د. عائض القرني
البكاء فضيلة عند رؤية التقصير أو خوف سوء المصير، وهو محمدة إذا تذكّر
العبد ربه وخاف ذنوبه، ودليل على تقوى القلب وسموّ النفس وطهر الضمير
ورقّة العاطفة، مدح الله رسله بالبكاء فقال: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً). ووصف أولياءه الصالحين
بأنهم (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً).
ولام أعداءه على القسوة والغلظة فقال: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ). وأثنى على قوم فقال:
(وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ).
وسيد الخاشعين لربّ العالمين، وإمام الخائفين من مالك يوم الدين هو خاتم
المرسلين صلى الله عليه وسلم. فقد كان نديّ الجفن، سريع العَبْرة، سخيّ
الدمع، رقيق القلب، جياش العاطفة، مشبوب الحشا، تنطلق دمعته في صدق وطهر،
ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات، يترك بكاؤه في قلوب أصحابه آثاراً من التربية
والاقتداء والصلاح ما لا تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثرة، فهو يبكي
صلى الله عليه وسلم عند تلاوة القرآن، فقد قام ليلة من الليالي يكرر قوله
تعالى: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فيبكي غالب ليله.
وهو يبكي عند سماع القرآن، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن
مسعود: «اقرأ عليّ القرآن»، قال: كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ قال: «اقرأ
فإني أحبّ أن أسمعه من غيري»، فيقرأ ابن مسعود من أول سورة النساء، حتى
بلغ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ
عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً). قال: «حسبك الآن» فنظر ابن مسعود فإذا عيناه
تذرفان. وهو يخشع صلى الله عليه وسلم عند سماع القرآن، فقد صح أنه قام
ليلة يستمع لأبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن ثم قال له في الصباح: «لو
رأيتني وأنا أستمع لقراءتك، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود». فيقول
أبو موسى: لو كنت أعلم أنك تستمع لي لحبّرته لك تحبيراً. أي: جوّدته
وحسّنته وجمّلته. وقال عبد الله بن الشخير في حديث صحيح: دخلت على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء،
وهو القدر إذا استجمع غلياناً. ويحضر صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته
زينب، ويجلس على القبر وتذرف عيناه من هول المنظر، وتذكر العاقبة والتفكير
في ذلك المصير، وأصحابه يشاهدون هذا المشهد المؤثر المعبّر منه صلى الله
عليه وسلم .
ويخبر صلى الله عليه وسلم بفضل البكاء من خشية الله، فيذكر السبعة الذين
يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:«... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت
عيناه». وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عينان لا تمسّهما النار
أبداً: عين بكت وجلاً من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».
فالبكاء السنّي الشرعي ما كان من خوف الله عز وجل، وتذكّر القدوم عليه
والوقوف بين يديه والتفكير في آياته الشرعية والكونية. والبكاء من الوفاء،
ومن أفضل أعمال الأولياء، خاصة إذا كان ندماً من معصية أو عند فوت طاعة،
أو وجلاً من عذاب، أو رحمة لمصاب، أو رقة عند موعظة، أو خشية عند تفكّر.
ولا يحمد البكاء على الدنيا، فهي أقل وأرخص من أن يُبكى عليها، فليست
أهلاً لذلك.
فكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم أجلّ وأفضل البكاء، وهو ما دلّ على يقين
وعظمة خوف وشدة رهبة من الجليل، وصدق معرفة وحسن علم بعاقبة، فأعماله صلى
الله عليه وسلم كلها في أرقى مقامات الأعمال وأسمى غايات الأحوال.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالهلوع الجزوع الذي يأسف على فوات الحظوظ
الدنيوية ويجزع على ذهاب المكاسب الدنيّة، ولم يكن بالفرح البطر القاسي
الذي لا تؤثر فيه المواقف ولا تحرّكه الأزمات، بل كان بكاؤه وندمه وأسفه
في مرضاة ربه. وكان تبسّمه وضحكه وسروره في طاعة خالقه، ففي كل خصلة من
خصال النبل وفي كل صفة من صفات الفضل هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة:
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
لقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف،
ونشيجه يتعالى، ولصدره أزيز، حينها يتحول المسجد إلى بكاء ودموع، كلٌّ
ينكس رأسه ويترك التعبير لعينيه أمام هذا المشهد الذي لا تمحوه الأيام ولا
تنسيه الليالي.
يا الله! محمد رسول الله هكذا باكياً أمام الناس، هكذا تسحّ دموعه وتتساقط
على وجنتيه وهو أعرف الناس بالله وأدراهم بالوحي وأعلمهم بالمصير! يبكي من
قلب ملؤه الخوف من الله، ومن نفس عمَرها حب الله، فتكاد دموعه تتحدث
للناس، ويكاد بكاؤه يكون أبلغ من كل موعظة وأفصح من كل كلمة.
قد كنت أشفق من دمعي على بصري فاليوم كلّ عزيز بعدكم هانا