الآثار النفسية لمشاهد مجزرة غزة على الطفل العربى
للحرب - خاصة اذا كانت بين طرفين غير متكافئين كما هو حال غزة - آثارها المدمرة...على العناصر المادية والبشرية ، لكن الأثر الأعمق لها يكون فى نفوس الأطفال هذه الشريحة الأكثر تضرراً وتأذياً منها ومن آثارها.
ولاشك أن أطفالنا فى غزة ينمون في جو من العنف والإرهاب والنزاعات السياسية والعسكرية، وعايشون الموت وتختلط دماء الأهل والأحبة ، والأصدقاء بأنشطتهم اليومية ، ويشتمون رائحة الجثث وتختزن أبصارهم مشاهد العنف والأشلاء المبعثرة ، والدماء المتناثرة على الأسرة ، وعلى البيوت وعلى الطرقات . ولاشك أن مناظر الهلع التى تتملكهم ، أمر فوق تصور من لم يمر بهذه الخبرة الغاية فى القسوة ، ولا شك أن هناك العديد من التساؤلات التى تدور في أذهانهم عن أسباب هذا العنف وتلك القسوة التى يعانونها ، هذه الوحشية التى تفقدهم أى احساس بالأمان ، وتجعلهم يترقبون فى كل ثانية أن يعانوا هذه الخبرة ، ويشعرون بلا شك أن العالم كله قد تخلى عنهم ، وأقى بهم وبأهلم الى أتون غاية فى العنف والوحشية والقسوة ، دون أن يعنى أحد بأمرهم أو يمد لهم يد أو كف تربت على أكتافهم الغضة ، هذه الأسئلة وتلك الأفكار لابد وأن يكون لها تأثير قوى على مسار نموهم وفهمهم لأنفسهم والآخرين والعالم من حولهم، وإن اختلفت استجاباتهم لهذا العنف والحرب غير المتكافئة وما يرافقها من صور باختلاف أعمارهم وطبيعة شخصيتهم والتجارب التي مرواّ بها في حياتهم، ونوعية علاقتهم بمن يعيشون معهم كالوالدين والأهل والجيران .
هؤلاء الأطفال ، يكاد دوي المدافع أن يصم آذانهم، وأزيز الطائرات يروع قلوبهم، ومشاهد القتل والدمار شريط يتجدد أمام أعينهم كل يوم، هذا ما يعيشه أطفالنا في غزة وغيرها من بلاد المسلمين، أما إخوانهم من الأطفال فيشاهدون مشدوهين على شاشات التلفاز نقلاً حيًّا لفصول الحرب والدمار. وما بين من يعيش الحرب ومن يشاهدها من أطفالنا تضيع طفولتهم وتزداد معاناتهم، فماذا فعلت الحروب في أطفالنا ؟ وماذا نفعل لهم ؟
أكثر الآثار السلبية للحروب انتشارًا بين الأطفال، مايسمى بالصدمة، إذ غالبًا ما يصاحب الصدمة خوف مزمن (فوبيا) من الأحداث والأشخاص والأشياء التي ترافق وجودها مع الحرب مثل صفارات الإنذار.. وصوت الطائرات .. الجنود.. إلخ؛ يقابلها الطفل بالبكاء أو العنف أو الغضب أو الاكتئاب الشديد.
أما إذا كانت الصدمة ناجمة عن مشاهدة الطفل لحالات وفاة مروعة أو جثث مشوهة لأقارب له فإنها يمكن أن تؤثر على قدراته العقلية. وتتسبب الصدمة في معاناة الأطفال من مشكلات عصبية ونفسية ممتدة مثل الحركات اللاإرادية، وقلة الشهية للطعام، والابتعاد عن الناس، والميل للتشاؤم واليأس، وسرعة ضربات القلب في بعض المواقف.
وتفجر الحروب لدى الأطفال - لاسيما الصغار منهم - أزمة هوية حادة، فالطفل لا يعرف لمن ينتمي ولماذا يتعرض لهذه الآلام، أما الأطفال الأكبر - الفتيان - فيجدون أنفسهم وقد أصبحوا في موقف الجندية عليهم الدفاع عن أنفسهم وذويهم ولو عرضهم ذلك للخطر، وحتى إذا لم يفعل الأطفال ذلك فإنهم يجدون أنفسهم في حالة من التشرد والفقر تفوق قدرتهم على الاستيعاب خصوصًا على التعبير الجيد عن المشاعر والرغبات مما يغذي مشاعر دفينة تظهر في مراحل متقدمة من أعمارهم في صور عصبية وانطواء وتخلف دراسي وغيرها من الأعراض.
وأكثر ما يزعج طفل ما قبل المدرسة تلك المشاهد المرعبة والمؤلمة وكذلك أصوات الدوي والانفجارات، ومن الأمور الطبيعية أن يخلط طفل هذه المرحلة بين الحقيقة والخيال في تصوره لحجم الأخطار والأذى الذي قد يلحق به أو بغيره، ومن السهل أن تسيطر مشاعر الخوف والقلق على مثل هذا الطفل؛ إذ يصعب عليه إدراك البعد الحقيقي للأمر، أو صرف الأفكار المخيفة عن ذهنه.
لكن الأطفال فى مرحلة الطفولة المتأخرة ، المتواكبة مع سن الدراسة الابتدائية ، يستطيعون الى حد ما التفريق بين الحقيقة والخيال، وإن صعب عليهم فى الكثير من الأحيان التمييز بينهما لشدة وقع الخبرات المؤلمة التى عانوها ؛ فقد يخلط الطفل بين صرير باب يسمعه وبين أزيز الطائرات الحربية التى تحلق فوق بيته قبل أن تسقط حممها القاتلة من قنابل وصواريخ ، وبين صوت اغلاق الباب وصوت طلقات المدافع أو الصواريخ التى تحصد أرواح الأهل والأصدقاء والمعارف ، بين بقعة حبر أحمر وبين دماء الأشلاء التى رآها ، بين نوم شقيق بجواره ، وبين موت العديد ممن عايش احتضارهم ، وعند عرض المشاهد التى خبرها يعتقد بأنها مشاهد جديدة مشابهة لما قد عانى ويلاتها .
ومن أكثر ما يشغل ذهن الأطفال الصغار هو الخوف من الافتراق عن الوالدين، ومفهوم الخير والشرّ، والخوف من العقاب، وقد يسأل الطفل الصغير فيما إذا كان سلوكه في البيت حسنا أو سيئا، معتقدا أن الحرب قد وقعت على الأطفال بسبب أن سلوكهم مع والديهم لم يكن حسنا، ولذلك فالحرب عقاب بينما نجد أطفال المرحلة الإعدادية والثانوية أكثر اهتماما بالنقاشات السياسية المرافقة للنزاع، ويشعرون أن عليهم أن يتخذوا موقفا محددا من هذه القضايا، ولذلك قد نجدهم ينخرطون في التدريبات العسكرية أو الجماعات السياسية ، أو ينطوون تحت لواء بعض الفصائل ، أو الجمعيات الخيرية التى تعمل فى مجال الإغاثة ، أو الإسعاف ، أو التأهيل أو المساعدات الإنسانية لضحايا القتال والمذابح.
والآثار السلبية لتلك المشاهد لا تنتهي بنهاية مرحلة الطفولة، بل تشكل منظارًا يرى الطفل العالم من خلاله، والمشاهد التي يراها الطفل بين سن الثالثة والسابعة تشكل شخصيته وتؤثر في سلوكه، ولذلك فإن مشاهد الجثث المحترقة والمنازل المهدمة يختزنها الطفل في عقله الباطن فتفقده طفولته وعفويته..ولأن الأطفال لا يفهمون مبررات الحرب كما يفعل الكبار، فإنه لا سبيل أمامهم للتعبير عن تأثرهم بما يعانون ويعايشون ويرون من تلك الحرب إلا الانطواء والتوجس أو التبلد أو العدوانية.
كما أن سمات شخصية الطفل وطبيعته المزاجية يؤثران في تفاعله مع الحدث، فبعض الأطفال أكثر عرضة للضرر بسبب ميلهم للخوف والقلق؛ وبالتالي نجد أن الحدث يحرك عنده مشاعر الخطر والخوف والاضطراب بشكل أكبر من نظيره .
وقد يسهل الحديث عن الآثار التي تصيب الأطفال من الحروب سواء عايشوها أو شاهدوها، لكن تجارب الآباء والأمهات مع هؤلاء الأطفال هي التحدي الذي يواجه كل أسرة، فربما يكون من السهل أن نقول للآباء والأمهات: لا تدعوا أطفالكم يرون مشاهد القتل والدمار في نشرات الأخبار، لكن ماذا نقول لمن يعيشون التجربة حية ؟ ماذا تقول الأم لطفلها عندما يرتج بيتها من القصف، وينهار البيت المجاور ويموت زملاء وأصدقاء أطفالها الذين يسألون عنهم.. يبدو أن واقعنا المعيش أكثر تعقيدًا من كل نظريات التحليل والتنظير.
ألا يصبح هم الآباء والأمهات فى مثل هذه الأجواء ليس حماية الأطفال من مشاهد العنف والموت، بل حمايتهم من الموت نفسه.
لقد بينت احدى الدراسات الميدانية التى أجريت على بعض الأطفال الذين مروا بخبرة المعارك والقتال أن أهم الآثار النفسية والسلوكية للحرب على الأطفال ، تتمثل فى الآتى :
أ) الخوف الشديد خاصة لكل ماله علاقة بمسار الاقتتال .
ب) الأضرار النفسية والسلوكية لدى الأطفال مرتفعة للغاية وبمؤشرات خطيرة إذ أن أكثر من 63% تراودهم كوابيس وأحلام مزعجة غالباً أو أحياناً بسبب ما شاهدوه أثناء فترات المواجهات المسلحة في مدارسهم وقراهم ومناطقهم.
ت) يعانى 22% من الأطفال الذين مروا بخبرة القتال من التبول اللاإرادي أثناء النوم مقابل 6% أثناء اليقظة وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالوضع الطبيعي كما أن النسبة جاءت قليلة نظراً لتحفظ أغلب الإناث عن الإجابة على السؤال بسبب العيب.
ث) أن 5% يغمى عليهم أحياناً لمجرد رؤيتهم للمسلحين أو سماعهم صوت الرعد أو الرصاص.
ج) ارتفاع نسبة الأطفال الذين يشعرون بالرغبة في البكاء بنسبة (16%).
ح) يعانى 22% من الأطفال من الإنطواء والعزلة وهي نسبة مرتفعة مقارنة بما يجب أن يكون عليه الأطفال في الأوضاع الطبيعية.
خ) أكثر من 35% من الأطفال تولدت لديهم عدوانية شديدة ضد أقرانهم وزملاءهم وأقاربهم بسبب الحرب.
د) يفكر أكثر من 22% من أطفال المدارس في ترك مقاعد الدراسة لأسباب يأتي في مقدمتها الفقر وركود الوضع الاقتصادي في مناطقهم بسبب ظروف الحرب.
ذ) فقد 28% من الأطفال الثقة بالمستقبل وتكمن خطورة هذا الفقد فى احتمال تحوله إلى سبب مباشر للاضطرابات النفسية وربما الانحرافات السلوكية .
ومن المؤشرات القوية لتأثر الأطفال بالحرب والقتال؛ تراجع الطفل أو نكوصه إلى سلوك طفلي كان قد نُمي وتجاوزه في مرحلة من مراحل نموه السابقة، ومثال ذلك:
- الخوف من النوم منفردا.
- التبول اللاإرادي.
- مصّ الإصبع وغيرها من تصرفات تميز من أهم أصغر من سنه.
- السلوك العدواني من الضرب والاعتداء على الأشقاء أو غيرهم.
- التعلق الزائد بأحد والديه أو كليهما وقلقه كلما ابتعد عنهما ولو لوقت قصير.
- الانطواء الشديد الذي لا ينسجم مع طبيعة نفسية الطفل السابقة.
- اضطراب النوم والكوابيس الليلية.
- الوسواس بأمور الحرب كتكرار الأسئلة المتعلقة بهذه الحرب.
- الخوف من أمور لم يكن يخافها من قبل كالظلمة والليل.
إن أخطر آثار الحروب على الأطفال ليس ما يظهر منهم وقت الحرب، بل ما يظهر لاحقًا في جيل كامل ممن نجوا من الحرب وقد حملوا معهم مشكلات نفسية لا حصر لها تتوقف خطورتها على قدرة الأهل على مساعدة أطفالهم في تجاوز مشاهد الحرب.
ورغم أن التأثير السلبي لأجواء الحروب على الأطفال يكاد يكون أمرًا مسلمًا به، لكن على الجانب الآخر هناك من يرى في تلك الأجواء شيئًا من الإيجابية، إذ يشير بعض التربويين إلى أن الجيل الذي يعيش تلك الأجواء سيكون أكثر قوة وقدرة على التحمل شرط أن يكون وراء هؤلاء الصغار أسر واعية تشرح لهم ما وراء مشاهد الحرب التي يعايشونها أو يشاهدونها، ولذلك من المهم ألا يجلس الطفل بمفرده أمام نشرات الأخبار في التلفاز، بل لابد من وجود بالغ بجواره يشرح له دلالة الأحداث وما وراءها.
الجيل الفلسطيني الذي تفتح مع الانتفاضة الأولى (1987) أصبحوا الآن شبابًا، يقودون الانتفاضة الثانية ولم يعد يخيفهم الموت، بل يسعون إليه، ففي دراسة ميدانية خلال انتفاضة الأقصى - حول تأثير الحرب في الأطفال الفلسطينيين - تبين أن 75% من فتيان وفتيات فلسطين يحلمون بأن يصبحوا شهداء.
فإياد - طفل فلسطيني عمره 5 سنوات - يعلم أن القوات الصهيونية قتلت والده وعمه وشقيقه، تقول والدته: "لم أجد مفرًا من إخباره بالحقيقة ، أطفالنا يكبرون قبل أوانهم، ماذا نفعل إذا كانوا يرون بأم أعينهم مشاهد القتل والدمار التي يحدثها الصهاينة في كل قرى ومدن فلسطين؟!".
أما يوسف - 15 سنة - فقد تجاوز المعرفة إلى الفعل، فطوال عمره لم تغب عن عينه مشاهد البيوت المدمرة وجنازات القتلى الذين توقعهم طائرات الاحتلال، فلم يكن غريبًا أن ينخرط في عملية استشهادية كتب قبلها وصيته إلى والديه.. سطور الوصية تشير إلى أننا أمام عقل كبير لا طفل، إذ يقول فيها: "سامحيني يا أمي لأنني ذهبت دون أن أودعك ولأنني كنت أعقك أحيانًا.. سامحني يا أبي .. أرجوك أن ترضى عني حتى يرضى الله عني، وأن تدعو لي في صلاتك، فالعبد أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد.. أرجوك أن تدفع لسوبرماركت 1.5 شيكل، وأن تعطي المصحف الصغير لـ...".
واجب الأهل :
يواجه الأهل تحديات جمة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب ليس في البلدان التي تدور فيها الحرب فحسب بل في البلدان التي تتابعها على شاشات التلفاز، ففي كل الأحوال يحتاج الأطفال إلى معاملة خاصة من ذويهم سواء كانوا ضحايا للحرب أو مجرد متابعين لها. بعض البلدان أدركت خطورة هذه المسألة فعمدت إلى مساعدة الآباء والأمهات من خلال حصص دراسية في المدارس تهيّئ الأطفال للتفاعل مع الحرب دون صدمات.
أول ما يجب أن يفعله الآباء والأمهات عند تعرض الطفل لظروف مروعة في الحروب هو أن يحيطوه بالاطمئنان ولا يتركوه دون دعم نفسي وأن يطمئنوه بأن كل شيء سيكون على ما يرام مع تشتيت فكره عن الحدث المروع.
أما الأطفال الأكبر سنًّا فيمكن مناقشة ما يجري معهم وإقناعهم بأنهم في مكان آمن وأن القصف لن يطالهم مع عدم منعهم من البكاء أو السؤال عما يجري. ويمكن لرب الأسرة في مناطق الحروب أن يجمع أسرته صغارًا وكبارًا من أجل قراءة القرآن والدعاء مع زرع الإحساس بداخل الطفل بأن القدرة الإلهية قادرة على كل شيء، وأن قوة الله فوق كل قوة، وكيف أنه سبحانه نجى إبراهيم من النار وموسى من الغرق ومحمدًا صلى الله عليه وسلم من كيد قريش، وكم من فئة قليلة نصرها الله تعالى على فئة كثيرة.
( المصدر: موقع فريق النجاح )
للحرب - خاصة اذا كانت بين طرفين غير متكافئين كما هو حال غزة - آثارها المدمرة...على العناصر المادية والبشرية ، لكن الأثر الأعمق لها يكون فى نفوس الأطفال هذه الشريحة الأكثر تضرراً وتأذياً منها ومن آثارها.
ولاشك أن أطفالنا فى غزة ينمون في جو من العنف والإرهاب والنزاعات السياسية والعسكرية، وعايشون الموت وتختلط دماء الأهل والأحبة ، والأصدقاء بأنشطتهم اليومية ، ويشتمون رائحة الجثث وتختزن أبصارهم مشاهد العنف والأشلاء المبعثرة ، والدماء المتناثرة على الأسرة ، وعلى البيوت وعلى الطرقات . ولاشك أن مناظر الهلع التى تتملكهم ، أمر فوق تصور من لم يمر بهذه الخبرة الغاية فى القسوة ، ولا شك أن هناك العديد من التساؤلات التى تدور في أذهانهم عن أسباب هذا العنف وتلك القسوة التى يعانونها ، هذه الوحشية التى تفقدهم أى احساس بالأمان ، وتجعلهم يترقبون فى كل ثانية أن يعانوا هذه الخبرة ، ويشعرون بلا شك أن العالم كله قد تخلى عنهم ، وأقى بهم وبأهلم الى أتون غاية فى العنف والوحشية والقسوة ، دون أن يعنى أحد بأمرهم أو يمد لهم يد أو كف تربت على أكتافهم الغضة ، هذه الأسئلة وتلك الأفكار لابد وأن يكون لها تأثير قوى على مسار نموهم وفهمهم لأنفسهم والآخرين والعالم من حولهم، وإن اختلفت استجاباتهم لهذا العنف والحرب غير المتكافئة وما يرافقها من صور باختلاف أعمارهم وطبيعة شخصيتهم والتجارب التي مرواّ بها في حياتهم، ونوعية علاقتهم بمن يعيشون معهم كالوالدين والأهل والجيران .
هؤلاء الأطفال ، يكاد دوي المدافع أن يصم آذانهم، وأزيز الطائرات يروع قلوبهم، ومشاهد القتل والدمار شريط يتجدد أمام أعينهم كل يوم، هذا ما يعيشه أطفالنا في غزة وغيرها من بلاد المسلمين، أما إخوانهم من الأطفال فيشاهدون مشدوهين على شاشات التلفاز نقلاً حيًّا لفصول الحرب والدمار. وما بين من يعيش الحرب ومن يشاهدها من أطفالنا تضيع طفولتهم وتزداد معاناتهم، فماذا فعلت الحروب في أطفالنا ؟ وماذا نفعل لهم ؟
أكثر الآثار السلبية للحروب انتشارًا بين الأطفال، مايسمى بالصدمة، إذ غالبًا ما يصاحب الصدمة خوف مزمن (فوبيا) من الأحداث والأشخاص والأشياء التي ترافق وجودها مع الحرب مثل صفارات الإنذار.. وصوت الطائرات .. الجنود.. إلخ؛ يقابلها الطفل بالبكاء أو العنف أو الغضب أو الاكتئاب الشديد.
أما إذا كانت الصدمة ناجمة عن مشاهدة الطفل لحالات وفاة مروعة أو جثث مشوهة لأقارب له فإنها يمكن أن تؤثر على قدراته العقلية. وتتسبب الصدمة في معاناة الأطفال من مشكلات عصبية ونفسية ممتدة مثل الحركات اللاإرادية، وقلة الشهية للطعام، والابتعاد عن الناس، والميل للتشاؤم واليأس، وسرعة ضربات القلب في بعض المواقف.
وتفجر الحروب لدى الأطفال - لاسيما الصغار منهم - أزمة هوية حادة، فالطفل لا يعرف لمن ينتمي ولماذا يتعرض لهذه الآلام، أما الأطفال الأكبر - الفتيان - فيجدون أنفسهم وقد أصبحوا في موقف الجندية عليهم الدفاع عن أنفسهم وذويهم ولو عرضهم ذلك للخطر، وحتى إذا لم يفعل الأطفال ذلك فإنهم يجدون أنفسهم في حالة من التشرد والفقر تفوق قدرتهم على الاستيعاب خصوصًا على التعبير الجيد عن المشاعر والرغبات مما يغذي مشاعر دفينة تظهر في مراحل متقدمة من أعمارهم في صور عصبية وانطواء وتخلف دراسي وغيرها من الأعراض.
وأكثر ما يزعج طفل ما قبل المدرسة تلك المشاهد المرعبة والمؤلمة وكذلك أصوات الدوي والانفجارات، ومن الأمور الطبيعية أن يخلط طفل هذه المرحلة بين الحقيقة والخيال في تصوره لحجم الأخطار والأذى الذي قد يلحق به أو بغيره، ومن السهل أن تسيطر مشاعر الخوف والقلق على مثل هذا الطفل؛ إذ يصعب عليه إدراك البعد الحقيقي للأمر، أو صرف الأفكار المخيفة عن ذهنه.
لكن الأطفال فى مرحلة الطفولة المتأخرة ، المتواكبة مع سن الدراسة الابتدائية ، يستطيعون الى حد ما التفريق بين الحقيقة والخيال، وإن صعب عليهم فى الكثير من الأحيان التمييز بينهما لشدة وقع الخبرات المؤلمة التى عانوها ؛ فقد يخلط الطفل بين صرير باب يسمعه وبين أزيز الطائرات الحربية التى تحلق فوق بيته قبل أن تسقط حممها القاتلة من قنابل وصواريخ ، وبين صوت اغلاق الباب وصوت طلقات المدافع أو الصواريخ التى تحصد أرواح الأهل والأصدقاء والمعارف ، بين بقعة حبر أحمر وبين دماء الأشلاء التى رآها ، بين نوم شقيق بجواره ، وبين موت العديد ممن عايش احتضارهم ، وعند عرض المشاهد التى خبرها يعتقد بأنها مشاهد جديدة مشابهة لما قد عانى ويلاتها .
ومن أكثر ما يشغل ذهن الأطفال الصغار هو الخوف من الافتراق عن الوالدين، ومفهوم الخير والشرّ، والخوف من العقاب، وقد يسأل الطفل الصغير فيما إذا كان سلوكه في البيت حسنا أو سيئا، معتقدا أن الحرب قد وقعت على الأطفال بسبب أن سلوكهم مع والديهم لم يكن حسنا، ولذلك فالحرب عقاب بينما نجد أطفال المرحلة الإعدادية والثانوية أكثر اهتماما بالنقاشات السياسية المرافقة للنزاع، ويشعرون أن عليهم أن يتخذوا موقفا محددا من هذه القضايا، ولذلك قد نجدهم ينخرطون في التدريبات العسكرية أو الجماعات السياسية ، أو ينطوون تحت لواء بعض الفصائل ، أو الجمعيات الخيرية التى تعمل فى مجال الإغاثة ، أو الإسعاف ، أو التأهيل أو المساعدات الإنسانية لضحايا القتال والمذابح.
والآثار السلبية لتلك المشاهد لا تنتهي بنهاية مرحلة الطفولة، بل تشكل منظارًا يرى الطفل العالم من خلاله، والمشاهد التي يراها الطفل بين سن الثالثة والسابعة تشكل شخصيته وتؤثر في سلوكه، ولذلك فإن مشاهد الجثث المحترقة والمنازل المهدمة يختزنها الطفل في عقله الباطن فتفقده طفولته وعفويته..ولأن الأطفال لا يفهمون مبررات الحرب كما يفعل الكبار، فإنه لا سبيل أمامهم للتعبير عن تأثرهم بما يعانون ويعايشون ويرون من تلك الحرب إلا الانطواء والتوجس أو التبلد أو العدوانية.
كما أن سمات شخصية الطفل وطبيعته المزاجية يؤثران في تفاعله مع الحدث، فبعض الأطفال أكثر عرضة للضرر بسبب ميلهم للخوف والقلق؛ وبالتالي نجد أن الحدث يحرك عنده مشاعر الخطر والخوف والاضطراب بشكل أكبر من نظيره .
وقد يسهل الحديث عن الآثار التي تصيب الأطفال من الحروب سواء عايشوها أو شاهدوها، لكن تجارب الآباء والأمهات مع هؤلاء الأطفال هي التحدي الذي يواجه كل أسرة، فربما يكون من السهل أن نقول للآباء والأمهات: لا تدعوا أطفالكم يرون مشاهد القتل والدمار في نشرات الأخبار، لكن ماذا نقول لمن يعيشون التجربة حية ؟ ماذا تقول الأم لطفلها عندما يرتج بيتها من القصف، وينهار البيت المجاور ويموت زملاء وأصدقاء أطفالها الذين يسألون عنهم.. يبدو أن واقعنا المعيش أكثر تعقيدًا من كل نظريات التحليل والتنظير.
ألا يصبح هم الآباء والأمهات فى مثل هذه الأجواء ليس حماية الأطفال من مشاهد العنف والموت، بل حمايتهم من الموت نفسه.
لقد بينت احدى الدراسات الميدانية التى أجريت على بعض الأطفال الذين مروا بخبرة المعارك والقتال أن أهم الآثار النفسية والسلوكية للحرب على الأطفال ، تتمثل فى الآتى :
أ) الخوف الشديد خاصة لكل ماله علاقة بمسار الاقتتال .
ب) الأضرار النفسية والسلوكية لدى الأطفال مرتفعة للغاية وبمؤشرات خطيرة إذ أن أكثر من 63% تراودهم كوابيس وأحلام مزعجة غالباً أو أحياناً بسبب ما شاهدوه أثناء فترات المواجهات المسلحة في مدارسهم وقراهم ومناطقهم.
ت) يعانى 22% من الأطفال الذين مروا بخبرة القتال من التبول اللاإرادي أثناء النوم مقابل 6% أثناء اليقظة وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالوضع الطبيعي كما أن النسبة جاءت قليلة نظراً لتحفظ أغلب الإناث عن الإجابة على السؤال بسبب العيب.
ث) أن 5% يغمى عليهم أحياناً لمجرد رؤيتهم للمسلحين أو سماعهم صوت الرعد أو الرصاص.
ج) ارتفاع نسبة الأطفال الذين يشعرون بالرغبة في البكاء بنسبة (16%).
ح) يعانى 22% من الأطفال من الإنطواء والعزلة وهي نسبة مرتفعة مقارنة بما يجب أن يكون عليه الأطفال في الأوضاع الطبيعية.
خ) أكثر من 35% من الأطفال تولدت لديهم عدوانية شديدة ضد أقرانهم وزملاءهم وأقاربهم بسبب الحرب.
د) يفكر أكثر من 22% من أطفال المدارس في ترك مقاعد الدراسة لأسباب يأتي في مقدمتها الفقر وركود الوضع الاقتصادي في مناطقهم بسبب ظروف الحرب.
ذ) فقد 28% من الأطفال الثقة بالمستقبل وتكمن خطورة هذا الفقد فى احتمال تحوله إلى سبب مباشر للاضطرابات النفسية وربما الانحرافات السلوكية .
ومن المؤشرات القوية لتأثر الأطفال بالحرب والقتال؛ تراجع الطفل أو نكوصه إلى سلوك طفلي كان قد نُمي وتجاوزه في مرحلة من مراحل نموه السابقة، ومثال ذلك:
- الخوف من النوم منفردا.
- التبول اللاإرادي.
- مصّ الإصبع وغيرها من تصرفات تميز من أهم أصغر من سنه.
- السلوك العدواني من الضرب والاعتداء على الأشقاء أو غيرهم.
- التعلق الزائد بأحد والديه أو كليهما وقلقه كلما ابتعد عنهما ولو لوقت قصير.
- الانطواء الشديد الذي لا ينسجم مع طبيعة نفسية الطفل السابقة.
- اضطراب النوم والكوابيس الليلية.
- الوسواس بأمور الحرب كتكرار الأسئلة المتعلقة بهذه الحرب.
- الخوف من أمور لم يكن يخافها من قبل كالظلمة والليل.
إن أخطر آثار الحروب على الأطفال ليس ما يظهر منهم وقت الحرب، بل ما يظهر لاحقًا في جيل كامل ممن نجوا من الحرب وقد حملوا معهم مشكلات نفسية لا حصر لها تتوقف خطورتها على قدرة الأهل على مساعدة أطفالهم في تجاوز مشاهد الحرب.
ورغم أن التأثير السلبي لأجواء الحروب على الأطفال يكاد يكون أمرًا مسلمًا به، لكن على الجانب الآخر هناك من يرى في تلك الأجواء شيئًا من الإيجابية، إذ يشير بعض التربويين إلى أن الجيل الذي يعيش تلك الأجواء سيكون أكثر قوة وقدرة على التحمل شرط أن يكون وراء هؤلاء الصغار أسر واعية تشرح لهم ما وراء مشاهد الحرب التي يعايشونها أو يشاهدونها، ولذلك من المهم ألا يجلس الطفل بمفرده أمام نشرات الأخبار في التلفاز، بل لابد من وجود بالغ بجواره يشرح له دلالة الأحداث وما وراءها.
الجيل الفلسطيني الذي تفتح مع الانتفاضة الأولى (1987) أصبحوا الآن شبابًا، يقودون الانتفاضة الثانية ولم يعد يخيفهم الموت، بل يسعون إليه، ففي دراسة ميدانية خلال انتفاضة الأقصى - حول تأثير الحرب في الأطفال الفلسطينيين - تبين أن 75% من فتيان وفتيات فلسطين يحلمون بأن يصبحوا شهداء.
فإياد - طفل فلسطيني عمره 5 سنوات - يعلم أن القوات الصهيونية قتلت والده وعمه وشقيقه، تقول والدته: "لم أجد مفرًا من إخباره بالحقيقة ، أطفالنا يكبرون قبل أوانهم، ماذا نفعل إذا كانوا يرون بأم أعينهم مشاهد القتل والدمار التي يحدثها الصهاينة في كل قرى ومدن فلسطين؟!".
أما يوسف - 15 سنة - فقد تجاوز المعرفة إلى الفعل، فطوال عمره لم تغب عن عينه مشاهد البيوت المدمرة وجنازات القتلى الذين توقعهم طائرات الاحتلال، فلم يكن غريبًا أن ينخرط في عملية استشهادية كتب قبلها وصيته إلى والديه.. سطور الوصية تشير إلى أننا أمام عقل كبير لا طفل، إذ يقول فيها: "سامحيني يا أمي لأنني ذهبت دون أن أودعك ولأنني كنت أعقك أحيانًا.. سامحني يا أبي .. أرجوك أن ترضى عني حتى يرضى الله عني، وأن تدعو لي في صلاتك، فالعبد أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد.. أرجوك أن تدفع لسوبرماركت 1.5 شيكل، وأن تعطي المصحف الصغير لـ...".
واجب الأهل :
يواجه الأهل تحديات جمة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب ليس في البلدان التي تدور فيها الحرب فحسب بل في البلدان التي تتابعها على شاشات التلفاز، ففي كل الأحوال يحتاج الأطفال إلى معاملة خاصة من ذويهم سواء كانوا ضحايا للحرب أو مجرد متابعين لها. بعض البلدان أدركت خطورة هذه المسألة فعمدت إلى مساعدة الآباء والأمهات من خلال حصص دراسية في المدارس تهيّئ الأطفال للتفاعل مع الحرب دون صدمات.
أول ما يجب أن يفعله الآباء والأمهات عند تعرض الطفل لظروف مروعة في الحروب هو أن يحيطوه بالاطمئنان ولا يتركوه دون دعم نفسي وأن يطمئنوه بأن كل شيء سيكون على ما يرام مع تشتيت فكره عن الحدث المروع.
أما الأطفال الأكبر سنًّا فيمكن مناقشة ما يجري معهم وإقناعهم بأنهم في مكان آمن وأن القصف لن يطالهم مع عدم منعهم من البكاء أو السؤال عما يجري. ويمكن لرب الأسرة في مناطق الحروب أن يجمع أسرته صغارًا وكبارًا من أجل قراءة القرآن والدعاء مع زرع الإحساس بداخل الطفل بأن القدرة الإلهية قادرة على كل شيء، وأن قوة الله فوق كل قوة، وكيف أنه سبحانه نجى إبراهيم من النار وموسى من الغرق ومحمدًا صلى الله عليه وسلم من كيد قريش، وكم من فئة قليلة نصرها الله تعالى على فئة كثيرة.
( المصدر: موقع فريق النجاح )