التربية صناعة
د.خالد بن سعود الحليبي
"العظماء يُصنعون ولا يُولدون"؛ والتربية صناعة بلا شك، وكل صناعة تحتاج إلى مواد خام، وعلم دقيق يحيل الخام إلى مبتكرات تجعل قيمة المصنوع تبزّ أصله أضعافاً مضاعفة؛ وتزداد قيمته بحسب تقدم إمكانات النفع الذي يقدمه للبشر. وكذلك الإنسان.
فالإنسان خلقه الله جاهلاً؛ وزوده بآلية التعلم: (وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَْبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة النحل: 78].
وعملية التربية ذات شقين:
الأول: من الله تعالى؛ وهو تحقق النجاح فيها.
والثاني: من البشر؛ وهو السعي لتحقيق النجاح فيها، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز: (الأدب من الآباء، والهداية من الله).
وقد لفتت نظري آيات سورة طه؛ التي يقول الله تعالى فيها: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَـﭑقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِـﭑلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَـٰكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَي تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَـٰكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَٰمُوسَىٰ وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي). [سورة طـه: 37-41].
الآيات الكريمات تشير بوضوح إلى عملية سماها الله تعالى: (صناعة)، بدأت منذ الطفولة المبكرة؛ لحماية الوليد الذي يريد الله اصطفاءه لنفسه؛ ليكون نبياً رسولاً. والمهمة التي سيتقلدها صعبة للغاية، وهي مواجهة أطغى حاكم جبار في الأرض؛ ثم عليه ـ بعد ذلك ـ أن يخوض معركة الاستقامة مع بني إسرائيل، وهم قوم معاندون مشاكسون، فلا بد إذن من صناعة خاصة، وتربية ربانية عالية؛ لتهيئه لما هو مقبل عليه لينجح في المهمة.
ولنتأمل قوله تعالى: (أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَـﭑقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِـﭑلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ). حركات عنيفة، خشنة، محفوفة بالمخاوف، ولكن الله تعالى قال: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)، فإذا المحبة الإلهية تصون التابوت ومن فيه، فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء.
قال ابن كثير رحمه الله: (قَالَ أَبُو عِمْرَان الْجَوْنِيّ: تُرَبَّى بِعَيْنِ اللَّه، وَقَالَ قَتَادَة: تُغَذَّى عَلَى عَيْنِي، وَقَالَ مَعْمَر بْن الْمُثَنَّى: وَلِتُصْنَع عَلَى عَيْنِي بِحَيْثُ أَرَى، وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ يَعْنِي أَجْعَلهُ فِي بَيْت الْمَلِك يَنْعَم وَيُتْرَف وَغِذَاؤُهُ عِنْدهمْ غِذَاء الْمَلِك فَتِلْكَ الصَّنْعَة).
وإذا علمت ما قاله هؤلاء الأعلام، عن معنى (ولتُصنع على عيني)، علمت مفهوم السلف لمعنى هذه الصناعة، وأنها التربية الإنسانية له؛ روحاً وجسداً، على أنها باسم الله، وبرعاية مباشرة من الله، تأمل معي كيف سيُصنع بشر على عين الله تعالى ورعايته. وجاء الظرف (إذ) ليقول ـ والله أعلم ـ إن هذه الصناعة المقصودة لهذا الإنسان العظيم، تتم أول ما تتم في حضن امرأة عظيمة، إنها (أمه)؛ قال تعالى 8إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَـٰكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَي تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ)، قال الألوسي في روح المعاني عن الظرف (إذ): هو ((وقتٌ وقع فيه مشي الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع، إلى أمها وتربيتها له، بالحنو، وهو المصداق لقوله تعالى: (ولتصنع على عيني)؛ إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم، وصنيعها على موجب مراعاته تعالى)) ، ثم بعد أن عدّد مِننه عليه رجع إلى ذكر الصناعة لشخصيته الفذة فقال: (وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي).
إن كثيراً من طاقات ٱلأمة قُتلت في مهد أمهات جاهلات بحقيقة ٱلإبداع والعظمة ٱلمخبوءتين في نفوس أطفالهن، بل إن رؤية ٱلأم للحياة تتحكم كثيراً في مستقبل ٱلطفل بعد تقدير ٱلله تعالى، وقد قال نابليون: (مستقبل ٱلولد هو من صنع أمه)، ويقول بيتشر: (قلب ٱلأم مدرسة ٱلطفل). فلنأخذ ـ معنا ـ حكمة هذين ٱلحكيمين ٱلغربيين ونرحل إلى ٱلمدينة حيث نشأ إمام دار ٱلهجرة مالك بن أنس – رحمه ٱلله تعالى- في بيت علم ودين، فكان أبوه من رواة ٱلحديث، وكان جده لأبيه من كبار ٱلتابعين، كما أن جد أبيه صحابي جليل، وكانت أمه من خيار ٱلأمهات، ولذا اجتهدت في حثه على تحصيل ٱلعلم ٱلشرعي، ووصّته بالتعبد والسّمت ٱلحسن. يقول مالك: (قلت لأمي أذهب فأكتب ٱلعلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب ٱلعلم، فألبستني ثياباً مشمرة وعمَّمتني، ثم قالت: اذهب فاكتب ٱلآن) قال مالك: (كانت أمي تُعممني، وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه). فكان الإمام مالك بإذن ربه.
المصدر
د.خالد بن سعود الحليبي
"العظماء يُصنعون ولا يُولدون"؛ والتربية صناعة بلا شك، وكل صناعة تحتاج إلى مواد خام، وعلم دقيق يحيل الخام إلى مبتكرات تجعل قيمة المصنوع تبزّ أصله أضعافاً مضاعفة؛ وتزداد قيمته بحسب تقدم إمكانات النفع الذي يقدمه للبشر. وكذلك الإنسان.
فالإنسان خلقه الله جاهلاً؛ وزوده بآلية التعلم: (وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَْبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [سورة النحل: 78].
وعملية التربية ذات شقين:
الأول: من الله تعالى؛ وهو تحقق النجاح فيها.
والثاني: من البشر؛ وهو السعي لتحقيق النجاح فيها، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز: (الأدب من الآباء، والهداية من الله).
وقد لفتت نظري آيات سورة طه؛ التي يقول الله تعالى فيها: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَـﭑقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِـﭑلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَـٰكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَي تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَـٰكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَٰمُوسَىٰ وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي). [سورة طـه: 37-41].
الآيات الكريمات تشير بوضوح إلى عملية سماها الله تعالى: (صناعة)، بدأت منذ الطفولة المبكرة؛ لحماية الوليد الذي يريد الله اصطفاءه لنفسه؛ ليكون نبياً رسولاً. والمهمة التي سيتقلدها صعبة للغاية، وهي مواجهة أطغى حاكم جبار في الأرض؛ ثم عليه ـ بعد ذلك ـ أن يخوض معركة الاستقامة مع بني إسرائيل، وهم قوم معاندون مشاكسون، فلا بد إذن من صناعة خاصة، وتربية ربانية عالية؛ لتهيئه لما هو مقبل عليه لينجح في المهمة.
ولنتأمل قوله تعالى: (أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَـﭑقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِـﭑلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ). حركات عنيفة، خشنة، محفوفة بالمخاوف، ولكن الله تعالى قال: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي)، فإذا المحبة الإلهية تصون التابوت ومن فيه، فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء.
قال ابن كثير رحمه الله: (قَالَ أَبُو عِمْرَان الْجَوْنِيّ: تُرَبَّى بِعَيْنِ اللَّه، وَقَالَ قَتَادَة: تُغَذَّى عَلَى عَيْنِي، وَقَالَ مَعْمَر بْن الْمُثَنَّى: وَلِتُصْنَع عَلَى عَيْنِي بِحَيْثُ أَرَى، وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ يَعْنِي أَجْعَلهُ فِي بَيْت الْمَلِك يَنْعَم وَيُتْرَف وَغِذَاؤُهُ عِنْدهمْ غِذَاء الْمَلِك فَتِلْكَ الصَّنْعَة).
وإذا علمت ما قاله هؤلاء الأعلام، عن معنى (ولتُصنع على عيني)، علمت مفهوم السلف لمعنى هذه الصناعة، وأنها التربية الإنسانية له؛ روحاً وجسداً، على أنها باسم الله، وبرعاية مباشرة من الله، تأمل معي كيف سيُصنع بشر على عين الله تعالى ورعايته. وجاء الظرف (إذ) ليقول ـ والله أعلم ـ إن هذه الصناعة المقصودة لهذا الإنسان العظيم، تتم أول ما تتم في حضن امرأة عظيمة، إنها (أمه)؛ قال تعالى 8إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَـٰكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَي تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ)، قال الألوسي في روح المعاني عن الظرف (إذ): هو ((وقتٌ وقع فيه مشي الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع، إلى أمها وتربيتها له، بالحنو، وهو المصداق لقوله تعالى: (ولتصنع على عيني)؛ إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم، وصنيعها على موجب مراعاته تعالى)) ، ثم بعد أن عدّد مِننه عليه رجع إلى ذكر الصناعة لشخصيته الفذة فقال: (وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي).
إن كثيراً من طاقات ٱلأمة قُتلت في مهد أمهات جاهلات بحقيقة ٱلإبداع والعظمة ٱلمخبوءتين في نفوس أطفالهن، بل إن رؤية ٱلأم للحياة تتحكم كثيراً في مستقبل ٱلطفل بعد تقدير ٱلله تعالى، وقد قال نابليون: (مستقبل ٱلولد هو من صنع أمه)، ويقول بيتشر: (قلب ٱلأم مدرسة ٱلطفل). فلنأخذ ـ معنا ـ حكمة هذين ٱلحكيمين ٱلغربيين ونرحل إلى ٱلمدينة حيث نشأ إمام دار ٱلهجرة مالك بن أنس – رحمه ٱلله تعالى- في بيت علم ودين، فكان أبوه من رواة ٱلحديث، وكان جده لأبيه من كبار ٱلتابعين، كما أن جد أبيه صحابي جليل، وكانت أمه من خيار ٱلأمهات، ولذا اجتهدت في حثه على تحصيل ٱلعلم ٱلشرعي، ووصّته بالتعبد والسّمت ٱلحسن. يقول مالك: (قلت لأمي أذهب فأكتب ٱلعلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب ٱلعلم، فألبستني ثياباً مشمرة وعمَّمتني، ثم قالت: اذهب فاكتب ٱلآن) قال مالك: (كانت أمي تُعممني، وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه). فكان الإمام مالك بإذن ربه.
المصدر