فنجان قهوة
أن يشربوا فنجان قهوة بعد المغرب مع والدتهم، هذه عادتهم اليومية التي لا يتخلفون عنها أبدًا اليوم، جميعهم حضَر، أحمد يحمل جهاز حاسبه الآلي، ويحدق في شاشته باهتمام، وينقر على الأزرار بتتابع محموم، فهو مشرف على أحد المواقع، ولا يستطيع أن يتركه ولو للحظة واحدة، أما سعد فيحمل جهاز حاسبه أيضًا؛ لكن لغرض آخر، فهو قد بدأ لعبة شيقة، ويريد إكمالها، إنه يعشق الألعاب الإلكترونية، فهي تؤنسه وتبعد شبح الملل عنه.
أما "سارة" فأخذت ترشف قهوتها بهدوء، وبيدها الأخرى أمسكت بجهازها الجوال تحادِث صديقتها بالماسنجر بحماس وشوق، رغم أنهما كانتا معًا صباحًا في المدرسة، لكنها لا تمل من الحديث معها أبدًا، وارتفع صوت "رنا" بالضحكات، وهي تثرثر بلا انقطاع مع صديقتها هالة، وقد تمددت على الأريكة، ووضعت جهاز الهاتف في حضنها، وهي تقضم بلا شعور قطعة من الحلوى التي صنعتها والدتها.
وجلست "عبير" و"عادل" في زاوية من الصالة الكبيرة، يتبادلان رسائل "البلوتوث" بصمتٍ لا يقطعه إلا أزيز الرسالة المستلمة.
نظرت أم أحمد إلى أبنائها، كلهم حاضر، لكنه في الحقيقة غائب، بعيد، كانت تنتظر أذان المغرب بشوق ولهفة، ليتحلق أبناؤها بعده حولها، لتسأل أحمد عن عمله، لتبث لها سارة شكاواها التي لا تنقطع، لتسمع ضحكة عبير وتذمُّر سعد، ليتبادلوا الأحاديث ويسردوا القصص، كم اشتاقتْ لضحكاتهم وأحاديثهم؛ بل اشتاقت لمشاجراتهم وجدالهم، ومحاولاتها المستميتة للتفريق بينهم، تنهَّدَتْ أم أحمد بحزن وتمتمت: ليتهم، ولو يتشاجرون!
تذكرتْ كم تسابقوا إلى حضنها وتقبيل رأسها، كم كانوا ينصتون لقصصها بشغفٍ وحبٍّ، وعيونهم الحلوة متعلِّقة بها، رأتْ صورة سعد وهو يحوم حولها في المطبخ يتابعها، وهي تعد الأطباق، يسرق منها قطعة قبل التقديم، تلسعه حرارتها فيعود إليها متألِّمًا، فتضحك منه وتشد أذنه مؤنبة، وعبير تقف خلفه محتجة تطلب حصتها هي الأخرى، تذكرت تعليقاتهم اللاذعة حول ثوب سارة القبيح، أو شعر عادل المنكوش، أو حذاء حامد المهترئ، وتذكرت وجوههم المحمرة الغاضبة، التي لا تلبث أن تهدأ وتعود إليها البسمة.
فما بالهم اليوم يأتون صامتين، ويخرجون صامتين، ينظرون لبعضهم بارتياب، ويتعاملون كالغرباء، يشربون القهوة بسرعة، ثم ينطلقون لا يَلْوُون على شيء هاربين إلى غرفهم.
لقد انتظرتهم، لتشتكي لهم وقع المرض الذي أنهك قواها، علها تجد كلمة مواساة تخفِّف عنها، لقد انتظرتهم لتبوح لهم بهمومها وآمالها، لقد انتظرتهم لتراهم معًا، لتتأمل وجوههم البريئة الباسمة، لقد انتظرتهم لتطمئن عليهم، ليحدثوها عن حياتهم، آمالهم، طموحاتهم، مشاكلهم، عن أي شيء، يكفيها أن تسمع أصواتهم التي تذكرها بتغريد البلابل، وأن تنصت لهم بحب، انتظرتهم فقط لتخبرهم كم هي تحبهم، وها قد حضر أبناؤها، لكنها لا تجد أحدًا منهم، إنهم بعيدون جدًّا، رغم أنهم قريبون جدًّا.
وها هي وحيدة ترشف قهوتها الباردة بصمت، الكآبة تلف روحها البائسة، والمرض ينهش جسمها الضعيف، وحيدة يغلفها السكون، وحولها عالم صاخب مليء بالضجيج، ضجيج مزعج يقتل كل بشائر الفرح، ويلتهم ملامح السعادة، ضجيج فارغ، بلا حياة، وانشغال دائم بلا هدف.
نظرت أم أحمد ثانية للأجسام التي تجلس بجانبها وتمتمت: أين أبنائي؟ كم أفتقدهم! أيبدو لك هذا مألوفًا؟
نعم، إننا نعيش مع أسرنا بأجسامنا المادية فقط، أما أرواحنا فتحلق في فضاءات مختلفة، مشغولون دائمًا بلا فائدة.
اجتماعاتُنا أصبحتْ بلا طعم، بلا رائحة، فقدت روحها، فقدت المودة والرحمة، فقدت التلقائية والبساطة، فقدت الإنصات والتركيز، كأنما نحن ممثلون في مسرحية، نؤدي أدوارًا معيَّنة، نتحدَّث دون أن نعي ما نقول، نتظاهر بأننا نستمع، ونهز رؤوسنا دلالة الفهم، ونحن في عوالم أخرى، وعقولنا منشغلة بأمور شتى، فنخرج من اللقاء ونحن أكثر خواء، ونفوسنا أشد قتامة وبؤسًا، وعلاقاتنا تهترئ يومًا بعد يوم.
وتمر اللحظات الحلوة، اللحظات الجميلة، ونحن مشغولون عنها، فلا نحن استمتعنا بها، ولا أنجزنا ما نحن مشغولون لأجله، ويمضي قطار العمر سريعًا، و لا يبقى منه إلا حسرة على عمر ذهب سدى، وزفرات ندم على حبيب قريب غادر إلى غير رجعة، دون أن نقضي من وصله وطرًا.
إن لحظة صفاء مع الأسرة يتبادلون فيها الأحاديث الشيقة، والمشاعر الصادقة - تشحن النفس طاقة، وتزيل الهم والكدر، وتجلب السعادة والحبور، وما الخواء الروحي والعاطفي المستشري في عصرنا إلا لافتقادنا لهذه اللحظات، علينا أن نحسن الاستمتاع باللحظة الحاضرة، وأن نستغرق فيها، ونشربها حتى الثمالة، لترشف قهوتك بهدوء، و بطء، ولتفكر كم هي لذيذة!
لتنظر بعيني والدتك وهي تخاطبك، تواصل معها بقلبك وروحك، قَبِّل رأسها بعطف، وأمسك يدها بين يديك بحب، انهل من معين عطفها، وعد معها طفلاً سعيدًا لاهيًا، أنصت لصوتها الحنون، واستمع لحديثها العذب، افهم ما تقوله، وتفاعل معه بصدق.
اترك كل أفكارك، أشغالك، مشاكلك خارجًا، واستمتع بوقتك، فلا تفسد لحظة اللقاء باجترار الأفكار التي تصرفك عن أغلى الناس لديك، ولا تحول وقتك القصير معهم إلى ورشة عمل، ولا تعتذر بكثرة الأشغال، فالأشغال لا تتركك حتى تتركها، وحاجة من عاش لا تنقضي.
المصدر
أن يشربوا فنجان قهوة بعد المغرب مع والدتهم، هذه عادتهم اليومية التي لا يتخلفون عنها أبدًا اليوم، جميعهم حضَر، أحمد يحمل جهاز حاسبه الآلي، ويحدق في شاشته باهتمام، وينقر على الأزرار بتتابع محموم، فهو مشرف على أحد المواقع، ولا يستطيع أن يتركه ولو للحظة واحدة، أما سعد فيحمل جهاز حاسبه أيضًا؛ لكن لغرض آخر، فهو قد بدأ لعبة شيقة، ويريد إكمالها، إنه يعشق الألعاب الإلكترونية، فهي تؤنسه وتبعد شبح الملل عنه.
أما "سارة" فأخذت ترشف قهوتها بهدوء، وبيدها الأخرى أمسكت بجهازها الجوال تحادِث صديقتها بالماسنجر بحماس وشوق، رغم أنهما كانتا معًا صباحًا في المدرسة، لكنها لا تمل من الحديث معها أبدًا، وارتفع صوت "رنا" بالضحكات، وهي تثرثر بلا انقطاع مع صديقتها هالة، وقد تمددت على الأريكة، ووضعت جهاز الهاتف في حضنها، وهي تقضم بلا شعور قطعة من الحلوى التي صنعتها والدتها.
وجلست "عبير" و"عادل" في زاوية من الصالة الكبيرة، يتبادلان رسائل "البلوتوث" بصمتٍ لا يقطعه إلا أزيز الرسالة المستلمة.
نظرت أم أحمد إلى أبنائها، كلهم حاضر، لكنه في الحقيقة غائب، بعيد، كانت تنتظر أذان المغرب بشوق ولهفة، ليتحلق أبناؤها بعده حولها، لتسأل أحمد عن عمله، لتبث لها سارة شكاواها التي لا تنقطع، لتسمع ضحكة عبير وتذمُّر سعد، ليتبادلوا الأحاديث ويسردوا القصص، كم اشتاقتْ لضحكاتهم وأحاديثهم؛ بل اشتاقت لمشاجراتهم وجدالهم، ومحاولاتها المستميتة للتفريق بينهم، تنهَّدَتْ أم أحمد بحزن وتمتمت: ليتهم، ولو يتشاجرون!
تذكرتْ كم تسابقوا إلى حضنها وتقبيل رأسها، كم كانوا ينصتون لقصصها بشغفٍ وحبٍّ، وعيونهم الحلوة متعلِّقة بها، رأتْ صورة سعد وهو يحوم حولها في المطبخ يتابعها، وهي تعد الأطباق، يسرق منها قطعة قبل التقديم، تلسعه حرارتها فيعود إليها متألِّمًا، فتضحك منه وتشد أذنه مؤنبة، وعبير تقف خلفه محتجة تطلب حصتها هي الأخرى، تذكرت تعليقاتهم اللاذعة حول ثوب سارة القبيح، أو شعر عادل المنكوش، أو حذاء حامد المهترئ، وتذكرت وجوههم المحمرة الغاضبة، التي لا تلبث أن تهدأ وتعود إليها البسمة.
فما بالهم اليوم يأتون صامتين، ويخرجون صامتين، ينظرون لبعضهم بارتياب، ويتعاملون كالغرباء، يشربون القهوة بسرعة، ثم ينطلقون لا يَلْوُون على شيء هاربين إلى غرفهم.
لقد انتظرتهم، لتشتكي لهم وقع المرض الذي أنهك قواها، علها تجد كلمة مواساة تخفِّف عنها، لقد انتظرتهم لتبوح لهم بهمومها وآمالها، لقد انتظرتهم لتراهم معًا، لتتأمل وجوههم البريئة الباسمة، لقد انتظرتهم لتطمئن عليهم، ليحدثوها عن حياتهم، آمالهم، طموحاتهم، مشاكلهم، عن أي شيء، يكفيها أن تسمع أصواتهم التي تذكرها بتغريد البلابل، وأن تنصت لهم بحب، انتظرتهم فقط لتخبرهم كم هي تحبهم، وها قد حضر أبناؤها، لكنها لا تجد أحدًا منهم، إنهم بعيدون جدًّا، رغم أنهم قريبون جدًّا.
وها هي وحيدة ترشف قهوتها الباردة بصمت، الكآبة تلف روحها البائسة، والمرض ينهش جسمها الضعيف، وحيدة يغلفها السكون، وحولها عالم صاخب مليء بالضجيج، ضجيج مزعج يقتل كل بشائر الفرح، ويلتهم ملامح السعادة، ضجيج فارغ، بلا حياة، وانشغال دائم بلا هدف.
نظرت أم أحمد ثانية للأجسام التي تجلس بجانبها وتمتمت: أين أبنائي؟ كم أفتقدهم! أيبدو لك هذا مألوفًا؟
نعم، إننا نعيش مع أسرنا بأجسامنا المادية فقط، أما أرواحنا فتحلق في فضاءات مختلفة، مشغولون دائمًا بلا فائدة.
اجتماعاتُنا أصبحتْ بلا طعم، بلا رائحة، فقدت روحها، فقدت المودة والرحمة، فقدت التلقائية والبساطة، فقدت الإنصات والتركيز، كأنما نحن ممثلون في مسرحية، نؤدي أدوارًا معيَّنة، نتحدَّث دون أن نعي ما نقول، نتظاهر بأننا نستمع، ونهز رؤوسنا دلالة الفهم، ونحن في عوالم أخرى، وعقولنا منشغلة بأمور شتى، فنخرج من اللقاء ونحن أكثر خواء، ونفوسنا أشد قتامة وبؤسًا، وعلاقاتنا تهترئ يومًا بعد يوم.
وتمر اللحظات الحلوة، اللحظات الجميلة، ونحن مشغولون عنها، فلا نحن استمتعنا بها، ولا أنجزنا ما نحن مشغولون لأجله، ويمضي قطار العمر سريعًا، و لا يبقى منه إلا حسرة على عمر ذهب سدى، وزفرات ندم على حبيب قريب غادر إلى غير رجعة، دون أن نقضي من وصله وطرًا.
كَمْ فُرْصَةٍ ذَهَبَتْ فَعَادَتْ غُصَّةً تَشْجِي بِطُولِ تَلَهُّفٍ وَتَنَدُّمِ |
إن لحظة صفاء مع الأسرة يتبادلون فيها الأحاديث الشيقة، والمشاعر الصادقة - تشحن النفس طاقة، وتزيل الهم والكدر، وتجلب السعادة والحبور، وما الخواء الروحي والعاطفي المستشري في عصرنا إلا لافتقادنا لهذه اللحظات، علينا أن نحسن الاستمتاع باللحظة الحاضرة، وأن نستغرق فيها، ونشربها حتى الثمالة، لترشف قهوتك بهدوء، و بطء، ولتفكر كم هي لذيذة!
لتنظر بعيني والدتك وهي تخاطبك، تواصل معها بقلبك وروحك، قَبِّل رأسها بعطف، وأمسك يدها بين يديك بحب، انهل من معين عطفها، وعد معها طفلاً سعيدًا لاهيًا، أنصت لصوتها الحنون، واستمع لحديثها العذب، افهم ما تقوله، وتفاعل معه بصدق.
اترك كل أفكارك، أشغالك، مشاكلك خارجًا، واستمتع بوقتك، فلا تفسد لحظة اللقاء باجترار الأفكار التي تصرفك عن أغلى الناس لديك، ولا تحول وقتك القصير معهم إلى ورشة عمل، ولا تعتذر بكثرة الأشغال، فالأشغال لا تتركك حتى تتركها، وحاجة من عاش لا تنقضي.
فَالعَيْشُ لاَ عَيْشَ إِلاَّ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنًا وَلاَ حَالَ إِلاَّ سَوْفَ يَنْتَقِلُ |
المصدر