ما قاله طه حسين هو مايحدث في كل جيل.. أو بين جيل وجيل..
*******
هناك فجوة.. مسافة.. ولكنها ليست هوة نزاع ولا هاوية صراع.. ويحدث دائما أن ينسى الآباء أنهم كانوا صغارا.. وينسى الصغار أنهم سوف يكونون كبارا يستنكرهم أبناؤهم !!
مثل موج البحر.. هذه الموجة تطغى وتكتسح الأمواج الصغيرة التي سبقتها الى الشاطئ, وفي نفس الوقت تطاردها موجة أكبر, وهكذا إلى ما لا نهاية.. وهذا هو الزمن.. هو التاريخ.. موجات بعد موجات.. تضرب الشاطئ ولا تزحزحه.. فلا الشاطئ تحرك, ولا الموج سكن..
وكان الملك سليمان ـ عليه السلام ـ يندهش.. كيف أن الأنهار تصب في البحار.. لا الأنهار جفت ولا البحار امتلأت؟ وكان يعجب لذلك.. فلم يكن قد عرف ان هناك قانونا لتبخر المياه.. الشمس تبخر مياه البحر, والبخار يتحول الي سحاب يسقط مطرا.. والمطر يملأ الأنهار التي تتجه الى البحار.. وهي دائرة لها أول وآخر.. ولكن هذه الحركة الدائرية لا تنتهي..
وان كان هناك خلاف بين الأجيال.. فلأن كل جيل يرى أنه على صواب.. ومادام هو على صواب, فهو وحده.. أما الجيل الأخير فهو خاطئ.. الصغار يقولون: ان الكبار خاطئون.. وانهم لا يفهمون.. والكبار يرون أن الصغار لم يدركوا ولم يفهموا بعد..
وبدلا من ان يقول الصغار: ان تجاربهم أقل ومعارفهم لاترقي إلى مستوي اليقين العلمي, فهم يفسرون ذلك بشيء آخر.. وهو ان الكبار يكرهون الصغار.. ويحقدون على شبابهم وعلي ان المستقبل لهم... أما الكبار فقد راحت عليهم... وهم حريصون على
ذلك ولايطيقون أن يروا الذين لهم مستقبل.. الذين هم قادمون .. بينماهم ذاهبون.
*******
ولذلك يصبح التفاهم صعبا بين جيلين.. أي جيلين... أي أب وابن واي أم وابنة... في كل بيت وفي كل زمن.. وقصة نوح ـ عليه السلام ـ وولده هي قصة الأجيال الأزلية الأبدية.. الخلاف بين نوح وبين ابنه.. الأب يطلب منه ان يركب السفينة معه.. لأن نوح قد علم من الله لماذا صنع السفينة.. وانها لنجاة نوح وأولاده... ولأن الله يريد خلقا جديدا.. وان نوح هو آدم الثاني.. أي: أبو البشرية الجديدة.. ولكن ابن نوح لايعلم.. وانما هو مخالف لوالده.. عنيد لايصدقه.. لأن الأب ـ أي الجيل القديم ـ يكره الجيل الجديد.. فسوء الظن والشك والغرور دفع الابن إلى أن يلقي بنفسه في الماء وأن يسبح إلى جبل يحميه من الطوفان.. ولم يصدق والده عندما قال له: انه لاتوجد جبال.. ولن يعصمه شيء من الغرق إلا سفينة نوح.. ولكن الابن فضل أن يموت غرقا باختياره على أن يعيش بفضل والده.. على أن يعيش ويمتن لوالده على ذلك.. فغرق ابن نوح.. ويغرق كل يوم ألوف الأبناء لأنهم لايريدون اعتمادا على آبائهم, ولايريدون الامتنان لهم أيضا..
حتى الذين لاينفصلون عن آبائهم ويعيشون على أموال آبائهم وفي بيوت آبائهم, يؤكدون لأنفسهم: انه رغم اعتمادهم ماديا على آبائهم, فإن لهم أفكارا مستقلة.. ولهم حرية رأي
أي انه يجلس على حجر والديه وفي نفس الوقت يقول: وايه يعني؟! فمن الواجب على والدي ان يقدم لي الطعام والشراب والمسكن.. وإلا مامعنى أن أتي بي إلى هذه الدنيا... هل يكون سببا في وجودي ثم يلقي بي في الشارع.. ثم انه ليس معنى ذلك ان يشتريني بفلوسه.. وان يحكم ويتحكم.. فأنا حر.. وفي نفس الوقت فإنني على خلاف مع أبي وأمي... لسبب لا دخل لي فيه.. فالأم لاتريد ان تكف عن الأمومة.. والأب لايريد أن ينهي دوره كأب.. ولذلك فهما يتدخلان في حياتي.. ويوصيان بما لا أحب ولا أطيق.. وأنا لا أحب ذلك..
*******
ومعنى ذلك أن الأبناء يرون أن الأب والأم مرغمان على أن يقدما كل شيء.. بشرط ألا يتدخلا في حياة الابن.. يعني: يقدمان له الفلوس ويجب ألا يسألاه: أين ينفق هذه الأموال؟ فهذا تدخل.. وهذا التدخل اعتداء على الحرية... ومعناه ان الطعام والشراب والمسكن والفلوس ليست إلا رشوة يقدمها الأب والأم لكي يتحكما في الابن... ولكي يسكت!!
والأب والأم يقولان: إن الأبناء يبتزونهم.. فالأبناء يستغلون ضعف الأب والأم وحبهما للأولاد أسوأ استغلال, ويرون في هذا الحب ضعفا, وإذا أراد الأب والأم أن يمارسا الحب والعطف وأن يقبل الأبناء ذلك, فليدفعوا الثمن..
كان الشاعر كامل الشناوي يقول:
اشتري الحب بالعذاب
اشتريه فمن يبيع؟!
فالآباء والأمهات على استعداد دائم لأن يشتروا الحب بالعذاب, وبالطعام والشراب والمسكن والاستسلام لعناد الأبناء
ثم يستغل الأبناء الخلاف بين الأب والأم... والمثل يقول: ان الأم تعشش والأب يطفش
أي ان الأم تحتضن الأطفال مهما فعلوا لكي يبقوا في البيت أو في حضانة الأم.. أما الأب فلا صبر له وليس ضعيفا كالأم.. انه قوي باطش.. ولذلك فالأبناء يهربون منه.. والأم هي التي تجمعهم
ولكن هذا الرأي ليس صحيحا.. ربما كان الأب منطقيا ويريد ان يربي أولاده بشدة وصلابة.. ولكن الأم لأنها رقيقة القلب, ولأنها لاتقوي على غياب الأبناء أو هربهم أو على مجرد زعلهم, فإن الذي يرفضه الآباء علنا, تنفذه الأم سرا.. فالأب اذا أعطي قرشا علنا, فإن الأم تعطي قرشين سرا.. وهكذا تبدو الأم أرحم, بينما يبدو الأب أعنف
ويختلف الأب والأم على تربية الأولاد.. وعلى المبادئ التي يجب التمسك بها
وتوفيق الحكيم له حكاية.. فقد طلب منه ابنه اسماعيل أن يشتري له جيتارا بدلا من الذي تحطم.. وكان ثمن الجيتار في ذلك الوقت خمسة آلاف جنيه.. دفعها توفيق الحكيم وكانت له شروط, وهو ان يدفعها اسماعيل على شهور, كل شهر يدفع مائتي جنيه.. واشترط الحكيم ان يأخذ على ابنه كمبيالات.. اذا دفع المبلغ اعطاه الكمبيالة.. وكان يجلس في مقعد عند أول كل شهر أمام غرفة اسماعيل.. ولايذهب الحكيم إلى مكتبه, إلا اذا دفع اسماعيل المبلغ وتسلم الكمبيالة كل شهر
وفي يوم سألت الحكيم فقال: ان اسماعيل يدفع بانتظام ولابد أن يفعل ذلك.. ان يعتمد على نفسه.. ويأخذ ويعطي.. ولم يحدث أن تهرب من ذلك
وكان الحكيم سعيدا بهذا الانضباط.. وكان يروي ذلك على ان هذه هي التربية وإلا فلا
وسألت اسماعيل فقال ضاحكا: ان والدي ينتظرني حتى أدفع.. ولكن لو نظر والدي إلى الفلوس التي أعيدها إليه بشيء من العناية لوجد ان هذه الفلوس هي هي لم تتغير من شهور.. فأنا أعطي الفلوس لأبي, وهو يعطيها لأمي, وأمي تضعها في جيبي.. انه نفس المبلغ
*******
إن توفيق الحكيم اراد أن يرسي قواعد الواجب والحق.. الابن له حقوق وعليه واجبات.. ولكن المسافات بين ضعف الأم وقوة الأب ينفذ منها الأبناء ويوسعونها حتى تكون فجوة.. وجفوة.. وقد يؤدي كل ذلك إلى طلاق.. الى انهيار الأسرة فوق رءوس الأبناء.. وتتفرق بهم الطرق إلى الحاضر والمستقبل
واذا كانت الأم لاتعمل فهي وحدها التي تنفرد بالأولاد وتأمر وتنهي: فهي المدرس والطبيب ورجل الدين, وهؤلاء الثلاثة ليست لهم شعبية عند الأطفال صغارا وكبارا.. فهؤلاء الثلاثة تقوم الأم بوظيفتهم ليلا ونهارا.. وهكذا تصبح الأم مكروهة.. عند كل الأطفال
اما الأب الذي يعمل.. فهو يجيء إلى البيت بعد العمل, وكلها ساعة أو ساعتين يأكل فيهما ويشرب ويتحدث إلى أولاده خفيفا لطيفا.. لا يأمر ولاينهى ولايعاقب.. فيحب الأبناء الأب ولايحبون الأم.. لأن الأب ليس عنده وقت.. والأم لاتتوقف عن النصائح والتحذير والوعيد.. فهم يرون في الأم كل السلطات التي تمسك العصا.. بينما الأب هو رسول السلام والرحمة, يعطي ولايعاقب ولايهدد ولايحذر ولاينذر.
حتى جاء دور المرأة فعملت.. فأصبحت هي والأب بعيدين عن الأولاد.. لاوقت عند احدهما للأولاد.. مع زيادة في إرهاق الأم العاملة.. فهي تعمل كالرجل خارج البيت.. فاذا جاءت إلى البيت استأنفت كل العمل: تطبخ وتغسل وتكنس وتربي وتعلم وتعالج وتنصح.. بينما الأب يتمدد في فراشه.. وإلي جواره وحوله الأبناء الذين لايسهمون في أي عمل.. تماما كالأب!
وعندما دخلت المرأة دنيا العمل إلى جوار الرجل أصبح الأبناء أبناء شوارع أو سلالم.. أو أبناء الخدم.. أو أبناء الحتة.. فلا وقت عند الأب ولا وقت عند الأم.. ولن تعود المرأة إلى البيت.. ولذلك سوف يبقي الابن بلا رعاية ولاحماية ولا وقاية.. انه يعيش على هامش حب الأم ورعاية الأب..
وكل الأطفال كذلك
قال لي طفل في احدى دور الحضانة: إن الاطفال معي في الفصل كل امهاتهم مطلقات.. وكل واحد يقول لي: انه لا يرى أباه إلا نادرا!!
وأصبح مألوفا جدا أن تعيش الأم مع أطفالها.. أو بعض أطفالها وبقية الأطفال مع الأب
*******
ورأينا شيئا جديدا الآن, وهو أن الأم لاتريد جميع أطفالها وتتركهم للأب عقابا له.. وفي نفس الوقت لأن الأم قررت أن تتزوج رجلا آخر, ولامعنى لأن تعاقب الرجل الثاني بأولاد الرجل الأول.. وهي دوخة للأب الذي لايفهم في التربية.. والعقوبة لاتصيب الأب وحده, وانما الأولاد..
ولم يعد قلب الأم يتفتت على غياب الأولاد.. ولم يعد قلب الأب حديدا, وانما هو قلب يتمزق ويذوب دما على أولاده الذين هجرتهم الأم من أجل رجل آخر وأولاد آخرين
والضحية: الأطفال.. الشبان الذين سوف يكونون آباء جددا.. والذين سوف يحلمون بحياة عائلية أفضل.. ولذلك يتعجلون الزواج.. ثم يجدون أنفسهم غير قادرين على الحياة الزوجية والأبوة.. وهي مشكلة جديدة تصيب الأطفال بسبب عذاب آبائهم عندما كانوا أطفالا.. فالأجيال تصب عذابها على نفسها.. جيلا بعد جيل بعد جيل!!
فأنت لاتكره ابنك.. وابنك لايكره ابنه.. وأنت لاتكره حفيدك الذي لاتعرفه
وانما هي أجيال تضغط على بعضها البعض.. وكل جيل له ظروفه الضاغطة والقاهرة أيضا
وكما يحدث في سباق التتابع.. أن تعطي الشعلة للذي بعدك.. والذي بعدك يعطيها للذي بعده.. فإذا أنت تعثرت في البداية وأدى ذلك الي أن تأخر ابنك وفشل حفيدك.. فأنت لاتقصد ذلك واذا قال حفيدك: إنك إنسان فاشل وأنت الذي فرضت عليه العذاب والهوان, فهو معذور اذا قال.. ولكنه ليس محقا.. وهو ليس على استعداد لأن يجد لك عذرا.. انه يرى الذي بين يديه.. والذي بين يديه.. انه لم يصل.. بينما وصل الآخرون.. ولذلك فهو غاضب على حظه الأسود.. وأنت الأسود في هذا الحظ
*******
إن الأجيال يجب أن تعرف العدل.. واذا عرفت العدل عرفت الرحمة.. واذا عرفت الرحمة عرفت الامتنان
امتنان جيل إلى جيل..
وهذا ما لايحدث عادة.. ومن هنا كانت كلمة الكراهية هي اكثر الكلمات شعبية
والكراهية تولد الحقد.. والحقد أبو الحرب, والحرب أم الخراب والدمار في هذه الدنيا
والحرب أم لحروب أخرى وبأشكال أخرى وبأسلحة أخرى
*******
-أنيـس منصـور-
فأجاب الحكيم: اسماعيل ابني عاش في زمن غير زمني.. لا هو أحسن ولا أنا أسوأ.. نحن مختلفان.. عندما كانوا يسألون الواحد منا : ماهو الشيء أو الحيوان الذي إذا عبر البحر فإنه لا يبتل؟
كان جيلي يجيب: انه العجل في بطن أمه.. ولكن جيل اسماعيل ابني يقول : إنها الطائرة !!
والإجابتان صحيحتان.. فلا راكب الطائرة ولا الطائرة تبتل اذا عبرت المحيط.. وكذلك العجل في بطن أمه لا يبتل اذا أمه خاضت إحدى الترع أو أحد المصارف..
ولا الحوت في بطن أمه وهو يعبر به المحيطات..
المعنى واحد.. ولكن الاسلوب مختلف.. والاختلاف جاء من تطور الصورة أمام الإنسان..
قال طه حسين: نحن تحت سقف واحد وفي زمن واحد.. ونتعايش مختلفين لا متعارضين ونتقاسم كل شيء دون استخدام السيف أو السكين.
بالضبط ما قاله طه حسين هو مايحدث في كل جيل.. أو بين جيل وجيل..
*******
هناك فجوة.. مسافة.. ولكنها ليست هوة نزاع ولا هاوية صراع.. ويحدث دائما أن ينسى الآباء أنهم كانوا صغارا.. وينسى الصغار أنهم سوف يكونون كبارا يستنكرهم أبناؤهم !!
مثل موج البحر.. هذه الموجة تطغى وتكتسح الأمواج الصغيرة التي سبقتها الى الشاطئ, وفي نفس الوقت تطاردها موجة أكبر, وهكذا إلى ما لا نهاية.. وهذا هو الزمن.. هو التاريخ.. موجات بعد موجات.. تضرب الشاطئ ولا تزحزحه.. فلا الشاطئ تحرك, ولا الموج سكن..
وكان الملك سليمان ـ عليه السلام ـ يندهش.. كيف أن الأنهار تصب في البحار.. لا الأنهار جفت ولا البحار امتلأت؟ وكان يعجب لذلك.. فلم يكن قد عرف ان هناك قانونا لتبخر المياه.. الشمس تبخر مياه البحر, والبخار يتحول الي سحاب يسقط مطرا.. والمطر يملأ الأنهار التي تتجه الى البحار.. وهي دائرة لها أول وآخر.. ولكن هذه الحركة الدائرية لا تنتهي..
وان كان هناك خلاف بين الأجيال.. فلأن كل جيل يرى أنه على صواب.. ومادام هو على صواب, فهو وحده.. أما الجيل الأخير فهو خاطئ.. الصغار يقولون: ان الكبار خاطئون.. وانهم لا يفهمون.. والكبار يرون أن الصغار لم يدركوا ولم يفهموا بعد..
وبدلا من ان يقول الصغار: ان تجاربهم أقل ومعارفهم لاترقي إلى مستوي اليقين العلمي, فهم يفسرون ذلك بشيء آخر.. وهو ان الكبار يكرهون الصغار.. ويحقدون على شبابهم وعلي ان المستقبل لهم... أما الكبار فقد راحت عليهم... وهم حريصون على
ذلك ولايطيقون أن يروا الذين لهم مستقبل.. الذين هم قادمون .. بينماهم ذاهبون.
*******
ولذلك يصبح التفاهم صعبا بين جيلين.. أي جيلين... أي أب وابن واي أم وابنة... في كل بيت وفي كل زمن.. وقصة نوح ـ عليه السلام ـ وولده هي قصة الأجيال الأزلية الأبدية.. الخلاف بين نوح وبين ابنه.. الأب يطلب منه ان يركب السفينة معه.. لأن نوح قد علم من الله لماذا صنع السفينة.. وانها لنجاة نوح وأولاده... ولأن الله يريد خلقا جديدا.. وان نوح هو آدم الثاني.. أي: أبو البشرية الجديدة.. ولكن ابن نوح لايعلم.. وانما هو مخالف لوالده.. عنيد لايصدقه.. لأن الأب ـ أي الجيل القديم ـ يكره الجيل الجديد.. فسوء الظن والشك والغرور دفع الابن إلى أن يلقي بنفسه في الماء وأن يسبح إلى جبل يحميه من الطوفان.. ولم يصدق والده عندما قال له: انه لاتوجد جبال.. ولن يعصمه شيء من الغرق إلا سفينة نوح.. ولكن الابن فضل أن يموت غرقا باختياره على أن يعيش بفضل والده.. على أن يعيش ويمتن لوالده على ذلك.. فغرق ابن نوح.. ويغرق كل يوم ألوف الأبناء لأنهم لايريدون اعتمادا على آبائهم, ولايريدون الامتنان لهم أيضا..
حتى الذين لاينفصلون عن آبائهم ويعيشون على أموال آبائهم وفي بيوت آبائهم, يؤكدون لأنفسهم: انه رغم اعتمادهم ماديا على آبائهم, فإن لهم أفكارا مستقلة.. ولهم حرية رأي
أي انه يجلس على حجر والديه وفي نفس الوقت يقول: وايه يعني؟! فمن الواجب على والدي ان يقدم لي الطعام والشراب والمسكن.. وإلا مامعنى أن أتي بي إلى هذه الدنيا... هل يكون سببا في وجودي ثم يلقي بي في الشارع.. ثم انه ليس معنى ذلك ان يشتريني بفلوسه.. وان يحكم ويتحكم.. فأنا حر.. وفي نفس الوقت فإنني على خلاف مع أبي وأمي... لسبب لا دخل لي فيه.. فالأم لاتريد ان تكف عن الأمومة.. والأب لايريد أن ينهي دوره كأب.. ولذلك فهما يتدخلان في حياتي.. ويوصيان بما لا أحب ولا أطيق.. وأنا لا أحب ذلك..
*******
ومعنى ذلك أن الأبناء يرون أن الأب والأم مرغمان على أن يقدما كل شيء.. بشرط ألا يتدخلا في حياة الابن.. يعني: يقدمان له الفلوس ويجب ألا يسألاه: أين ينفق هذه الأموال؟ فهذا تدخل.. وهذا التدخل اعتداء على الحرية... ومعناه ان الطعام والشراب والمسكن والفلوس ليست إلا رشوة يقدمها الأب والأم لكي يتحكما في الابن... ولكي يسكت!!
والأب والأم يقولان: إن الأبناء يبتزونهم.. فالأبناء يستغلون ضعف الأب والأم وحبهما للأولاد أسوأ استغلال, ويرون في هذا الحب ضعفا, وإذا أراد الأب والأم أن يمارسا الحب والعطف وأن يقبل الأبناء ذلك, فليدفعوا الثمن..
كان الشاعر كامل الشناوي يقول:
اشتري الحب بالعذاب
اشتريه فمن يبيع؟!
فالآباء والأمهات على استعداد دائم لأن يشتروا الحب بالعذاب, وبالطعام والشراب والمسكن والاستسلام لعناد الأبناء
ثم يستغل الأبناء الخلاف بين الأب والأم... والمثل يقول: ان الأم تعشش والأب يطفش
أي ان الأم تحتضن الأطفال مهما فعلوا لكي يبقوا في البيت أو في حضانة الأم.. أما الأب فلا صبر له وليس ضعيفا كالأم.. انه قوي باطش.. ولذلك فالأبناء يهربون منه.. والأم هي التي تجمعهم
ولكن هذا الرأي ليس صحيحا.. ربما كان الأب منطقيا ويريد ان يربي أولاده بشدة وصلابة.. ولكن الأم لأنها رقيقة القلب, ولأنها لاتقوي على غياب الأبناء أو هربهم أو على مجرد زعلهم, فإن الذي يرفضه الآباء علنا, تنفذه الأم سرا.. فالأب اذا أعطي قرشا علنا, فإن الأم تعطي قرشين سرا.. وهكذا تبدو الأم أرحم, بينما يبدو الأب أعنف
ويختلف الأب والأم على تربية الأولاد.. وعلى المبادئ التي يجب التمسك بها
وتوفيق الحكيم له حكاية.. فقد طلب منه ابنه اسماعيل أن يشتري له جيتارا بدلا من الذي تحطم.. وكان ثمن الجيتار في ذلك الوقت خمسة آلاف جنيه.. دفعها توفيق الحكيم وكانت له شروط, وهو ان يدفعها اسماعيل على شهور, كل شهر يدفع مائتي جنيه.. واشترط الحكيم ان يأخذ على ابنه كمبيالات.. اذا دفع المبلغ اعطاه الكمبيالة.. وكان يجلس في مقعد عند أول كل شهر أمام غرفة اسماعيل.. ولايذهب الحكيم إلى مكتبه, إلا اذا دفع اسماعيل المبلغ وتسلم الكمبيالة كل شهر
وفي يوم سألت الحكيم فقال: ان اسماعيل يدفع بانتظام ولابد أن يفعل ذلك.. ان يعتمد على نفسه.. ويأخذ ويعطي.. ولم يحدث أن تهرب من ذلك
وكان الحكيم سعيدا بهذا الانضباط.. وكان يروي ذلك على ان هذه هي التربية وإلا فلا
وسألت اسماعيل فقال ضاحكا: ان والدي ينتظرني حتى أدفع.. ولكن لو نظر والدي إلى الفلوس التي أعيدها إليه بشيء من العناية لوجد ان هذه الفلوس هي هي لم تتغير من شهور.. فأنا أعطي الفلوس لأبي, وهو يعطيها لأمي, وأمي تضعها في جيبي.. انه نفس المبلغ
*******
إن توفيق الحكيم اراد أن يرسي قواعد الواجب والحق.. الابن له حقوق وعليه واجبات.. ولكن المسافات بين ضعف الأم وقوة الأب ينفذ منها الأبناء ويوسعونها حتى تكون فجوة.. وجفوة.. وقد يؤدي كل ذلك إلى طلاق.. الى انهيار الأسرة فوق رءوس الأبناء.. وتتفرق بهم الطرق إلى الحاضر والمستقبل
واذا كانت الأم لاتعمل فهي وحدها التي تنفرد بالأولاد وتأمر وتنهي: فهي المدرس والطبيب ورجل الدين, وهؤلاء الثلاثة ليست لهم شعبية عند الأطفال صغارا وكبارا.. فهؤلاء الثلاثة تقوم الأم بوظيفتهم ليلا ونهارا.. وهكذا تصبح الأم مكروهة.. عند كل الأطفال
اما الأب الذي يعمل.. فهو يجيء إلى البيت بعد العمل, وكلها ساعة أو ساعتين يأكل فيهما ويشرب ويتحدث إلى أولاده خفيفا لطيفا.. لا يأمر ولاينهى ولايعاقب.. فيحب الأبناء الأب ولايحبون الأم.. لأن الأب ليس عنده وقت.. والأم لاتتوقف عن النصائح والتحذير والوعيد.. فهم يرون في الأم كل السلطات التي تمسك العصا.. بينما الأب هو رسول السلام والرحمة, يعطي ولايعاقب ولايهدد ولايحذر ولاينذر.
حتى جاء دور المرأة فعملت.. فأصبحت هي والأب بعيدين عن الأولاد.. لاوقت عند احدهما للأولاد.. مع زيادة في إرهاق الأم العاملة.. فهي تعمل كالرجل خارج البيت.. فاذا جاءت إلى البيت استأنفت كل العمل: تطبخ وتغسل وتكنس وتربي وتعلم وتعالج وتنصح.. بينما الأب يتمدد في فراشه.. وإلي جواره وحوله الأبناء الذين لايسهمون في أي عمل.. تماما كالأب!
وعندما دخلت المرأة دنيا العمل إلى جوار الرجل أصبح الأبناء أبناء شوارع أو سلالم.. أو أبناء الخدم.. أو أبناء الحتة.. فلا وقت عند الأب ولا وقت عند الأم.. ولن تعود المرأة إلى البيت.. ولذلك سوف يبقي الابن بلا رعاية ولاحماية ولا وقاية.. انه يعيش على هامش حب الأم ورعاية الأب..
وكل الأطفال كذلك
قال لي طفل في احدى دور الحضانة: إن الاطفال معي في الفصل كل امهاتهم مطلقات.. وكل واحد يقول لي: انه لا يرى أباه إلا نادرا!!
وأصبح مألوفا جدا أن تعيش الأم مع أطفالها.. أو بعض أطفالها وبقية الأطفال مع الأب
*******
ورأينا شيئا جديدا الآن, وهو أن الأم لاتريد جميع أطفالها وتتركهم للأب عقابا له.. وفي نفس الوقت لأن الأم قررت أن تتزوج رجلا آخر, ولامعنى لأن تعاقب الرجل الثاني بأولاد الرجل الأول.. وهي دوخة للأب الذي لايفهم في التربية.. والعقوبة لاتصيب الأب وحده, وانما الأولاد..
ولم يعد قلب الأم يتفتت على غياب الأولاد.. ولم يعد قلب الأب حديدا, وانما هو قلب يتمزق ويذوب دما على أولاده الذين هجرتهم الأم من أجل رجل آخر وأولاد آخرين
والضحية: الأطفال.. الشبان الذين سوف يكونون آباء جددا.. والذين سوف يحلمون بحياة عائلية أفضل.. ولذلك يتعجلون الزواج.. ثم يجدون أنفسهم غير قادرين على الحياة الزوجية والأبوة.. وهي مشكلة جديدة تصيب الأطفال بسبب عذاب آبائهم عندما كانوا أطفالا.. فالأجيال تصب عذابها على نفسها.. جيلا بعد جيل بعد جيل!!
فأنت لاتكره ابنك.. وابنك لايكره ابنه.. وأنت لاتكره حفيدك الذي لاتعرفه
وانما هي أجيال تضغط على بعضها البعض.. وكل جيل له ظروفه الضاغطة والقاهرة أيضا
وكما يحدث في سباق التتابع.. أن تعطي الشعلة للذي بعدك.. والذي بعدك يعطيها للذي بعده.. فإذا أنت تعثرت في البداية وأدى ذلك الي أن تأخر ابنك وفشل حفيدك.. فأنت لاتقصد ذلك واذا قال حفيدك: إنك إنسان فاشل وأنت الذي فرضت عليه العذاب والهوان, فهو معذور اذا قال.. ولكنه ليس محقا.. وهو ليس على استعداد لأن يجد لك عذرا.. انه يرى الذي بين يديه.. والذي بين يديه.. انه لم يصل.. بينما وصل الآخرون.. ولذلك فهو غاضب على حظه الأسود.. وأنت الأسود في هذا الحظ
*******
إن الأجيال يجب أن تعرف العدل.. واذا عرفت العدل عرفت الرحمة.. واذا عرفت الرحمة عرفت الامتنان
امتنان جيل إلى جيل..
وهذا ما لايحدث عادة.. ومن هنا كانت كلمة الكراهية هي اكثر الكلمات شعبية
والكراهية تولد الحقد.. والحقد أبو الحرب, والحرب أم الخراب والدمار في هذه الدنيا
والحرب أم لحروب أخرى وبأشكال أخرى وبأسلحة أخرى
*******
-أنيـس منصـور-