أمية النبي صلى الله عليه وسلم
اقتضت إرادة الله تعالى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمّيّا ً، حتى
صارت تلك الصفة من خصائصه ، ولعل الحكمة من ذلك أن النبي صلى الله عليه
وسلم لو كان يحسن القراءة والكتابة ، لوجد الكفار في ذلك منفذاً للطعن في
نبوته ، أو الريبة برسالته ، وقد جاء تصوير هذا المعنى في قوله تعالى :
{ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } ( العنكبوت : 48 ) .
وفي هذا المقام نجد محاولة جديدة لطمس الحقائق وتزوير الأحداث ، ويتمثل
ذلك في إنكار بعض المستشرقين ما استفاضت شهرته من إثبات أمّيّة النبي صلى
الله عليه وسلم ، متغافلين عن نصوص الوحيين الصريحة في ذلك ، ثم ساقوا
لتأييد أطروحتهم جملة من الأدلة مستصحبين معهم أسلوبهم الشهير في تحريف
النصوص وليّ أعناقها ، واستنباط ما لا يدل عليه النص أبدا لا بمنطوقه ولا
بمفهومه ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل إننا نجد منهم اللجوء إلى
الكذب الصراح متى ما كان ذلك موصلا إلى هدفهم من التضليل والتشويش .
وانطلاقاً من رغبتنا في بيان بطلان هذا الادعاء وبيان زيفه ، فإننا سوف
نورد ما استدلوا به في إنكار أمّيّته صلى الله عليه وسلم ، ثم نقوم
بمناقشته وإظهار وجه الحقيقة فيه .
كان أول ما استدلوا
به هو ما رواه الإمام البخاري في قصّة الحديبية عن البراء رضي الله عنه
قال : " لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، أبى أهل مكة
أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا
الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . قالوا : لا نقر لك بهذا
، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ، ولكن أنت محمد بن عبد الله .
فقال : ( أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ) . ثم قال لعلي بن أبي
طالب رضي الله عنه : ( امح رسول الله ) ، قال علي : لا والله لا أمحوك
أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب :
هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في
القراب ".
قالوا : لقد نصّت الرواية على مباشرة النبي
صلى الله عليه وسلم لكتابة ما نصّه : " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله
" ، ومادامت الكتابة قد ثبتت عنه فلا شك أنه كان يحسن القراءة من باب أولى
، لأن القراءة فرعٌ عن الكتابة . وهذه الشبهة تُعدّ من أقوى شبهاتهم .
والجواب على هذه الشبهة فيما يلي :
أولاً : لا نسلّم بأن الرواية السابقة جاء فيها التصريح بمباشرة النبي صلى
الله عليه وسلم للكتابة ، بل هي محتملة لأمرين : أن يكون النبي صلى الله
عليه وسلم هو المباشر ، أو أن يكون علي رضي الله عنه هو الذي قام
بالمباشرة ، وتكون نسبة الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجازيةً
باعتبار أنه هو الآمر بالكتابة ، ونظير ذلك قول الصحابي : " ونقش النبي
صلى الله عليه وسلم في خاتمه : محمد رسول الله " أي أمر بنقشه ، وإذا
أردنا معرفة رجحان أي الاحتمالين ، فإنه يجب علينا العودة إلى مرويّات
الحديث وطرقه .
لقد روى هذا الحديث المسور بن مخرمة و
مروان و أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين ، واتفقت تلك الروايات كلها على
أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بالكتابة ، فقد جاء في البخاري عن
المسور بن مخرمة و مروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا : " ..فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب
محمد بن عبد الله ) " ، وكذلك قال أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم
ما نصّه : " ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب من محمد بن عبد
الله ) ".
أما رواية البراء رضي الله عنه ، فنلاحظ أن
الرواة الذين نقلوها ، اقتصروا على بعض الألفاظ دون بعض ، ومن هنا حصل
اللبس والإيهام في هذه الرواية .
فرواية عبيد الله بن
موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه ذكرت : " ثم قال
النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( امح رسول
الله ) ، فقال علي : لا والله لا أمحوك أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله
عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد
الله " . ورواية إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي إسحاق عن
البراء رضي الله عنه جاء فيها : " فقال لعلي : ( امح رسول الله ) ، فقال
علي : والله لا أمحاه أبدا ، قال : (فأرنيه ) ، قال فأراه إياه ، فمحاه
النبي صلى الله عليه وسلم بيده ".
ويضاف إلى روايات
البخاري السابقة رواية أخرى مهمة لحديث البراء ، تلك الرواية التي أوردها
ابن حبان في صحيحه عن محمد بن عثمان العجلي قال : حدثنا عبيد الله بن موسى
عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال : " فأخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فأمر فكتب مكان رسول الله
محمداً ، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " الحديث .
ونخلص من مجموع تلك الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضي
الله عنه أن يمحو كلمة : ( رسول الله ) ، فرفض عليٌّ ذلك ، فطلب منه أن
يريه مكانها ، فمحاها بيده ، ثم أمره بكتابة لفظة ( بن عبدالله ) ، وهذا
هو مقتضى الروايات .
ثم إننا نقول : إن رواية البخاري
التي ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فأرنيه ) ، فيها إشارة واضحة
إلى احتياج النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي كي يرشده إلى مكان الكلمة ،
مما يدل بوضوح على عدم معرفته للقراءة أصلا ، ويضاف إلى ذلك أن المشرك
الذي تفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم لو رآه يكتب شيئا بيده في تلك
الحادثة لنقلها إلى كفّار قريش ، فقد كانوا يبحثون عن أي شيء يجعلونه
مستمسكاً لهم في ارتيابهم ، فلما لم يُنقل لنا ذلك دلّ على عدم وقوعه
أصلاً .
ولكن دعنا نفترض أن المباشر للكتابة هو النبي
صلى الله عليه وسلم ، فهل يخرجه ذلك عن أميته ؟ يجيب الإمام الذهبي فيقول
: " ما المانع من تعلم النبي صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه واسم أبيه مع
فرط ذكائه وقوة فهمه ودوام مجالسته لمن يكتب بين يديه الوحي والكتب إلى
ملوك الطوائف " ، فمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم لطريقة كتابة اسمه واسم
أبيه لا يخرجه عن كونه أمّياً كما هو ظاهر ، فإن غير الأميّ يحسن كل كتابة
وكل قراءة ، لا بعضاً منها .
وأما شبهتهم الثانية :
فهي ما رواه الإمام البيهقي عن عون بن عبد الله عن أبيه قال : " ما مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب – وفي رواية : حتى قرأ وكتب – ".
والجواب عن هذه الشبهة أن الحديث ضعيف ، فقد قال الإمام البيهقي نفسه : "
..فهذا حديث منقطع ، وفي رواته جماعة من الضعفاء والمجهولين " . وقال
الإمام الطبراني : " هذا حديث منكر ، وقال أبو عقيل : ضعيف " . والحديث
ذكره الإمام السيوطي في الموضوعات .
ومن استدلالاتهم
على نفي أمّيّته ما ذكروه أن العباس بن عبدالمطلب قال عندما سأله اليهودي
: هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم بيده؟ فقال : فأردت أن أقول نعم ،
فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويردّ علي، فقلت: لا يكتب ، فوثب الحبر وترك
رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود " .
وما ذكروه
يتضمّن تدليساً فاحشاً ، وكذباً واضحاً ، يتّضح عند العودة إلى الرواية في
مصادرها ، فقد روى هذه القصة البيهقي في " دلائل النبوة "، وذكرها ابن
كثير في " البداية والنهاية " بسندها ، وموضع التدليس عند قوله : " فقال
الحبر اليهودي : هل كتب بيده ؟ ، قال العباس : فظننت أنه خير له أن يكتب
بيده ، فأردت أن أقولها ، ثم ذكرت مكان أبي سفيان أنه مكذبي ورادٌّ عليّ ،
فقلت : لا يكتب . فوثب الحبر وترك رداءه وقال : ذبحت يهود وقتلت يهود " ،
وبهذا يظهر أن أميّة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أمراً مشتهراً يعرفها
القاصي والداني من قومه .
ثم ننتقل إلى دليل آخر من
أدلتهم ، وهو الحديث الذي رواه ابن ماجة بسنده عن أنس بن مالك رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت ليلة أسرى بي على باب الجنة
مكتوباً : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر ، فقلت : يا جبريل ،
ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ . قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض
لا يستقرض إلا من حاجة ) ، قالوا : والقدرة على القراءة فرع الكتابة .
لكن ما استدلوا به لا يصلح للاحتجاج ، لأن الحديث ضعيف جدا ، وآفته خالد
بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب :
" ضعيف مع كونه كان فقيها ، وقد اتهمه يحي بن معين " . وسئل عنه أبو زرعة
فقال : " يروي أحاديث مناكير " .
ولئن صح الحديث ،
فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر القراءة بنفسه ، بل واضحٌ من
سياق الحديث أن جبريل عليه السلام كان بصحبته في الجنة ، ثم إن حادثة
الإسراء والمعراج في جملتها أمرٌ خارق للعادة ، لا يُقاس الواقع به ، فكيف
يتعجّب مع هذا الأمر الخارق العظيم أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم بضع
كلمات مكتوبة على باب الجنّة ؟ ، وإذا كانت القراءة تلك حاصلة منه في
العالم العلويّ ، وفي مشهد من مشاهد الآخرة – حيث رأى الجنة - ، فمن الذي
قال إنه صلى الله عليه وسلم سيكون يوم القيامة على أميّته !! .
من المرويّات التي استدل بها المستشرقون ، ما جاء في صحيح مسلم عن أنس بن
مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الدجال
ممسوح العين ، مكتوب بين عينيه : كافر ، ثم تهجاها : ك ف ر ) .
والجواب عن ذلك أن نقول : إن تهجّي الكلمات يشمل نوعين : تهجي الكلمات
المسموعة ، وهذا أمر يشترك فيه المتعلم والأميِّ على السواء ، و تهجّي
الكلمات المكتوبة ، وهذا لا يقدر عليه إلا من كان يحسن القراءة ، وإذا كان
الأمر كذلك فليس في الحديث دلالة على معرفة النبي صلى الله عليه وسلم
للقراءة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نطق الكلمة ثم تهجّاها .
وختاماً ، فإن ما ذكره المستشرقون ومن تبعهم من محاولات للتشكيك في أمّيّة
النبي صلى الله عليه وسلم لا يصمد أمام حقيقة هامة ، وهي أن أهل مكة الذين
عاشوا معه وعلموا أخباره ، وعرفوا مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته ، قد أقرّوا
جميعا بأميّته ، والله الموفّق .
الشبكة الاسلامية
وفي هذا المقام نجد محاولة جديدة لطمس الحقائق وتزوير الأحداث ، ويتمثل
ذلك في إنكار بعض المستشرقين ما استفاضت شهرته من إثبات أمّيّة النبي صلى
الله عليه وسلم ، متغافلين عن نصوص الوحيين الصريحة في ذلك ، ثم ساقوا
لتأييد أطروحتهم جملة من الأدلة مستصحبين معهم أسلوبهم الشهير في تحريف
النصوص وليّ أعناقها ، واستنباط ما لا يدل عليه النص أبدا لا بمنطوقه ولا
بمفهومه ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل إننا نجد منهم اللجوء إلى
الكذب الصراح متى ما كان ذلك موصلا إلى هدفهم من التضليل والتشويش .
وانطلاقاً من رغبتنا في بيان بطلان هذا الادعاء وبيان زيفه ، فإننا سوف
نورد ما استدلوا به في إنكار أمّيّته صلى الله عليه وسلم ، ثم نقوم
بمناقشته وإظهار وجه الحقيقة فيه .
كان أول ما استدلوا
به هو ما رواه الإمام البخاري في قصّة الحديبية عن البراء رضي الله عنه
قال : " لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ، أبى أهل مكة
أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا
الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . قالوا : لا نقر لك بهذا
، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ، ولكن أنت محمد بن عبد الله .
فقال : ( أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ) . ثم قال لعلي بن أبي
طالب رضي الله عنه : ( امح رسول الله ) ، قال علي : لا والله لا أمحوك
أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب :
هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في
القراب ".
قالوا : لقد نصّت الرواية على مباشرة النبي
صلى الله عليه وسلم لكتابة ما نصّه : " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله
" ، ومادامت الكتابة قد ثبتت عنه فلا شك أنه كان يحسن القراءة من باب أولى
، لأن القراءة فرعٌ عن الكتابة . وهذه الشبهة تُعدّ من أقوى شبهاتهم .
والجواب على هذه الشبهة فيما يلي :
أولاً : لا نسلّم بأن الرواية السابقة جاء فيها التصريح بمباشرة النبي صلى
الله عليه وسلم للكتابة ، بل هي محتملة لأمرين : أن يكون النبي صلى الله
عليه وسلم هو المباشر ، أو أن يكون علي رضي الله عنه هو الذي قام
بالمباشرة ، وتكون نسبة الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجازيةً
باعتبار أنه هو الآمر بالكتابة ، ونظير ذلك قول الصحابي : " ونقش النبي
صلى الله عليه وسلم في خاتمه : محمد رسول الله " أي أمر بنقشه ، وإذا
أردنا معرفة رجحان أي الاحتمالين ، فإنه يجب علينا العودة إلى مرويّات
الحديث وطرقه .
لقد روى هذا الحديث المسور بن مخرمة و
مروان و أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين ، واتفقت تلك الروايات كلها على
أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بالكتابة ، فقد جاء في البخاري عن
المسور بن مخرمة و مروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا : " ..فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب
محمد بن عبد الله ) " ، وكذلك قال أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم
ما نصّه : " ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب من محمد بن عبد
الله ) ".
أما رواية البراء رضي الله عنه ، فنلاحظ أن
الرواة الذين نقلوها ، اقتصروا على بعض الألفاظ دون بعض ، ومن هنا حصل
اللبس والإيهام في هذه الرواية .
فرواية عبيد الله بن
موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه ذكرت : " ثم قال
النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( امح رسول
الله ) ، فقال علي : لا والله لا أمحوك أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله
عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد
الله " . ورواية إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي إسحاق عن
البراء رضي الله عنه جاء فيها : " فقال لعلي : ( امح رسول الله ) ، فقال
علي : والله لا أمحاه أبدا ، قال : (فأرنيه ) ، قال فأراه إياه ، فمحاه
النبي صلى الله عليه وسلم بيده ".
ويضاف إلى روايات
البخاري السابقة رواية أخرى مهمة لحديث البراء ، تلك الرواية التي أوردها
ابن حبان في صحيحه عن محمد بن عثمان العجلي قال : حدثنا عبيد الله بن موسى
عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال : " فأخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فأمر فكتب مكان رسول الله
محمداً ، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " الحديث .
ونخلص من مجموع تلك الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً رضي
الله عنه أن يمحو كلمة : ( رسول الله ) ، فرفض عليٌّ ذلك ، فطلب منه أن
يريه مكانها ، فمحاها بيده ، ثم أمره بكتابة لفظة ( بن عبدالله ) ، وهذا
هو مقتضى الروايات .
ثم إننا نقول : إن رواية البخاري
التي ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم : (فأرنيه ) ، فيها إشارة واضحة
إلى احتياج النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي كي يرشده إلى مكان الكلمة ،
مما يدل بوضوح على عدم معرفته للقراءة أصلا ، ويضاف إلى ذلك أن المشرك
الذي تفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم لو رآه يكتب شيئا بيده في تلك
الحادثة لنقلها إلى كفّار قريش ، فقد كانوا يبحثون عن أي شيء يجعلونه
مستمسكاً لهم في ارتيابهم ، فلما لم يُنقل لنا ذلك دلّ على عدم وقوعه
أصلاً .
ولكن دعنا نفترض أن المباشر للكتابة هو النبي
صلى الله عليه وسلم ، فهل يخرجه ذلك عن أميته ؟ يجيب الإمام الذهبي فيقول
: " ما المانع من تعلم النبي صلى الله عليه وسلم كتابة اسمه واسم أبيه مع
فرط ذكائه وقوة فهمه ودوام مجالسته لمن يكتب بين يديه الوحي والكتب إلى
ملوك الطوائف " ، فمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم لطريقة كتابة اسمه واسم
أبيه لا يخرجه عن كونه أمّياً كما هو ظاهر ، فإن غير الأميّ يحسن كل كتابة
وكل قراءة ، لا بعضاً منها .
وأما شبهتهم الثانية :
فهي ما رواه الإمام البيهقي عن عون بن عبد الله عن أبيه قال : " ما مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب – وفي رواية : حتى قرأ وكتب – ".
والجواب عن هذه الشبهة أن الحديث ضعيف ، فقد قال الإمام البيهقي نفسه : "
..فهذا حديث منقطع ، وفي رواته جماعة من الضعفاء والمجهولين " . وقال
الإمام الطبراني : " هذا حديث منكر ، وقال أبو عقيل : ضعيف " . والحديث
ذكره الإمام السيوطي في الموضوعات .
ومن استدلالاتهم
على نفي أمّيّته ما ذكروه أن العباس بن عبدالمطلب قال عندما سأله اليهودي
: هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم بيده؟ فقال : فأردت أن أقول نعم ،
فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويردّ علي، فقلت: لا يكتب ، فوثب الحبر وترك
رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود " .
وما ذكروه
يتضمّن تدليساً فاحشاً ، وكذباً واضحاً ، يتّضح عند العودة إلى الرواية في
مصادرها ، فقد روى هذه القصة البيهقي في " دلائل النبوة "، وذكرها ابن
كثير في " البداية والنهاية " بسندها ، وموضع التدليس عند قوله : " فقال
الحبر اليهودي : هل كتب بيده ؟ ، قال العباس : فظننت أنه خير له أن يكتب
بيده ، فأردت أن أقولها ، ثم ذكرت مكان أبي سفيان أنه مكذبي ورادٌّ عليّ ،
فقلت : لا يكتب . فوثب الحبر وترك رداءه وقال : ذبحت يهود وقتلت يهود " ،
وبهذا يظهر أن أميّة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أمراً مشتهراً يعرفها
القاصي والداني من قومه .
ثم ننتقل إلى دليل آخر من
أدلتهم ، وهو الحديث الذي رواه ابن ماجة بسنده عن أنس بن مالك رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رأيت ليلة أسرى بي على باب الجنة
مكتوباً : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر ، فقلت : يا جبريل ،
ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ . قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض
لا يستقرض إلا من حاجة ) ، قالوا : والقدرة على القراءة فرع الكتابة .
لكن ما استدلوا به لا يصلح للاحتجاج ، لأن الحديث ضعيف جدا ، وآفته خالد
بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب :
" ضعيف مع كونه كان فقيها ، وقد اتهمه يحي بن معين " . وسئل عنه أبو زرعة
فقال : " يروي أحاديث مناكير " .
ولئن صح الحديث ،
فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر القراءة بنفسه ، بل واضحٌ من
سياق الحديث أن جبريل عليه السلام كان بصحبته في الجنة ، ثم إن حادثة
الإسراء والمعراج في جملتها أمرٌ خارق للعادة ، لا يُقاس الواقع به ، فكيف
يتعجّب مع هذا الأمر الخارق العظيم أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم بضع
كلمات مكتوبة على باب الجنّة ؟ ، وإذا كانت القراءة تلك حاصلة منه في
العالم العلويّ ، وفي مشهد من مشاهد الآخرة – حيث رأى الجنة - ، فمن الذي
قال إنه صلى الله عليه وسلم سيكون يوم القيامة على أميّته !! .
من المرويّات التي استدل بها المستشرقون ، ما جاء في صحيح مسلم عن أنس بن
مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الدجال
ممسوح العين ، مكتوب بين عينيه : كافر ، ثم تهجاها : ك ف ر ) .
والجواب عن ذلك أن نقول : إن تهجّي الكلمات يشمل نوعين : تهجي الكلمات
المسموعة ، وهذا أمر يشترك فيه المتعلم والأميِّ على السواء ، و تهجّي
الكلمات المكتوبة ، وهذا لا يقدر عليه إلا من كان يحسن القراءة ، وإذا كان
الأمر كذلك فليس في الحديث دلالة على معرفة النبي صلى الله عليه وسلم
للقراءة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نطق الكلمة ثم تهجّاها .
وختاماً ، فإن ما ذكره المستشرقون ومن تبعهم من محاولات للتشكيك في أمّيّة
النبي صلى الله عليه وسلم لا يصمد أمام حقيقة هامة ، وهي أن أهل مكة الذين
عاشوا معه وعلموا أخباره ، وعرفوا مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته ، قد أقرّوا
جميعا بأميّته ، والله الموفّق .
الشبكة الاسلامية