[size=18]
[size=25]سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
1 - اسمه ونسبه:هو أحمد تقي الدين أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام
بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن
تيمية الحراني .
وذكر مترجموه أقوالاً في سبب تلقيب العائلة بآل (تيمية) منها ما نقله ابن
عبد الهادي رحمه الله : (أن جده محمداً كانت أمه تسمى (تيمية)، وكانت
واعظة، فنسب إليها، وعرف بها.
وقيل: إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء، فرأى هناك طفلة، فلما رجع
وجد امرأته قد ولدت بنتاً له فقال: يا تيمية، يا تيمية، فلقب بذلك) .
2 - مولده ونشأته:ولد رحمه الله يوم الاثنين، عاشر، وقيل: ثاني عشر من ربيع الأول سنة 661هـ. في حرّان .
وفي سنة 667هـ أغار التتار على بلده، فاضطرت عائلته إلى ترك حران، متوجهين
إلى دمشق ، وبها كان مستقر العائلة، حيث طلب العلم على أيدي علمائها منذ
صغره، فنبغ ووصل إلى مصاف العلماء من حيث التأهل للتدريس والفتوى قبل أن
يتم العشرين من عمره .
ومما ذكره ابن عبد الهادي رحمه الله عنه في صغره أنه: (سمع مسند الإمام
أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم
الطبراني الكبير.
وعني بالحديث وقرأ ونسخ، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن،
وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي ، ثم فهمها، وأخذ يتأمل
كتاب سيبويه حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً، حتى حاز
فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.
هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فُرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه) .
(وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، كأن الله قد خصه بسرعة الحفظ،
وإبطاء النسيان لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء - غالباً - إلا ويبقى
على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه
وسائره.
فإنه لم يكن مستعاراً، بل كان له شعاراً ودثاراً، ولم يزل آباؤه أهل
الدراية التامة والنقد، والقدم الراسخة في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق
بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته
أكبر شهادة) .
وكان رحمه الله حسن الاستنباط، قوي الحجة، سريع البديهة، قال عنه البزار
رحمه الله (وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه من استنباط المعاني من الألفاظ
النبوية والأخبار المروية، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبيين مفهوم
اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ،
وتبيين ضوابطها، ولوازمها وملزوماتها، وما يترتب عليها، وما يحتاج فيه
إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثاً، وبين معانيه، وما أريد فيه، يعجب
العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه) .
وكان رحمه الله ذا عفاف تام، واقتصاد في الملبس والمأكل، صيناً، تقياً،
براً بأمه، ورعاً عفيفاً، عابداً، ذاكراً لله في كل أمر على كل حال،
رجاعاً إلى الله في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله وأوامره
ونواهيه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم،
فلا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث.
قال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله عنه: (ثم لم يبرح شيخنا رحمه
الله في ازدياد من العلوم وملازمة الاشتغال والإشغال، وبث العلم ونشره،
والاجتهاد في سبل الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد
والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والإنابة، والجلالة والمهابة،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد مع الصدق والعفة
والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه،
وكثرة المراقبة له وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق،
ونفع الخلق، والإحسان إليهم والصبر على من آذاه، والصفح عنه والدعاء له،
وسائر أنواع الخير) .
3 - عصره:أولاً: الناحية السياسية:يستطيع الواصف للحالة السياسية لعصر ابن تيمية رحمه الله أن يحدد معالمها بثلاثة أمور رئيسة:
أ - غزو التتار للعالم الإسلامي.
ب - هجوم الفرنجة على العالم الإسلامي.
جـ - الفتن الداخلية، وخاصة بين المماليك والتتار والمسلمين.
وقد ذكر ابن الأثير رحمه الله وصفاً دقيقاً لذلك العصر، وهو من أهله:
فقال: (لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من
الأمم: منها هؤلاء التتر: فمنهم من أقبلوا من الشرق ففعلوا الأفعال التي
يستعظمها كل من سمع بها.
ومنها: خروج الفرنج - لعنهم الله - من الغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر
وامتلاكهم ثغرها - أي دمياط -، وأشرفت ديار مصر وغيرها على أن يملكوها
لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.
ومنها: أن السيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة) .
فأما التتار: فقد كانوا فاجعة الإسلام والمسلمين في القرن السابع الهجري،
في سقوط بغداد - وبها سقطت الخلافة العباسية - سنة (656هـ) وما قبل سقوط
بغداد بسنوات ، وما بعد سقوط بغداد حيث كانت هذه الأحداث قريبة من ولادة
شيخ الإسلام ابن تيمية (ولا بد أن يكون قد شاهد آثار هذا الخراب والدمار
بأم عينيه، وسمع تفاصيله المؤلمة عمن رأوا مناظره وشهدوها وشاهدوها، فمن
الطبيعي أن يتأثر قلبه الغيور المرهف بنكبة المسلمين هذه وذلتهم، وتمتلئ
نفسه غيظاً وكراهية لأولئك الوحوش الضواري) .
وأما ظهور الفرنجة أو (الحروب الصليبية): فقد كانت ولادة ابن تيمية رحمه
الله في بداية الدور الرابع لهذه الحروب الذي يمثل دور الضعف الفرنجي
وتجدد قوة المسلمين، باسترداد كثير من المدن الشامية الكبرى، وإكمال مسيرة
طرد الفرنج من بلاد المسلمين.
وأما الفتن الداخلية: فما كان يحصل بين المماليك وتنازعهم على السلطة وما
كان يحصل بينهم وبين التتر المسلمين، وقد كان لابن تيمية رحمه الله مشاركة
في إصلاح بعض هذا، وفي مقدمة مواقف ابن تيمية رحمه الله يذكر المؤرخون
قصته مع آخر أمراء المماليك وذلك بتذكيره بحقن دماء المسلمين، وحماية
ذراريهم وصون حرماتهم .
ثانياً: الناحية الاجتماعية:كانت مجتمعات المسلمين خليطاً من أجناس مختلفة، وعناصر متباينة بسبب الاضطراب السياسي في بلادهم.
إذ اختلط التتار - القادمون من أقصى الشرق حاملين معهم عاداتهم وأخلاقهم
وطباعهم الخاصة - بالمسلمين في ديار الإسلام الذين هم أقرب إلى الإسلام
عقيدة وخلقاً من التتر.
ونوعية ثالثة: ألا وهي أسرى حروب الفرنجة والترك إذ كان لهم شأن في فرض
بعض النظم الاجتماعية، وتثبيت بعض العوائد السيئة، والتأثير اللغوي العام
على المجتمع المسلم.
إضافة إلى امتزاج أهل الأمصار الإسلامية بين بعضهم البعض بسبب الحروب
الطاحنة من التتار وغيرهم، فأهل العراق يفرون إلى الشام، وأهل دمشق إلى
مصر والمغرب وهكذا.
كل هذا ساعد في تكوين بيئة اجتماعية غير منتظمة وغير مترابطة، وأوجد عوائد
بين المسلمين لا يقرها الإسلام، وأحدث بدعاً مخالفة للشريعة كان لابن
تيمية رحمه الله أكبر الأثر في بيان الخطأ والنصح للأمة، ومقاومة المبتدعة
.
ثالثاً: الناحية العلمية:في عصر ابن تيمية رحمه الله قل الإنتاج العلمي،
وركدت الأذهان، وأقفل باب الاجتهاد وسيطرت نزعة التقليد والجمود، وأصبح
قصارى جهد كثير من العلماء هو جمع وفهم الأقوال من غير بحث ولا مناقشة،
فألفت الكتب المطولة والمختصرة، ولكن لا أثر فيها للابتكار والتجديد،
وهكذا عصور الضعف تمتاز بكثرة الجمع وغزارة المادة مع نضوب في البحث
والاستنتاج.
ويحيل بعض الباحثين ذلك الضعف إلى: سيادة الأتراك والمماليك مما سبب
استعجام الأنفس والعقول والألسن، إضافة إلى اجتماع المصائب على المسلمين،
فلم يكن لديهم من الاستقرار ما يمكنهم من الاشتغال بالبحث والتفكير .
ولا ينكر وجود أفراد من العلماء النابهين أهل النبوغ، ولكن أولئك قلة لا
تنخرم بهم القاعدة. وثمة أمر آخر في عصر ابن تيمية أثر في علمه ألا وهو:
اكتمال المكتبة الإسلامية بكثير من الموسوعات الكبرى في العلوم الشرعية:
من التفسير، والحديث، والفقه، وغيرها.
فالسنة مبسوطة، والمذاهب مدونة، ولم يعد من السهل تحديد الكتب التي قرأها وتأثر بها، ولا معرفة تأثير شيوخه عليه بدقة.
4
- محن الشيخ:امتحن الشيخ مرات عدة بسبب نكاية الأقران وحسدهم، ولما كانت
منزلة شيخ الإسلام في الشام عالية عند الولاة وعند الرعية وشى به ضعاف
النفوس عند الولاة في مصر، ولم يجدوا غير القدح في عقيدته، فطلب إلى مصر،
وتوجه إليها سنة 705هـ. بعدما عقدت له مجالس في دمشق لم يكن للمخالف فيها
حجة ، وبعد أن وصل إلى مصر بيوم عقدوا له محاكمة كان يظن شيخ الإسلام رحمه
الله أنها مناظرة، فامتنع عن الإجابة حين علم أن الخصم والحكم واحد .
واستمر في السجن إلى شهر صفر سنة 707هـ، حيث طلب منه وفد من الشام بأن
يخرج من السجن، فخرج وآثر البقاء في مصر على رغبتهم الذهاب معهم إلى دمشق.
وفي آخر السنة التي أخرج فيها من السجن تعالت صيحات الصوفية في مصر،
ومطالباتهم في إسكات صوت شيخ الإسلام رحمه الله فكان أن خُير شيخ الإسلام
بين أن يذهب إلى دمشق أو إلى الإسكندرية أو أن يختار الحبس، فاختار الحبس،
إلا أن طلابه ومحبيه أصروا عليه أن يقبل الذهاب إلى دمشق، ففعل نزولاً عند
رغبتهم وإلحاحهم.
وما إن خرج موكب شيخ الإسلام من القاهرة متوجهاً إلى دمشق، حتى لحق به وفد
من السلطان ليردوه إلى مصر ويخبروه بأن الدولة لا ترضى إلا الحبس.
وما هي إلا مدة قليلة حتى خرج من السجن وعاد إلى دروسه، واكب الناس عليه ينهلون من علمه.
وفي سنة 709هـ نفي من القاهرة إلى الإسكندرية، وكان هذا من الخير لأهل
الإسكندرية ليطلبوا العلم على يديه، ويتأثروا من مواعظه، ويتقبلوا منهجه،
لكن لم يدم الأمر طويلاً لهم، فبعد سبعة أشهر طلبه إلى القاهرة الناصر
قلاوون بعد أن عادت الأمور إليه، واستقرت الأمور بين يديه، فقد كان من
مناصري ابن تيمية رحمه الله وعاد الشيخ إلى دورسه العامرة في القاهرة.
وامتحن شيخ الإسلام بسبب فتواه في مسألة الطلاق ، وطُلب منه أن يمتنع عن
الإفتاء بها فلم يمتنع حتى سجن في القلعة من دمشق بأمر من نائب السلطنة
سنة 720هـ إلى سنة 721هـ لمدة خمسة أشهر وبضعة أيام.
وبحث حساده عن شيء للوشاية به عند الولاة فزوروا كلاماً له حول زيارة
القبور، وقالوا بأنه يمنع من زيارة القبور حتى قبر نبينا محمد صلّى الله
عليه وسلّم، فكتب نائب السلطنة في دمشق إلى السلطان في مصر بذلك، ونظروا
في الفتوى دون سؤال صاحبها عن صحتها ورأيه فيها، فصدر الحكم بحقه في شعبان
من سنة 726هـ بأن ينقل إلى قلعة دمشق ويعتقل فيها هو وبعض أتباعه واشتدت
محنته سنة 728هـ حين أُخرج ما كان عند الشيخ من الكتب والأوراق والأقلام،
ومنع من ملاقاة الناس، ومن الكتابة والتأليف .
5 - وفاته رحمه الله:في ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة من سنة (728هـ)
توفي شيخ الإسلام بقلعة دمشق التي كان محبوساً فيها، وأُذن للناس بالدخول
فيها، ثم غُسل فيها وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وصُلي
عليه بالقلعة، ثم وضعت جنازته في الجامع والجند يحفظونها من الناس من شدة
الزحام، ثم صُلي عليه بعد صلاة الظهر، ثم حملت الجنازة، واشتد الزحام، فقد
أغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور إلا القليل من الناس، أو من
أعجزه الزحام، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم، وتارة يتأخر، وتارة يقف
حتى يمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام .
6 - مؤلفاته:
[size=16]
[size=25]سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
1 - اسمه ونسبه:هو أحمد تقي الدين أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام
بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن
تيمية الحراني .
وذكر مترجموه أقوالاً في سبب تلقيب العائلة بآل (تيمية) منها ما نقله ابن
عبد الهادي رحمه الله : (أن جده محمداً كانت أمه تسمى (تيمية)، وكانت
واعظة، فنسب إليها، وعرف بها.
وقيل: إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء، فرأى هناك طفلة، فلما رجع
وجد امرأته قد ولدت بنتاً له فقال: يا تيمية، يا تيمية، فلقب بذلك) .
2 - مولده ونشأته:ولد رحمه الله يوم الاثنين، عاشر، وقيل: ثاني عشر من ربيع الأول سنة 661هـ. في حرّان .
وفي سنة 667هـ أغار التتار على بلده، فاضطرت عائلته إلى ترك حران، متوجهين
إلى دمشق ، وبها كان مستقر العائلة، حيث طلب العلم على أيدي علمائها منذ
صغره، فنبغ ووصل إلى مصاف العلماء من حيث التأهل للتدريس والفتوى قبل أن
يتم العشرين من عمره .
ومما ذكره ابن عبد الهادي رحمه الله عنه في صغره أنه: (سمع مسند الإمام
أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته معجم
الطبراني الكبير.
وعني بالحديث وقرأ ونسخ، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن،
وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوي ، ثم فهمها، وأخذ يتأمل
كتاب سيبويه حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً، حتى حاز
فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك.
هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فُرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه) .
(وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، كأن الله قد خصه بسرعة الحفظ،
وإبطاء النسيان لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء - غالباً - إلا ويبقى
على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه
وسائره.
فإنه لم يكن مستعاراً، بل كان له شعاراً ودثاراً، ولم يزل آباؤه أهل
الدراية التامة والنقد، والقدم الراسخة في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق
بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته
أكبر شهادة) .
وكان رحمه الله حسن الاستنباط، قوي الحجة، سريع البديهة، قال عنه البزار
رحمه الله (وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه من استنباط المعاني من الألفاظ
النبوية والأخبار المروية، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبيين مفهوم
اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصص للعام، والمقيد للمطلق، والناسخ للمنسوخ،
وتبيين ضوابطها، ولوازمها وملزوماتها، وما يترتب عليها، وما يحتاج فيه
إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثاً، وبين معانيه، وما أريد فيه، يعجب
العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه) .
وكان رحمه الله ذا عفاف تام، واقتصاد في الملبس والمأكل، صيناً، تقياً،
براً بأمه، ورعاً عفيفاً، عابداً، ذاكراً لله في كل أمر على كل حال،
رجاعاً إلى الله في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله وأوامره
ونواهيه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم،
فلا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث.
قال ابن عبد الهادي (ت - 744هـ) رحمه الله عنه: (ثم لم يبرح شيخنا رحمه
الله في ازدياد من العلوم وملازمة الاشتغال والإشغال، وبث العلم ونشره،
والاجتهاد في سبل الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد
والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والإنابة، والجلالة والمهابة،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد مع الصدق والعفة
والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه،
وكثرة المراقبة له وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق،
ونفع الخلق، والإحسان إليهم والصبر على من آذاه، والصفح عنه والدعاء له،
وسائر أنواع الخير) .
3 - عصره:أولاً: الناحية السياسية:يستطيع الواصف للحالة السياسية لعصر ابن تيمية رحمه الله أن يحدد معالمها بثلاثة أمور رئيسة:
أ - غزو التتار للعالم الإسلامي.
ب - هجوم الفرنجة على العالم الإسلامي.
جـ - الفتن الداخلية، وخاصة بين المماليك والتتار والمسلمين.
وقد ذكر ابن الأثير رحمه الله وصفاً دقيقاً لذلك العصر، وهو من أهله:
فقال: (لقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من
الأمم: منها هؤلاء التتر: فمنهم من أقبلوا من الشرق ففعلوا الأفعال التي
يستعظمها كل من سمع بها.
ومنها: خروج الفرنج - لعنهم الله - من الغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر
وامتلاكهم ثغرها - أي دمياط -، وأشرفت ديار مصر وغيرها على أن يملكوها
لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.
ومنها: أن السيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة) .
فأما التتار: فقد كانوا فاجعة الإسلام والمسلمين في القرن السابع الهجري،
في سقوط بغداد - وبها سقطت الخلافة العباسية - سنة (656هـ) وما قبل سقوط
بغداد بسنوات ، وما بعد سقوط بغداد حيث كانت هذه الأحداث قريبة من ولادة
شيخ الإسلام ابن تيمية (ولا بد أن يكون قد شاهد آثار هذا الخراب والدمار
بأم عينيه، وسمع تفاصيله المؤلمة عمن رأوا مناظره وشهدوها وشاهدوها، فمن
الطبيعي أن يتأثر قلبه الغيور المرهف بنكبة المسلمين هذه وذلتهم، وتمتلئ
نفسه غيظاً وكراهية لأولئك الوحوش الضواري) .
وأما ظهور الفرنجة أو (الحروب الصليبية): فقد كانت ولادة ابن تيمية رحمه
الله في بداية الدور الرابع لهذه الحروب الذي يمثل دور الضعف الفرنجي
وتجدد قوة المسلمين، باسترداد كثير من المدن الشامية الكبرى، وإكمال مسيرة
طرد الفرنج من بلاد المسلمين.
وأما الفتن الداخلية: فما كان يحصل بين المماليك وتنازعهم على السلطة وما
كان يحصل بينهم وبين التتر المسلمين، وقد كان لابن تيمية رحمه الله مشاركة
في إصلاح بعض هذا، وفي مقدمة مواقف ابن تيمية رحمه الله يذكر المؤرخون
قصته مع آخر أمراء المماليك وذلك بتذكيره بحقن دماء المسلمين، وحماية
ذراريهم وصون حرماتهم .
ثانياً: الناحية الاجتماعية:كانت مجتمعات المسلمين خليطاً من أجناس مختلفة، وعناصر متباينة بسبب الاضطراب السياسي في بلادهم.
إذ اختلط التتار - القادمون من أقصى الشرق حاملين معهم عاداتهم وأخلاقهم
وطباعهم الخاصة - بالمسلمين في ديار الإسلام الذين هم أقرب إلى الإسلام
عقيدة وخلقاً من التتر.
ونوعية ثالثة: ألا وهي أسرى حروب الفرنجة والترك إذ كان لهم شأن في فرض
بعض النظم الاجتماعية، وتثبيت بعض العوائد السيئة، والتأثير اللغوي العام
على المجتمع المسلم.
إضافة إلى امتزاج أهل الأمصار الإسلامية بين بعضهم البعض بسبب الحروب
الطاحنة من التتار وغيرهم، فأهل العراق يفرون إلى الشام، وأهل دمشق إلى
مصر والمغرب وهكذا.
كل هذا ساعد في تكوين بيئة اجتماعية غير منتظمة وغير مترابطة، وأوجد عوائد
بين المسلمين لا يقرها الإسلام، وأحدث بدعاً مخالفة للشريعة كان لابن
تيمية رحمه الله أكبر الأثر في بيان الخطأ والنصح للأمة، ومقاومة المبتدعة
.
ثالثاً: الناحية العلمية:في عصر ابن تيمية رحمه الله قل الإنتاج العلمي،
وركدت الأذهان، وأقفل باب الاجتهاد وسيطرت نزعة التقليد والجمود، وأصبح
قصارى جهد كثير من العلماء هو جمع وفهم الأقوال من غير بحث ولا مناقشة،
فألفت الكتب المطولة والمختصرة، ولكن لا أثر فيها للابتكار والتجديد،
وهكذا عصور الضعف تمتاز بكثرة الجمع وغزارة المادة مع نضوب في البحث
والاستنتاج.
ويحيل بعض الباحثين ذلك الضعف إلى: سيادة الأتراك والمماليك مما سبب
استعجام الأنفس والعقول والألسن، إضافة إلى اجتماع المصائب على المسلمين،
فلم يكن لديهم من الاستقرار ما يمكنهم من الاشتغال بالبحث والتفكير .
ولا ينكر وجود أفراد من العلماء النابهين أهل النبوغ، ولكن أولئك قلة لا
تنخرم بهم القاعدة. وثمة أمر آخر في عصر ابن تيمية أثر في علمه ألا وهو:
اكتمال المكتبة الإسلامية بكثير من الموسوعات الكبرى في العلوم الشرعية:
من التفسير، والحديث، والفقه، وغيرها.
فالسنة مبسوطة، والمذاهب مدونة، ولم يعد من السهل تحديد الكتب التي قرأها وتأثر بها، ولا معرفة تأثير شيوخه عليه بدقة.
4
- محن الشيخ:امتحن الشيخ مرات عدة بسبب نكاية الأقران وحسدهم، ولما كانت
منزلة شيخ الإسلام في الشام عالية عند الولاة وعند الرعية وشى به ضعاف
النفوس عند الولاة في مصر، ولم يجدوا غير القدح في عقيدته، فطلب إلى مصر،
وتوجه إليها سنة 705هـ. بعدما عقدت له مجالس في دمشق لم يكن للمخالف فيها
حجة ، وبعد أن وصل إلى مصر بيوم عقدوا له محاكمة كان يظن شيخ الإسلام رحمه
الله أنها مناظرة، فامتنع عن الإجابة حين علم أن الخصم والحكم واحد .
واستمر في السجن إلى شهر صفر سنة 707هـ، حيث طلب منه وفد من الشام بأن
يخرج من السجن، فخرج وآثر البقاء في مصر على رغبتهم الذهاب معهم إلى دمشق.
وفي آخر السنة التي أخرج فيها من السجن تعالت صيحات الصوفية في مصر،
ومطالباتهم في إسكات صوت شيخ الإسلام رحمه الله فكان أن خُير شيخ الإسلام
بين أن يذهب إلى دمشق أو إلى الإسكندرية أو أن يختار الحبس، فاختار الحبس،
إلا أن طلابه ومحبيه أصروا عليه أن يقبل الذهاب إلى دمشق، ففعل نزولاً عند
رغبتهم وإلحاحهم.
وما إن خرج موكب شيخ الإسلام من القاهرة متوجهاً إلى دمشق، حتى لحق به وفد
من السلطان ليردوه إلى مصر ويخبروه بأن الدولة لا ترضى إلا الحبس.
وما هي إلا مدة قليلة حتى خرج من السجن وعاد إلى دروسه، واكب الناس عليه ينهلون من علمه.
وفي سنة 709هـ نفي من القاهرة إلى الإسكندرية، وكان هذا من الخير لأهل
الإسكندرية ليطلبوا العلم على يديه، ويتأثروا من مواعظه، ويتقبلوا منهجه،
لكن لم يدم الأمر طويلاً لهم، فبعد سبعة أشهر طلبه إلى القاهرة الناصر
قلاوون بعد أن عادت الأمور إليه، واستقرت الأمور بين يديه، فقد كان من
مناصري ابن تيمية رحمه الله وعاد الشيخ إلى دورسه العامرة في القاهرة.
وامتحن شيخ الإسلام بسبب فتواه في مسألة الطلاق ، وطُلب منه أن يمتنع عن
الإفتاء بها فلم يمتنع حتى سجن في القلعة من دمشق بأمر من نائب السلطنة
سنة 720هـ إلى سنة 721هـ لمدة خمسة أشهر وبضعة أيام.
وبحث حساده عن شيء للوشاية به عند الولاة فزوروا كلاماً له حول زيارة
القبور، وقالوا بأنه يمنع من زيارة القبور حتى قبر نبينا محمد صلّى الله
عليه وسلّم، فكتب نائب السلطنة في دمشق إلى السلطان في مصر بذلك، ونظروا
في الفتوى دون سؤال صاحبها عن صحتها ورأيه فيها، فصدر الحكم بحقه في شعبان
من سنة 726هـ بأن ينقل إلى قلعة دمشق ويعتقل فيها هو وبعض أتباعه واشتدت
محنته سنة 728هـ حين أُخرج ما كان عند الشيخ من الكتب والأوراق والأقلام،
ومنع من ملاقاة الناس، ومن الكتابة والتأليف .
5 - وفاته رحمه الله:في ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة من سنة (728هـ)
توفي شيخ الإسلام بقلعة دمشق التي كان محبوساً فيها، وأُذن للناس بالدخول
فيها، ثم غُسل فيها وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وصُلي
عليه بالقلعة، ثم وضعت جنازته في الجامع والجند يحفظونها من الناس من شدة
الزحام، ثم صُلي عليه بعد صلاة الظهر، ثم حملت الجنازة، واشتد الزحام، فقد
أغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور إلا القليل من الناس، أو من
أعجزه الزحام، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدم، وتارة يتأخر، وتارة يقف
حتى يمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام .
6 - مؤلفاته:
[size=16]