عند نفسك من الغفلة ما يكفيها
ذ. عمر محاسن
سأل سائل الإمام ابن الجوزي رحمه الله قائلا : "أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي"، فأجابه : «عند نفسك من الغفلة ما يكفيها». (1)
الداعية المؤمن، المسؤول, اليقظ، الطالب للإحسان, حامل أعباء التربية والجهاد، يحرص أشد الحرص أن لا يسقط في أوحال الغفلة. قد فطم نفسه عن اللهو المؤدي إلى الغفلة عن الله، والغفلة عن الآخرة والمصير. معاملته دعوة، تصرفاته دعوة، جدُّه وهزلُه دعوة. حياته ترجمة لحقائق دعوته ومعاني إيمانه.
لا يزهد أبدا بوقته عن تبليغ دعوة الله، ولا يترك الفرصة تضيع من يديه لاستشراف مواقع القوة والتأثير، أو اتخاذ زمام المبادرة إلى الحركة والعطاء، أو إيجاد فرص التواصل مع الغير، أو غشيان المجالس بالكلمة الطيّبة. لأنه حامل لمشروع جليل يهدف إلى تغيير الإنسان، ويسعى إلى غرس بذور الخير في النفوس.
يتذكر دوما أن الآخرة سباق واستباق وأن الوقت هو رأس ماله في الحياة الدنيا، كل يوم يمر إلا ويزيده من منيته اقترابا؛ من أجل ذلك فهو ينافس في الخير والعطاء، ويخلّد أيامه بالعمل الصالح الذي يصعده ويرقيه. كثير عمله، قليل زلله، جواد لله بالعطاء وللناس بحسن الخلق والرضا. كلامه منفعة، وصحبته رفعة. يرفع لنفسه ذكرها بسيرته الطيبة وآثاره الحسنة في الأرض، يقول الشاعر أحمد شوقي :
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثان
قد اتعظ بقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه ، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي».
قال ابن القيم رحمة الله عليه في مدارج السالكين : "فالوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرّمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته". المؤمن الحازم، قد نظر في العواقب نظر المراقب، فترك الفراغ, وانتبه من رقدة الغفلة, وبذل قصارى الجهد في خدمة دعوة الله. علم يقينا أنه لن يستقيم أمره ولن تصح مروءته ما دام يطلب الراحة لنفسه، ولا يعطي للدعوة إلا فضول أوقاته. فالراحة العظمى راحة الجنة، والأفراح الحقيقية أفراح الآخرة. ولذلك لما سُئل الإمام أحمد رحمه الله : "متى يجد العبد طعم الراحة ؟ قال : عند أول قدم يضعها في الجنة".
أبو الدرداء رضي الله عنه قال : «أضحكني : مؤمل دنيا، والموت يطلبه. وغافل، ليس بمغفول عنه. وضاحك بملء فيه ولا يدري آرضى الله أم أسخطه ». (2)
الغفلة داء عضال، صاحبه غريق وتائه لا يبدو له طريق. داء متربص بالمؤمنين حتى ينسوا الله عز وجل فينسيهم أنفسهم، فتقسوا القلوب من ترك ذكر الله. والعلاج أن نتداعى إلى المجالس التي يباهي بها الله عز وجل ملائكته، فنذكره حق الذكر، ونستمطر رحمته، ونعتذر إليه عن التقصير، ونتوب إليه من الذنوب.
عن أنس رضي الله عنه قال : «كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تعال بنا نؤمن ساعة. فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة» (3).
هذه المجالس هي المخرج من سجن الغفلة، تذكر المرء إذا نسي، وتعينه إذا ذكر، وتقويه إذا ضعف. ومن المعلوم أن المؤمن ليس ملكا منزها، قد يصيبه بعض الفتور، وقد تعتريه لحظة تقصير أو رقدة غفلة ؛ لكن عليه أن يكون خفيف الرُّقاد، حي السُّهاد، متطلعا إلى نيل الزلفى ممن هو المستعاذ به والملاذ.
-------------
الهوامش:
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/422
(2) الزهد لابن المبارك.
(3) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
الداعية المؤمن، المسؤول, اليقظ، الطالب للإحسان, حامل أعباء التربية والجهاد، يحرص أشد الحرص أن لا يسقط في أوحال الغفلة. قد فطم نفسه عن اللهو المؤدي إلى الغفلة عن الله، والغفلة عن الآخرة والمصير. معاملته دعوة، تصرفاته دعوة، جدُّه وهزلُه دعوة. حياته ترجمة لحقائق دعوته ومعاني إيمانه.
لا يزهد أبدا بوقته عن تبليغ دعوة الله، ولا يترك الفرصة تضيع من يديه لاستشراف مواقع القوة والتأثير، أو اتخاذ زمام المبادرة إلى الحركة والعطاء، أو إيجاد فرص التواصل مع الغير، أو غشيان المجالس بالكلمة الطيّبة. لأنه حامل لمشروع جليل يهدف إلى تغيير الإنسان، ويسعى إلى غرس بذور الخير في النفوس.
يتذكر دوما أن الآخرة سباق واستباق وأن الوقت هو رأس ماله في الحياة الدنيا، كل يوم يمر إلا ويزيده من منيته اقترابا؛ من أجل ذلك فهو ينافس في الخير والعطاء، ويخلّد أيامه بالعمل الصالح الذي يصعده ويرقيه. كثير عمله، قليل زلله، جواد لله بالعطاء وللناس بحسن الخلق والرضا. كلامه منفعة، وصحبته رفعة. يرفع لنفسه ذكرها بسيرته الطيبة وآثاره الحسنة في الأرض، يقول الشاعر أحمد شوقي :
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها *** فالذكر للإنسان عمر ثان
قد اتعظ بقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه ، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي».
قال ابن القيم رحمة الله عليه في مدارج السالكين : "فالوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرّمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته". المؤمن الحازم، قد نظر في العواقب نظر المراقب، فترك الفراغ, وانتبه من رقدة الغفلة, وبذل قصارى الجهد في خدمة دعوة الله. علم يقينا أنه لن يستقيم أمره ولن تصح مروءته ما دام يطلب الراحة لنفسه، ولا يعطي للدعوة إلا فضول أوقاته. فالراحة العظمى راحة الجنة، والأفراح الحقيقية أفراح الآخرة. ولذلك لما سُئل الإمام أحمد رحمه الله : "متى يجد العبد طعم الراحة ؟ قال : عند أول قدم يضعها في الجنة".
أبو الدرداء رضي الله عنه قال : «أضحكني : مؤمل دنيا، والموت يطلبه. وغافل، ليس بمغفول عنه. وضاحك بملء فيه ولا يدري آرضى الله أم أسخطه ». (2)
الغفلة داء عضال، صاحبه غريق وتائه لا يبدو له طريق. داء متربص بالمؤمنين حتى ينسوا الله عز وجل فينسيهم أنفسهم، فتقسوا القلوب من ترك ذكر الله. والعلاج أن نتداعى إلى المجالس التي يباهي بها الله عز وجل ملائكته، فنذكره حق الذكر، ونستمطر رحمته، ونعتذر إليه عن التقصير، ونتوب إليه من الذنوب.
عن أنس رضي الله عنه قال : «كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تعال بنا نؤمن ساعة. فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة» (3).
هذه المجالس هي المخرج من سجن الغفلة، تذكر المرء إذا نسي، وتعينه إذا ذكر، وتقويه إذا ضعف. ومن المعلوم أن المؤمن ليس ملكا منزها، قد يصيبه بعض الفتور، وقد تعتريه لحظة تقصير أو رقدة غفلة ؛ لكن عليه أن يكون خفيف الرُّقاد، حي السُّهاد، متطلعا إلى نيل الزلفى ممن هو المستعاذ به والملاذ.
-------------
الهوامش:
(1) ذيل طبقات الحنابلة 1/422
(2) الزهد لابن المبارك.
(3) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.