نبذة مختصرة عن سيرة ابن القيم الشخصية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. في هذه الليلة سنتكلم عن ابن القيم -رحمه الله تعالى- علمٌ من أعلام المسلمين الذي كان له فضلٌ عظيمٌ في نصرة هذا الدين، وفي نشر سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهو الذي تكلم وناظر وألف في تبيانه للإسلام، حتى غدت مؤلفاته منابع خير يتلقى منها من بعده، فأصبح الناس عالةً على كتبه، وهذا الرجل مغموط الحق عند الكثيرين، مجهول الحال عند أغلب المسلمين، ولعلنا في هذه النبذة التي نقدمها عن حياته ومنهجه وأسلوبه نكون قد قمنا بشيء بسيط من الواجب نحو هذا العلم الضخم من أعلام المسلمين. أما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فكنيته أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي المشتهر بـابن قيم الجوزية رحمه الله. ولد في السابع من شهر صفر من سنة 691هـ، وذكر بعضهم أن ولادته كانت بـدمشق ، وكان والده -رحمه الله- ناظراً ومشرفاً على مدرسة الجوزية التي أنشأها وأوقفها -رحمه الله تعالى- ولأن أباه كان مشرفاً على هذه المدرسة، فكان المشرف يسمى قيماً، فاشتهر ابنه بـابن القيم -رحمه الله-؛ ولذلك يقال على سبيل الاختصار: ابن القيم ، وإلا فإن اسمه، محمد ، وكنيته أبو عبد الله ، ولقبه شمس الدين ، ويخطئ من يقول: ابن القيم الجوزية، وإنما الصحيح ابن قيم الجوزية، أو اختصاراً ابن القيم ، وخلط كثيرون بينه وبين ابن الجوزي، وترتب على هذا الخلط إشكالات، منها: أن نسبت كتبٌ لـابن القيم هو منها بريء، مثل: كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه وهو كتابٌ منحرفٌ في العقيدة، وكذلك كتاب أخبار النساء لـابن الجوزي ، وكان أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه من المشتهرين بالعلم والفضل. نشأ -رحمه الله- في جوٍ علمي، وله من الأولاد عبد الله الذي ولد سنة 723هـ، وكانت وفاته سنة 756هـ، وكان ولداً مفرطاً في الذكاء، فقد حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة 731هـ، وأثنى عليه أهل العلم بأمورٍ كثيرة منها: غيرته في أمر الله، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن هذا الولد قد أبطل بدعة الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، حيث كانت توقد نيران في ليلة النصف من شعبان وهي بدعة، أبطلها ولد ابن القيم -رحمه الله- وله ولدٌ آخر اسمه إبراهيم كان علامةً نحوياً فقيهاً شرح الألفية .
حياة ابن القيم العلمية والعملية
برع ابن القيم-رحمه الله- في علوم كثيرة لا تكاد تحصى، وهي سائر علوم الشريعة، مثل: التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والفرائض، واللغة، والنحو، وكان من المتفننين، وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية ، وكان عارفاً في التفسير لا يجارى، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم، وقال عنه الذهبي -رحمه الله-: "عني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره". وقال ابن ناصر الدين -رحمه الله-: "كان ذا فنون في العلوم". وقال ابن حجر : كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف. وقد رحل رحلات لكنها ليست بالكثيرة، فمثلاً رحل إلى مصر ، فقال في بعض كتبه: وقد جرت لي مناظرة بـمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، والسبب الذي لم يشتهر من أجله ابن القيم في الرحلة أنه قد نشأ بمدينة دمشق ، وكانت عامرةً بالعلماء، وبالمكتبات، وبالمدارس، وأتى إليها طلبة العلم والعلماء من كل حدب وصوب؛ فلم يعد هناك داعٍ كبيرٍ للرحلة، وخيركم من يأتيه رزقه عند عتبة بابه.
أسفار ابن القيم وتأليفه للكتب فيها
وقد حج -رحمه الله- حجات كثيرة، وجاور في بيت الله الحرام، وقال عنه تلميذه ابن رجب : "حج مرات كثيرة، وجاور بـمكة ، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.. وقد ذكر رحمه الله في بعض كتبه أشياء مما حصلت له في مكة ، فقال في قصة تأليف كتابه مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة قال في مقدمته: "وكان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقاء نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته، وحوله بكرة وأصيلاً" فكان هذا الكتاب قد ألفه في مكة -رحمه الله تعالى. وقال عن استشفائه بماء زمزم: "لقد أصابني أيام مقامي بـمكة أسقامٌ مختلفة، ولا طبيب، ولا أدوية- كما في غيرها من المدن- فكنت أستشفي بالعسل، وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً". وقال في مدارج السالكين عندما تكلم عن موضوع الرقى: لقد جربت في ذلك من نفسي وغيري أموراً عجيبةً، ولا سيما في المقام بـمكة ، فإنه كان يعرض لي آلاماً مزعجةً؛ بحيث تكاد تنقطع مني الحركة، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم، فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدةً، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه، فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب الإيمان وصحة اليقين، والله أعلم. وهذا السفر مع بعده عن الأولاد والوطن، لم يكن يشغله عن طلب العلم والتأليف والنظر، فهو وإن سافر فإنه لا يحمل من الزاد إلا أمراً يسيراً، وكانت مكتبته في صدره رحمه الله، ومن العجيب أنه قد ألف كتباً حال سفره منها: مفتاح دار السعادة ، و روضة المحبين ، و زاد المعاد ، و بدائع الفوائد ، و تهذيب سنن أبي داود ألفها في حال السفر، وليس في حال الإقامة، وكان -رحمه الله- مغرماً بجمع الكتب، فإنك تجد -مثلاً- في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية قد رجع إلى أكثر من مائة كتاب، وفي أحكام أهل الذمة ذكر نحو ثلاثين كتاباً، وكذا في كتابه الروح ، وهذا يعني أنه كان عنده مراجع كثيرة، وكان يهتم بكتبه، وقد حصل عنده من الغرام بتحصيل الكتب أمراً عظيماً؛ حتى أنه جمع منها ما لم يجمع غيره، وحصل منها ما لم يحصل لغيره؛ حتى كان بعض أولاده من الذين أتوا من بعده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً غير ما أبقوه لأنفسهم للإفادة منه، وكذلك كان ابن أخيه قد صار عنده شيئاً من مكتبته، وكان لا يبخل بإعارتها.
أعمال ابن القيم رحمه الله
تولى ابن القيم -رحمه الله- أعمالاً عديدةً، منها: الإمامة في المدرسة الجوزية، والتدريس في المدرسة الصدرية، والفتوى، والتأليف. وقد تعرض -رحمه الله- للسجن بسبب فتاوي رأى أن الحق فيها، مثل: مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد، ومثل: إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل؛ حيث يقول ابن رجب -رحمه الله-: وقد حبس مدة لإنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل؛ مع أن شد الرحال إلى قبر الخليل من البدع المحدثة، ولا يشرع شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وكل شد رحل لزيارة مكان عبادة، أو قبر من القبور، أو مسجد من المساجد، فإنه بدعةٌ من البدع، فما بالك بما يحدث اليوم من بعض الناس بزيارة أماكن المغضوب عليهم في رحلات سياحية، مثل: مدائن صالح التي أهلك الله قومها ومن كان فيها، والنبي عليه الصلاة والسلام لما مرَّ بها مرَّ مطأطئ الرأس، حزيناً، مسرعاً، خائفاً من عذاب الله، واليوم يشدون الرحلات السياحية إلى تلك الأماكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أخلاق ابن القيم وتواضعه
وأما عن أخلاق ابن القيم -رحمه الله- فقال ابن كثير : كان حسن القراءة والخلق، كثير التوجه، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه، وأموره، وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة؛ ولهذا الطبع المتأصل في نفسه تجده يقول -مثلاً- في بعض كتبه: من أساء إليك، ثم جاء يعتذر عن إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله عز وجل- كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين. وأما عن تواضعه، فإنه كان أمراً عجيباً، وقد ذكر العلامة الصفدي -رحمه الله تعالى- ميميته الرقيقة التي يتحدث فيها ابن القيم عن هضمه لنفسه، ويفي بتواضعه من خلال أبيات تلك القصيدة، فيقول:
بُني أبي بكرٍ كثيرٌ ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثمُ
بُني أبي بكرٍ جهولٌ بنفسه جهولٌ بأمر الله أنَّى له العلمُ
بُني أبي بكرٍ غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علمُ
بُني أبي بكرٍ غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له همَّ
بُني أبي بكرٍ يروم مترقياً إذا جنت المأوى وليس له عزمُ
بُني أبي بكرٍ لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهمُ
عبادة ابن القيم وزهده
وأما عن عبادته وزهده، فإن من يقرأ مؤلفاته -رحمه الله- يخرج بدلالة واضحة، وهو: أنه كان عنده من عمارة القلب باليقين، والافتقار إلى الله عز وجل، والعبودية أمراً عظيماً، وتجد في ثنايا كلامه من إنابته إلى ربه، والحاجة إليه عز وجل ثروةً طائلةً، فكان من العلماء العاملين الذين كانوا من أهل الله وخاصته. قال ابن رجب رحمه الله: وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية الوسطى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، ولقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة منفرداً عنه، لم يفرج عنه إلا بعد موت شيخه ابن تيمية -رحمه الله-، وكان في مدة حبسه منشغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكير، ففتح الله عليه من ذلك خيراً كثيراً. وحج مرات وجاور بـمكة ، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه. وقال تلميذه ابن كثير: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقةً في الصلاة يطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع، ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى. وقال ابن حجر : كان إذا صلى الصبح، جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، وكان يقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي، وكان يقول: بالصبر والفقه تنال الإمامة بالدين.