بسم الله الرحمن الرحيم
فضل قضاء حوائج المسلمين
إن الله تعالى يحب من عباده من هو أنفع للناس فكلما زاد النفع زاد حب الله له
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد ( يعني مسجد المدينة) شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل " .
إن لله عبــــــاداً فطنـــا طلقوا الدنيا وخافـوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيى وطنــــا جعلوها لجة واتخــذوا صالح الأعمال فيها سفنا
وهذا رجل من هؤلاء، يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله تعالى
ليفعلها، ويسأله عن أحب الناس إلى الله تعالى عسى أن يكون منهم، فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث العظيم الجامع لأنواع الخير وخصال البر، وفي السؤال وجوابه دليل على محبة الله تعالى لأهل الخير من عباده، كما قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [البقرة : 222] .
وكما قال تعالى: ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران : 146]
.
والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يبين أن أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، ومعنى ذلك أن الناس يتفاوتون في محبة الله عز وجل لهم، وأن أحبهم إليه سبحانه أنفعهم للناس، فكلما كثر نفع العبد لإخوانه المسلمين كلما ازدادت محبة الله تبارك وتعالى له، وكلما نقصت منفعة العبد لإخوانه المسلمين كلما نقصت محبة الله عز وجل له، والنفع المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام:" أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس " لا يقتصر على النفع المادي فقط، ولكنه يمتد ليشمل النفع بالعلم، والنفع بالرأي، والنفع بالنصيحة، والنفع بالمشورة، والنفع بالجاه، والنفع بالسلطان، ونحو ذلك،
فكل ما استطعت أن تنفع به إخوانك المسلمين فنفعتهم به، فأنت داخل في الذين يحبهم الله تعالى " أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس " .
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم السائل بمن يحبهم الله من عباده، فقال : " أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس "
أشار إلى منزلة عظيمة جدا، ودرجة عالية رفيعة، ذلك أن محبة الله للعبد شيء عظيم، فإن الله إذا أحب عبدا أحبه أهل السماء والأرض، وإن الله إذا أحب عبدا لا يعذبه، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل فقال: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " والله لا يلقى الله حبيبه في النار " ، ولذلك لما قالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ِ ) [المائدة : 18].
فلو كنتم أحبابه ما عذبكم، لأن الحبيب لا يعذب حبيبه.
فقرّ عينا أيها المسلم الذي يجتهد في نفع الناس،
فإنك إذا نفعت الناس أحبك الله، وإذا أحبك الله أحبك أهل السماء ووضع لك القبول في الأرض، وإذا أحبك الله لا يعذبك الله أبدا.
ثم بعد ذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم السائل إلى أحب الأعمال إلى الله عز وجل:
فقال عليه الصلاة والسلام: " وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم " وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأفراد، فقد يتحقق السرور في قلب المسلم بسؤال أخيه عنه، وقد يتحقق بزيارة أخيه له، وقد يتحقق بهدية أخيه له، وقد يتحقق بأي شيء سوى ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم".
ويفهم من هذا أن الله إذا كان يحب إدخال السرور على قلب المسلم فإنه يبغض إدخال الحزن على قلب المسلم.
فالواجب على كل مسلم : أن يعمل جاهدا على إدخال السرور على قلب إخوانه المسلمين. وواجب على كل مسلم : أن يحذر كل الحذر من إدخال الحزن على قلوب إخوانه المسلمين.
ومن أحب الأعمال إلى الله:
" أن تكشف عن مسلم كربة " .
والكربة هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الهم والغم والكرب، ولقد وعد الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرفع كرب الآخرة عمن يرفع كرب الدنيا عن المسلمين.
ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " .
ومن المعلوم أن كرب الدنيا كلها بالنسبة لكرب الآخرة لا شيء، فإن كرب الآخرة شيء عظيم، يدلك على ذلك قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) [الحج : 1- 2] .
وقال تعالى: ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) [المزمل : 17- 18] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة أدنيت
الشمس من العباد حتى تكون قيد ميل أو اثنين ، قال الراوي : لا أدري أي الميلين عنى، أمسافة الأرض أم الميل الذي يكحل به العين؟ قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما " .
وفي حديث الشفاعة أن الناس إذا استشفعوا بالأنبياء يوم القيامة قالوا لكل واحد منهم:" اشفع لنا عند ربك، أما ترى ما نحن فيه؟! أما ترى ما قد بلغنا ؟! " .
فكل هذه النصوص تدل على أن كرب الآخرة شيء عظيم جدا، وليس هناك من يدفع عنك – أيها المسلم – كرب الآخرة ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) [الشعراء : 88 - 89] ،إلا أن تفرج عن المسلمين كرب الدنيا، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"من فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة "
فعليك أيها المسلم القادر أن تسعى لإزالة ما يحل بالمسلمين من النائبات والمصائب والكرب، فمن ابتلي بمسغبة بذلت له من مالك، أو حثثت الأغنياء على التصدق عليه ومعونته، ومن ابتلي بالعطالة سعيت له في تحصيل عمل، ومن حاق به ظلم ظالم رددت عنه الظلم ما وجدت إلى ذلك سبيلا، وبالجملة فأنت أيها المسلم مكلف شرعا أن تسعى جاهدا لإزالة النائبات أو تخفيفها عن إخوانك المسلمين، والله سبحانه يعدك على ذلك أن يدفع كرب يوم الدين.
ومن أحب الأعمال إلى الله :
" أن تقضى عن مسلم دينا " . إن الله تبارك وتعالى جعل للغارمين نصيبا في الصدقات المفروضة، وجعل لهم حقا معلوما في مال الأغنياء، قال تعالى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [التوبة : 60 ] .
والغارمون هم من ركبتهم الديون ولزمتم، ثم لم يجدوا لها وفاء، فأهل الأموال مطالبون شرعا بقضاء دين الغارمين، ولذلك جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: " أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثرت ديونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه ) ، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ وفاء دينه، فقال صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ) " .
ومن أحب الأعمال إلى الله
عز وجل : أن تطرد عن مسلم جوعا، فطرد الجوع عن الجائعين عمل من أعمال البر، يجزي الله عليه بجنة عالية، قطوفها دانية، فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) [الإنسان : 5 - 12] .
ولقد حث الله تعالى على طرد الجوع عن الجائعين، فقال عز وجل : ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ) [البلد :11- 18] .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " أطعموا الجائع، وفكوا العاني، وعودوا المريض " .
ويقول : " أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " .
ولقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن بات شبعان وجاره جائعا، فقال صلى الله عليه وسلم : " ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه " .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني! فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟! فيقول عز وجل: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه،أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟!"
ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن من الأسباب الموجبة لدخول النار عدم طرد الجوع عن الجائعين مع القدرة عليه، قال تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) [المدثر:38- 47]
بل أبلغ من ذلك جعل الله تعالى من أسباب دخول النار ترك الحض على إطعام الجائعين، قال الله عز وجل وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ) [الحاقة : 25 - 37] .
ومن أحب الأعمال إلى الله عز وجل :
ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهرا " .
ففي قوله صلى الله عليه وسلم هذا إشارة إلى فضل المشي مع المسلمين في قضاء حوائجهم، ولقد كثرت الأحاديث في الحث على السعي في
قضاء حوائج المسلمين.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " .
وكلها تحث على السعي في قضاء حوائج المسلمين، وتبين أن الوقت الذي ينفقه المسلم في قضاء حاجة أخ له لا يضيع عليه سدى، بل إن الله تبارك وتعالى يعطيه خيرا مما بذل وأكثر، فإنك لو أعطيت أخاك المسلم قليلا من وقتك، تسعى معه في قضاء حاجته، أعطاك الله خيرا مما أعطيت أخاك المسلم وأكثر مما بذلت له ، " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " فإن الجزاء من جنس العمل، والله عز وجل يقول : ( هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ )[الرحمن:60].
فعلى العاقل يستعين على قضاء حاجة نفسه بالسعي في قضاء حاجات المسلمين، فإنك إذا سعيت في قضاء حاجات المسلمين سعى الله نفسه في قضاء حاجتك.
فأيهما خير لك ؟!
أن تسعى في حاجة نفسك أنت، أم يسعى الله العليم القدير، الذي بيده ملكوت كل شيء، وعنده خزائن كل شيء، في قضاء حاجتك .
ومن هنا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد حرصا من غيرهم على المشي في قضاء حوائج المسلمين، روي أن الحسن البصري رحمه الله بعث نفرا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل مسلم، وأمرهم أن يمروا بثابت البناني فيأخذوه معهم، فأتوا ثابتا فأخبروه فقال: إني معتكف، فرجعوا إلى الحسن .
فقال لهم : قولوا له يا أعمش! أما تعلم، مشيك في قضاء حوائج المسلمين خير لك من حجة بعد حجة. فرجعوا إلى ثابت فترك اعتكافه وخرج معهم.
ولقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يتعاهد الأرامل بالليل يستقي لهن الماء فرآه طلحة رضى الله عنه ليلة يدخل بيت امرأة، فدخل طلحة على المرأة نهارا فإذا هي امرأة عمياء مقعدة .
فقال لها: يا هذه ما يصنع هذا عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى .
فقال طلحة رضى الله عنه : ثكلتك أمك يا طلحة! أعورات عمر تتبع؟! وكان كثير من الصالحين إذا خرج في سفر مع أصحابه يشترط عليهم أن يخدمهم، فإذا خرجوا وأراد أحدهم أن يغسل رأسه أو قميصه قال: هذا شرطي، فتركه يغسل رأسه وقميصه.
وفي الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا في يوم شديد الحر، أكثرنا ظلا من يستظل بكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، وكان منا الصائم ومنا المفطر، فنزل الصائمون، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركائب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ) " .
لأنهم كانوا في خدمة إخوانهم الصائمين وقضاء حوائجهم .
وفي الحديث الذي معنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام " والمراد بالحاجة أي حاجة كانت: مالية أو علمية أو أدبية، دينية أو دنيوية .
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم " ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام " أن الذي يمشي في حاجة أخيه المسلم حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم القيامة على الصراط، الذي هو مدحضة مزلة ، أرق من الشعر، وأحد من السيف، وعلى جنبتيه كلاليب وخطاطيف، تتخطف الناس.
فضل قضاء حوائج المسلمين
إن الله تعالى يحب من عباده من هو أنفع للناس فكلما زاد النفع زاد حب الله له
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في هذا المسجد ( يعني مسجد المدينة) شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل " .
إن لله عبــــــاداً فطنـــا طلقوا الدنيا وخافـوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيى وطنــــا جعلوها لجة واتخــذوا صالح الأعمال فيها سفنا
وهذا رجل من هؤلاء، يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله تعالى
ليفعلها، ويسأله عن أحب الناس إلى الله تعالى عسى أن يكون منهم، فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث العظيم الجامع لأنواع الخير وخصال البر، وفي السؤال وجوابه دليل على محبة الله تعالى لأهل الخير من عباده، كما قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [البقرة : 222] .
وكما قال تعالى: ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران : 146]
.
والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يبين أن أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، ومعنى ذلك أن الناس يتفاوتون في محبة الله عز وجل لهم، وأن أحبهم إليه سبحانه أنفعهم للناس، فكلما كثر نفع العبد لإخوانه المسلمين كلما ازدادت محبة الله تبارك وتعالى له، وكلما نقصت منفعة العبد لإخوانه المسلمين كلما نقصت محبة الله عز وجل له، والنفع المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام:" أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس " لا يقتصر على النفع المادي فقط، ولكنه يمتد ليشمل النفع بالعلم، والنفع بالرأي، والنفع بالنصيحة، والنفع بالمشورة، والنفع بالجاه، والنفع بالسلطان، ونحو ذلك،
فكل ما استطعت أن تنفع به إخوانك المسلمين فنفعتهم به، فأنت داخل في الذين يحبهم الله تعالى " أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس " .
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم السائل بمن يحبهم الله من عباده، فقال : " أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس "
أشار إلى منزلة عظيمة جدا، ودرجة عالية رفيعة، ذلك أن محبة الله للعبد شيء عظيم، فإن الله إذا أحب عبدا أحبه أهل السماء والأرض، وإن الله إذا أحب عبدا لا يعذبه، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل فقال: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " والله لا يلقى الله حبيبه في النار " ، ولذلك لما قالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ِ ) [المائدة : 18].
فلو كنتم أحبابه ما عذبكم، لأن الحبيب لا يعذب حبيبه.
فقرّ عينا أيها المسلم الذي يجتهد في نفع الناس،
فإنك إذا نفعت الناس أحبك الله، وإذا أحبك الله أحبك أهل السماء ووضع لك القبول في الأرض، وإذا أحبك الله لا يعذبك الله أبدا.
ثم بعد ذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم السائل إلى أحب الأعمال إلى الله عز وجل:
فقال عليه الصلاة والسلام: " وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم " وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأفراد، فقد يتحقق السرور في قلب المسلم بسؤال أخيه عنه، وقد يتحقق بزيارة أخيه له، وقد يتحقق بهدية أخيه له، وقد يتحقق بأي شيء سوى ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم".
ويفهم من هذا أن الله إذا كان يحب إدخال السرور على قلب المسلم فإنه يبغض إدخال الحزن على قلب المسلم.
فالواجب على كل مسلم : أن يعمل جاهدا على إدخال السرور على قلب إخوانه المسلمين. وواجب على كل مسلم : أن يحذر كل الحذر من إدخال الحزن على قلوب إخوانه المسلمين.
ومن أحب الأعمال إلى الله:
" أن تكشف عن مسلم كربة " .
والكربة هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الهم والغم والكرب، ولقد وعد الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرفع كرب الآخرة عمن يرفع كرب الدنيا عن المسلمين.
ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة " .
ومن المعلوم أن كرب الدنيا كلها بالنسبة لكرب الآخرة لا شيء، فإن كرب الآخرة شيء عظيم، يدلك على ذلك قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) [الحج : 1- 2] .
وقال تعالى: ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) [المزمل : 17- 18] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة أدنيت
الشمس من العباد حتى تكون قيد ميل أو اثنين ، قال الراوي : لا أدري أي الميلين عنى، أمسافة الأرض أم الميل الذي يكحل به العين؟ قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما " .
وفي حديث الشفاعة أن الناس إذا استشفعوا بالأنبياء يوم القيامة قالوا لكل واحد منهم:" اشفع لنا عند ربك، أما ترى ما نحن فيه؟! أما ترى ما قد بلغنا ؟! " .
فكل هذه النصوص تدل على أن كرب الآخرة شيء عظيم جدا، وليس هناك من يدفع عنك – أيها المسلم – كرب الآخرة ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) [الشعراء : 88 - 89] ،إلا أن تفرج عن المسلمين كرب الدنيا، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"من فرّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة "
فعليك أيها المسلم القادر أن تسعى لإزالة ما يحل بالمسلمين من النائبات والمصائب والكرب، فمن ابتلي بمسغبة بذلت له من مالك، أو حثثت الأغنياء على التصدق عليه ومعونته، ومن ابتلي بالعطالة سعيت له في تحصيل عمل، ومن حاق به ظلم ظالم رددت عنه الظلم ما وجدت إلى ذلك سبيلا، وبالجملة فأنت أيها المسلم مكلف شرعا أن تسعى جاهدا لإزالة النائبات أو تخفيفها عن إخوانك المسلمين، والله سبحانه يعدك على ذلك أن يدفع كرب يوم الدين.
ومن أحب الأعمال إلى الله :
" أن تقضى عن مسلم دينا " . إن الله تبارك وتعالى جعل للغارمين نصيبا في الصدقات المفروضة، وجعل لهم حقا معلوما في مال الأغنياء، قال تعالى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [التوبة : 60 ] .
والغارمون هم من ركبتهم الديون ولزمتم، ثم لم يجدوا لها وفاء، فأهل الأموال مطالبون شرعا بقضاء دين الغارمين، ولذلك جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: " أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثرت ديونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه ) ، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ وفاء دينه، فقال صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ) " .
ومن أحب الأعمال إلى الله
عز وجل : أن تطرد عن مسلم جوعا، فطرد الجوع عن الجائعين عمل من أعمال البر، يجزي الله عليه بجنة عالية، قطوفها دانية، فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) [الإنسان : 5 - 12] .
ولقد حث الله تعالى على طرد الجوع عن الجائعين، فقال عز وجل : ( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ) [البلد :11- 18] .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " أطعموا الجائع، وفكوا العاني، وعودوا المريض " .
ويقول : " أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " .
ولقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن بات شبعان وجاره جائعا، فقال صلى الله عليه وسلم : " ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه " .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني! فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟! فيقول عز وجل: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه،أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟!"
ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن من الأسباب الموجبة لدخول النار عدم طرد الجوع عن الجائعين مع القدرة عليه، قال تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) [المدثر:38- 47]
بل أبلغ من ذلك جعل الله تعالى من أسباب دخول النار ترك الحض على إطعام الجائعين، قال الله عز وجل وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ) [الحاقة : 25 - 37] .
ومن أحب الأعمال إلى الله عز وجل :
ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهرا " .
ففي قوله صلى الله عليه وسلم هذا إشارة إلى فضل المشي مع المسلمين في قضاء حوائجهم، ولقد كثرت الأحاديث في الحث على السعي في
قضاء حوائج المسلمين.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " .
وكلها تحث على السعي في قضاء حوائج المسلمين، وتبين أن الوقت الذي ينفقه المسلم في قضاء حاجة أخ له لا يضيع عليه سدى، بل إن الله تبارك وتعالى يعطيه خيرا مما بذل وأكثر، فإنك لو أعطيت أخاك المسلم قليلا من وقتك، تسعى معه في قضاء حاجته، أعطاك الله خيرا مما أعطيت أخاك المسلم وأكثر مما بذلت له ، " من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته " فإن الجزاء من جنس العمل، والله عز وجل يقول : ( هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ )[الرحمن:60].
فعلى العاقل يستعين على قضاء حاجة نفسه بالسعي في قضاء حاجات المسلمين، فإنك إذا سعيت في قضاء حاجات المسلمين سعى الله نفسه في قضاء حاجتك.
فأيهما خير لك ؟!
أن تسعى في حاجة نفسك أنت، أم يسعى الله العليم القدير، الذي بيده ملكوت كل شيء، وعنده خزائن كل شيء، في قضاء حاجتك .
ومن هنا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد حرصا من غيرهم على المشي في قضاء حوائج المسلمين، روي أن الحسن البصري رحمه الله بعث نفرا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل مسلم، وأمرهم أن يمروا بثابت البناني فيأخذوه معهم، فأتوا ثابتا فأخبروه فقال: إني معتكف، فرجعوا إلى الحسن .
فقال لهم : قولوا له يا أعمش! أما تعلم، مشيك في قضاء حوائج المسلمين خير لك من حجة بعد حجة. فرجعوا إلى ثابت فترك اعتكافه وخرج معهم.
ولقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يتعاهد الأرامل بالليل يستقي لهن الماء فرآه طلحة رضى الله عنه ليلة يدخل بيت امرأة، فدخل طلحة على المرأة نهارا فإذا هي امرأة عمياء مقعدة .
فقال لها: يا هذه ما يصنع هذا عندك؟ قالت: إنه منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى .
فقال طلحة رضى الله عنه : ثكلتك أمك يا طلحة! أعورات عمر تتبع؟! وكان كثير من الصالحين إذا خرج في سفر مع أصحابه يشترط عليهم أن يخدمهم، فإذا خرجوا وأراد أحدهم أن يغسل رأسه أو قميصه قال: هذا شرطي، فتركه يغسل رأسه وقميصه.
وفي الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا في يوم شديد الحر، أكثرنا ظلا من يستظل بكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، وكان منا الصائم ومنا المفطر، فنزل الصائمون، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركائب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ذهب المفطرون اليوم بالأجر ) " .
لأنهم كانوا في خدمة إخوانهم الصائمين وقضاء حوائجهم .
وفي الحديث الذي معنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام " والمراد بالحاجة أي حاجة كانت: مالية أو علمية أو أدبية، دينية أو دنيوية .
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم " ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام " أن الذي يمشي في حاجة أخيه المسلم حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم القيامة على الصراط، الذي هو مدحضة مزلة ، أرق من الشعر، وأحد من السيف، وعلى جنبتيه كلاليب وخطاطيف، تتخطف الناس.