السَّــلامُ عَلَيْـُكـم وَرَحْمَــةُ الـلـهِ وَبَرَكَــاتُــهُ
كثرة الضحك
وهذه شكوى من ظاهرة كثرة الضحك بين الناس، وبخاصة الشباب يقول السائل:
مجالسنا التي نجلس فيها مع الإخوان والزملاء يكثر فيها الضحك كثرة مفرطة، وهذه الظاهرة تتفشى وتنتشر فما هو العلاج ؟.
الجواب:
إن علاج هذه الشكوى يأتي من جانبين: جانب علمي، وجانب عملي.
أما الجانب العلمي: فيضمن أمرين:
أولها: أن نعلم كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الضحك، فهو خير قدوة في ذلك وفي كل شيء.
فقد ورد في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يضحك إلا تبسماً رواه أحمد في المسند 5/97 وهو في صحيح الجامع 4861. في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت قليل الضحك. رواه أحمد في المسند 5/86 وهو في صحيح الجامع 4822. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً، حتى أرى منه لهواته وإنما كان يتبسم. رواه أبو داود رقم 5098
ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب) رواه ابن ماجه رقم 4193 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 506. وفي رواية: (فإن كثرة الضحك فساد القلب) وإن من التفريط بعد ذلك أن يركب المسلم ثبجاً يعلم أن فيه العطب.
هذا هو الجانب العملي في الحل بإيجاز.
وقبل الدخول في الجانب العملي لا بد أن نعلم أن الضحك ليس أمراً محرماً أو أن المسلم لا بد أن يكون عبوساً خشناً مكفهر الوجه ؛ فإن الضحك أمر جبلي طبعي: (وأنه هو أضحك وأبكى) ولكن المشكلة التي نحن بصدد علاجها والتحذير من آثارها.
- هي أن تكون المجالس مدوية بالقهقهات المتجاوبة.
- هي أن يُفسد المؤمن قلبه بكثرة الضحك وفغر الفم، بدلاً من أن يكون جاداً سليماً.
- هي أن يجعل الداعية كثرة إضحاك الناس وسيلة كما يزعم لكسب الناس، من أجل التأثير عليهم وإفادتهم، وما علم أنهم يلتفون حوله ليضحكوا فقط، وما أقل استفادتهم منه.
إن المشكلة هي أن يجعل بعض الناس كثرة الضحك متنفساً له من همومه وكروبه، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير، أذكر أن شاباً كان يعاني يوماً من هموم تخلفه في دراسته، ومشكلاته مع أهله، وغير ذلك، فخرج من بيته، فصادفه في الطريق أخ له، فقال: أين أنت ذاهب ؟ فقال: أنا مهموم مغموم، وسأذهب إلى فلان الفلاني، لكي يضحكني وينسيني أحزاني.. هكذا قال، وما شعر أن إضحاك هذا الشخص له إنما هو بمثابة المخدر، يُنسي المرء أتراحه ما دام تحت تأثيره، فإذا انتهى عادت إليه كما كانت.
وكان خليقاً ألا يغفل عن العلاج النبوي للهم والحزن والكرب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى صحيح الجامع 4703 وكان إذا كربه أمر قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) صحيح الجامع 4777 وفي الحديث الصحيح الآخر: كان إذا نزل به هم أو غم قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، الله ربي ولا أشرك به شيئاً) صحيح الجامع 4791.
وفي دعاء الهم والغم المشهور: (اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك.. الخ الحديث)
وهذه وطاءة لابد من الإلمام بها قبل الخوض في الجانب العملي في مداواة ظاهرة الإفراط في الضحك، ذلك الجانب الذي يمكن تحقيقه بوسائل منها:
1- تذكر الموت، والقبر، واليوم الآخر، وما فيه من الحساب، الصراط والنار، وسائر الأهوال، وتربية هذا التذكر بتدبر النصوص التي تصور هذه المشاهد، وبالقراءة في شرح تفاصيلها، وبمجالسة أهل الزهد والقلوب اللينة.
2- التأمل في واقع المسلمين، وما يعانون منه من ابتعاد عن الدين، وتخلف في جميع المجالات، وما يتعرضون له من قهر وإيذاء وإبادة شرسة، وما يحاك حولهم من تآمر عالمي، فإذا تأمل المسلم هذه الأحوال تأملاً عميقاً صادقاً، فلا بد أن يكون له أثر في ضحكه وبكائه.
3- أن يستشعر ثقل الأمانة الملقاة على عاتقه تجاه أمته، فإن أمته تتطلب جهوداً ضخمة لإنقاذهما من أوهاق التردّي والسقوط، فإذا جعل هذا الأمر همه فإنه سيمضي شُعلة من النشاط لإصلاح أهله وأصدقائه وأحبابه ومجتمعه بقدر المستطاع، ولن يجد وقتا للتهريج المقيت، والضحك الكثير والاهتمامات التافهة.
4- تجنب مخالطة الشخصيات الهزلية المعروفة بكثرة الإضحاك والتهريج، والابتعاد عن المجالس التي تكون فيها، مع محاولة النصح لهم ولمجالسيهم.
ومرت قبل قليل إشارة إلى أن بعض الدعاة قد يجعل الإضحاك وسيلة لكسب الناس، حتى قال بعض العامة أين الشيخ الذي يضحك ؟ نريد الشيخ الذي يضحك وهذه دركة نربأ بالأمة أن تهوي فيها، فإن دين الله عظيم متين: (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) (خذوا ما آتيناكم بقوة) وفي الحديث: (لو تعلمون ما أعلم ؟ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) لو أننا أدركنا حق الإدراك ماذا يراد منا، وماذا أمامنا، لما اكتحلت أجفاننا بنوم هنيء.
5- أن يجتهد في رد الضحك ما استطاع عن نفسه وعن غيره فقد يجتمع المجلس مع القوم تعودوا أن يكون غالب وقتهم ضحكاً وقهقهة، فعليه أولاً أن يكظم الضحك عن نفسه كما يرد التثاؤب، وثانياً أن يرشد الحاضرين ويُعينهم على أنفسهم، وهذا يحتاج إلى رجل جاد حازم لبق، والناس ولله الحمد فيهم خير كثير، واستعداداً للاستجابة لداعي الإصلاح والتقويم، وهذا الإرشاد يمكن أن تُسلك إليه سبل مختلفة: كأن تذكر لهم مساوئ الضحك والإضحاك، مثل أنه يقود إلى الكذب والاختلاق، حيث يضطر "المهرج" إذا لم يجد قصة أو حادثة حقيقة إلى صناعة قصص من نسج الخيال، ليجعلها مادة للإضحاك، وهذا الشخص قد توعده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم.. ويل له، ويل له) صحيح الجامع 7136. كما أن من مساوئه أنه يؤدي إلى اهتزاز الشخصية وسقوطها من
الأعين، فإن مُضحك القوم وإن ظهر له أنه ذو مكانة بينهم ليس إلا محتقراً لديهم، ولا يقدرونه ولا يوقرونه، وقل مثل ذلك في الذي لا تراه إلا مغرقاً من الضحك.
6- تغيير الموضوع الذي قاد إلى الضحك إلى موضوع آخر مفيد، فإذا رأيت أن الحاضرين قد تجاوزوا حدّ الاعتدال في الضحك، وأسلموا قيادهم لدواعيه، فتسلل إلى قلوبهم بالأسلوب المناسب، لنقلهم إلى عالم الجد واستثمار الوقت ؛ بقراءة في كتاب نافع، أو بطرح موضوع مهم للنقاش وإبداء الآراء، أو دعوة للاتفاق على عمل إصلاحي خيري، أو غير هذا أو ذاك من الأمور التي يحبها الله ويرضاها.
7- فإذا بلغ السيل الزبى، وجاوز الأمر حده، بأن أبى الجالسون إلا الإغراق في الضحك، والمضي في طريق الغفلة، فإن آخر العلاج الكي، قم من المجلس وفارقه، حماية لنفسك، ووقاية لقلبك من الفساد، بعد أن أديت ما عليك من واجب التوجيه والنصح، (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
بريد