السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبالوالدين إحسانا
كانت تنظر إليها وهي نائمة على السرير، وقد بدت على وجهها علامات الشحوب والإرهاق، وقد خطَّت سنوات عمرها على وجهها خطوطاً يصعب محوها.. نظرت إليها بحزن وخوف وقالت في نفسها: ياه.. كم أنتَ ضعيف أيها الإنسان.. تأتي إلى الحياة تصارعها أحياناً وتصرعك أحياناً أخرى، مصداقاً لقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
عادت في تفكيرها سنوات وسنوات.. وتذكَّرت والدتها النائمة في السرير أيام شبابها وقوتها.. تذكَّرت كيف تحمَّلت الكثير في سبيل تربيتها هي وإخوتها، وكيف وقفت مع والدها مكافحين معاً في الحياة يوم كان الكفاح يعني شيئاً لبناء الأسرة واستمرارها..
تذكَّرت أمَّها الراقدةَ أمامَها تعاني من الآلام ما تعاني كيف وقفت معها في طفولتها ذات يوم عندما مرضت عدة أشهر؛ حتى فُقِدَ الأمل في شفائها، ولكن أمها لم تفقد الأمل.. تذكرت رائحة القهوة والحلويات في أيام الأعياد، وكيف ضحَّتْ من أجل سعادتهم.. تذكَّرت صفحات عديدة من أيام طفولتها.. ابتسمت للحظات وهي تتذكر تلك الأيام الجميلة..
قارنتْ بين وضع أمها أيام شبابها وبعد أن كبرت وبدت عليها التغيرات الجسمية والعقلية والنفسية.. وقالت: يا رب، ماذا أفعل لأساعدها؟! أشعرُ بالعجز أمام آلامها؛ فالدواء لم يعد يجدي كثيراً في تخفيفها..
تحدَّثتْ في نفسها وقالت: غريب أمر هذه الحياة.. عندما كنا أطفالاً كانت معنا جميعاً في مراحل حياتنا؛ تسهر لراحتنا، وتخدم كل أفراد الأسرة بلا كلل أو ملل؛ طالبة من الله أن يحمينا ويرعانا، كم قامت الليل ساهرة تراجع معنا الامتحانات.. تعمل كالساعة وتوقظ كلاًّ منا في الوقت المحدد! كم حنت يدها تمسح عنا الأحزان وتشجعنا!! وكم وكم.. وها نحن جميعاً غير قادرين على أن نُخفِّف عنها آلامها!!!
تذكَّرتْ كلمات أمِّها: "بس تكبروا وتتخرجوا أنا وأبوكم رح نرتاح وبعدها نعيش حياتنا".. وتساءلتْ في نفسها عن مدى صحه هذا القول.. تُرى هل يرتاح الوالدان عندما تنتهي مسؤولياتهم في رعاية الأبناء؟!
قالت في نفسها: للأسف رحل والدي رحمه الله منذ سنوات.. وأكملتِ وحدكِ الطريقَ معنا.. وها هي الأيام والأحداث والأمراض تترك بصماتها على جميع أجزاء جسمك.. نظرتْ الى أمها بحنان ووجدت نفسها تُكرِّر قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 23-24].
هذه القصة تقودنا لأهم موضوع اجتماعي أسري وهو رعاية الآباء المُسنِّين.. فلكلٍّ منا والدان أو أحدهما على قيد الحياة، وقد يعاني أحدنا من جراء التغيرات التي تطرأ على حالتهم الصحية والعقلية والنفسية.. ومن شدة حبنا واحترامنا لهم قد نرفض الاعتراف بتلك التغيرات خاصة العقلية والنفسية منها، وقد يخطر ببال أحدنا أنه إذا اعترف بهذه التغيرات فإنه يكون قد عقَّ والديه!!
الإنسان ومراحله العمرية:
كما هو معروف علميّاً فإن جسم الإنسان يبدأ بالتقدم في العمر منذ اللحظة الأولى لولادته.. صحيح أنه ينمو ويكبر ولكنه يتقدم في العمر أيضاً ويصبح في كل لحظة أقرب للموت.. وفي كل مرحلة عمرية تظهر تغيرات جسمية وبيولوجية ونفسية.. ولعل مرحلتي الطفولة والشيخوخة من أكثر المراحل العمرية التي يحتاج فيها الإنسان إلى رعاية الآخرين..
الشيخوخة:
يرى بعض العلماء أن المُسنَّ هو من بلغ الستين فأكثر من العمر، على الرغم من أن الكثيرين ممن وصلوا الستين لم تبد عليهم علامات التقدم في العمر! في حين قد يصاب بأعراض الشيخوخة العديد من صغار السن!!
فالشيخوخة هي مرحلة تغير طبيعي من مراحل حياة الإنسان التي تبدأ فيها الوظائف الفسيولوجية والعقلية في التدهور بصورة أكثر وضوحاً مما كانت عليه في الفترات السابقة من العمر؛ نتيجة للتغيرات التي تطرأ على أنسجة الجسم وخلاياه.
وتلعب الوراثة والاستعداد العائلي والشخصي، وكذلك نمط الحياة ونوعيتها ورغدها دوراً في ظهور أعراض التقدم في العمر قبل الأوان عند بعض الأسر دون غيرها؛ فالأفراد الذين يتمتعون برغد العيش وتتوفر لهم الإمكانات المادية التي تسمح لهم بالتغذية المناسبة وممارسة النشاطات الرياضة وتناول العلاجات المناسبة يعملون على تأخير ظهور أعراض التقدم في العمر عندهم.
الشيخوخة والأمراض:
الشيخوخة من المراحل العمرية التي يحتاج فيها الإنسان إلى رعاية مَن حوله؛ بسبب الضعف الذي يطرأ على حالته الصحية والنفسية. ومن الأمراض التي تصيب الإنسان في هذه المرحلة:
- الأمراض الجسمية: كالتغيرات الصحية التي تصيب الجهاز العصبي، وأمراض القلب، والجلطات، وتصلُّب الشرايين، والمفاصل، والضغط، والسكر، وصعوبة التحكم في الجهاز البولي (سلس البول)، وهشاشة العظام عند النساء.. إلخ.
- ضعف الذاكرة، وفقدان القدرة على التعلم واستيعاب المعلومات الجديدة، والحاجة إلى وقت أطول لاستدعاء المعلومات الجديدة؛ نتيجة التغيرات التي تحدث في الدماغ مع تقدم العمر وتناقص وزن الدماغ وتناقص عدد الخلايا العصبية وضعف التروية الدموية للدماغ وغيرها من الأسباب. وقد ينسى المُسنُّ صلة القرابة لبعض أفراد العائلة، وقد يُكرِّر نفس القصص والأحاديث، ويستمر بالتحدث عن خبرات الماضي وذكرياته، ونجد أن الذاكرة قصيرة المدى تكون أقل فعالية بمعنى أن المُسنَّ قد ينسى ماذا حدث قبل فترة وجيزة!
- ضعف النظر والسمع.. إلخ.
الاضطرابات والتغيرات الشخصية والنفسية في الشيخوخة:
من التغيرات والاضطرابات النفسية التي تصيب المُسنَّ:
- نوبات البكاء والحزن بسبب رحيل الأبناء وابتعادهم وانشغالهم عن رعاية والديهم أو فقدان شريك العمر ورحيل الأصدقاء ومن هم في مثل عمره بالوفاة.
- صعوبة التحكُّم في الانفعالات، والعصبية والعناد وصلابة الرأي وتقلُّب المزاج.
- الشكوى والاعتراض وكثرة انتقاد الأصغر عمراً.
- الخوف من الوحدة، والخوف من الموت.
- الشك وتوهم حدوث الأشياء؛ فقد يعتقد المُسنُّ أن أشياءه سُرقت، ولكنه في الحقيقة يكون قد نسي أين وضعها.
- اضطرابات النوم؛ فعادة ما يقل معدل ساعات نوم المُسنِّ ويصاب بالأرق والقلق.
- الميل للعزلة الاجتماعية عند بعض المسنين، والابتعاد عن التفاعل مع الآخرين.
- التصرف بشكل غير مقبول اجتماعيّاً نتيجة خلل في الإدراك؛ مما يُسبِّب الإحراج للمحيطين بهم.
- الخرف والهذيان نتيجة تراجع وظائف الدماغ.
اكتئاب الشيخوخة:
يعاني العديد من المسنين من الاكتئاب، خاصة إذا كانت البيئة المحيطة تحتوي على العديد من المحفزات لحدوث الاكتئاب، وليست مسببات أساسية لحدوث الاكتئاب؛ فقد يحدث الاكتئاب بعد إجراء العمليات الجراحية والإصابة بالأمراض، أو نتيجة الآثار الجانبية لبعض الأدوية، أو نتيجة التفكير بالموت أو الشعور بالوحدة وإهمال الأهل للمسن.
مرض (الزهايمر):
من أكثر أنواع الخرف حدوثاً؛ فأكثر من (50%) من حالات الخرف تنتج عن الإصابة بهذا المرض، وتزيد نسبة الإصابة به مع التقدم في العمر؛ حيث تتراوح النسبة بعد سن الـ(65) بين (5-10%)، وترتفع إلى (50%) بعد سن الـ(85)، وأسبابه المباشرة مجهولة.
وهذا المرض أكثر شيوعاً عند النساء، ومن أعراضه: ضعف الذاكرة، تقلب المزاج وتغير الشخصية، أرق، عدم الاهتداء، تدهور في السلوك الاجتماعي، صعوبة التكلم، وعدم القدرة على عمل الأشياء.. وغالباً ما تستمر حالة التدهور حتى الوفاة. وهذه التغيرات تؤثر على الحياة العائلية والعملية والاجتماعية للمريض.
شيخوخة نشطة:
لا بد من الإشارة إلى أن الشيخوخة ليست كلها ضعفاً ومرضاً، ولا اكتئاباً وحزناً، وهي تختلف في أعراضها من شخص لآخر؛ فقد تضعف أعضاء الجسم وتقل القدرات الجسدية، ولكن قد تقوى في مقابلها الاحتياجات الفكرية والدينية والروحية.. فكم من قصة حكيمة تُروى على لسان الشيوخ العقلاء.. وكم من مشكلة معقدة حُلَّت نتيجة الحكمة وتجارب السنين التي لوَّنت الشعر الأسود ببياض الوقار.. وكم من إبداع فكري جاء عبر التفرغ للعمل بعد سنوات التقاعد..
لأن من العوامل التي تجنب المسن معاناة الشيخوخة أن تكون له اهتمامات ونشاطات متنوعة (فكرية، اجتماعية، رياضية..)، وأن يكون له أصدقاء من مختلف الأعمار، ولعل التواجد في المسجد خير نشاط.
وقد يكون الاستقلال الاقتصادي والمعيشي مفيداً إذا كان ذلك ممكناً؛ فالاعتمادية الزائدة قد تُشكِّل عبئاً على المسن ومن يرعاه؛ فكلما كان المسن أكثر قدرة على القيام برعاية نفسه والقيام بمتطلباته كان ذلك أجدى لصحته الجسدية والنفسية والعقلية؛ فقد أثبتت الدراسات أنه كلما زاد شعورالمسن بالحاجة إليه وأنه ما زال فاعلاً في الحياة وقادراً على العطاء ولو كان بسيطاً وأنه قادر على السيطرة على حياته وقراراته كان ذلك أجدى له، وكلما كان معتمداً على غيره وفاقداً للشعور بالحاجة إليه زادت احتمالية الإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية المؤدية إلى الاستسلام للموت في بعض الحالات.
وهنا يأتي دورالأبناء والأحفاد في تعزيز الحاجة للآباء؛ فرعاية المسنين لا تقتصر على توفير الاحتياجات المادية لهم من طعام وشراب وغير ذلك؛ ولذا قال تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}؛ فحاجتهم لحبِّنا ورعايتنا النفسية وتسليتهم لمنع نمو مشاعر الوحدة وعدم الحاجة لهم أهم بكثير من الحاجات المادية، فكم من قصة رويت عن سوء معاملة الوالدين المسنَّين سواء من الأبناء أو زوجات الأبناء والأحفاد..
قالت إحداهن: ابني يسكن في الطابق العلوي.. ولا أراه إلا إذا سمحت له زوجته.. وعندما يحضر يدّعي الانشغال.. أعرف أنه مغلوب على أمره!!
حق الآباء على الأبناء:
أمر الله تعالى بمصاحبة الوالدين بالمعروف وبِرِّهما، وجعل الله للوالدين منزلة عظيمة؛ فهذا من أعظم القربات، وأجلِّ الطاعات، وبفضل طاعتهما تتنزل الرحمات وتُكشف الكربات وتزاد البركات.
وفي العديد من الآيات الكريمات والأحاديث النبوية دلالات على ضرورة رعايتنا لهما والإحسان إليهما وبرهما وخصوصاً في كبرهما. قال تعالى: {وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]. وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حقَّ الوالدين مُقدَّماً على الجهاد في سبيل الله. جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أيُّ؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أيُّ؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله". وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه! قيل: مَنْ يا رسول الله؟! قال: مَنْ أدرك أبويه عند الكبر أحدِهما أوكليهما ثم لم يدخل الجنة.
ويكون بر الوالدين في حياتهما ببرهما وطاعتهما والإحسان إليهما، وبعد موتهما بأن يدعو لهما بالرحمة والمغفرة، وينَفِّذَ عهدهما، ويُكرمَ أصدقاءهما. والاستغفار لهما، وإيفاءٌ بعهودهما من بعد موتهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما.
عقوق الوالدين:
حذَّر الله تعالى من عقوق الوالدين، وعدم طاعتهما، وفعل ما لا يرضيهما من إيذاء ولو بكلمة (أف) أو بنظرة أو بإدخال الحزن إلى قلبهما لأيِّ سبب. قال علي رضي الله عنه: مَنْ أحزن والديه فقد عَقَّهُمَا. وجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العقوق وبين الشرك بالله، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين... (متفق عليه).
ويُعجِّل الله تعالى بعقوبة العاقِّ لوالديه في الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم: كل الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين؛ فإن الله يُعجِّله لصاحبه في الحياة قبل الممات (رواه البخاري).
قصه حقيقية:
قالت: كنت أذهب لرعاية والدتي المريضة والاعتناء بها بين الحين والآخر، وكان وضعي المادي بالكاد يكفيني وأسرتي، وأحياناً كنت أستصعب الذهاب بسبب تكلفة المواصلات.. وكنت كلما ذهبتُ لرعايتها -بفضل الله- تيسَّرت أموري المالية، وشعرت كأن معي آلاف الدنانير.. وفي مرحلة ما لم أستطع الذهاب لرعايتها، وكانت تلمُّ بي بضائقة مالية.. فذهبت ذات يوم لرعايتها، واعتذرت لها فدعت لي؛ فخرجتُ من عندها راضية، وشعرت بأن معي مالاً كثيراً.. جلستُ أفكر في نفسي وقلت: سبحان الله، كلما ذهبتُ لرعايتها شعرتُ ببركة ما رزقني الله، وكلما تعذَّر ذهابي إليها كانت أموري المالية تضيق!! فأدركت عندها أن الله يريد لي الخير بذهابي إليها ورعايتها، وها أنا أحاول جاهدة الذهاب لرعايتها قدر المستطاع؛ فبدعائها يُبارك الله في رزقي وذريتي.
كلمات أخيرة:
لعل أفضل ما يمكن أن نقدمه لآبائنا المسنين أن نتفهَّم التغيرات الفسيولوجية والصحية والنفسية والعقلية لهم، وهذا قد يُقدِّم لنا تفسيراً لتلك السلوكات التي يمارسونها ولا ندرك ما الدافع وراء القيام بها.. وربما يساعدنا على تفهم حاجاتهم المختلفة والطريقة التي يمكن أن نساعدهم بها.. فربما كانوا يحتاجون إلى كلمات حانية و(لَمَّة) عائلية وعبارت دعم وتشجيع.. أفضل ألف مرَّة من تلك الأدوية التي قد يدركون عدم فاعليتها نظراً لأن آلامهم النفسية والروحية قد تطغى على تلك التي لم يعد يجدي معها الدواء..
وبالوالدين إحسانا
كانت تنظر إليها وهي نائمة على السرير، وقد بدت على وجهها علامات الشحوب والإرهاق، وقد خطَّت سنوات عمرها على وجهها خطوطاً يصعب محوها.. نظرت إليها بحزن وخوف وقالت في نفسها: ياه.. كم أنتَ ضعيف أيها الإنسان.. تأتي إلى الحياة تصارعها أحياناً وتصرعك أحياناً أخرى، مصداقاً لقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
عادت في تفكيرها سنوات وسنوات.. وتذكَّرت والدتها النائمة في السرير أيام شبابها وقوتها.. تذكَّرت كيف تحمَّلت الكثير في سبيل تربيتها هي وإخوتها، وكيف وقفت مع والدها مكافحين معاً في الحياة يوم كان الكفاح يعني شيئاً لبناء الأسرة واستمرارها..
تذكَّرت أمَّها الراقدةَ أمامَها تعاني من الآلام ما تعاني كيف وقفت معها في طفولتها ذات يوم عندما مرضت عدة أشهر؛ حتى فُقِدَ الأمل في شفائها، ولكن أمها لم تفقد الأمل.. تذكرت رائحة القهوة والحلويات في أيام الأعياد، وكيف ضحَّتْ من أجل سعادتهم.. تذكَّرت صفحات عديدة من أيام طفولتها.. ابتسمت للحظات وهي تتذكر تلك الأيام الجميلة..
قارنتْ بين وضع أمها أيام شبابها وبعد أن كبرت وبدت عليها التغيرات الجسمية والعقلية والنفسية.. وقالت: يا رب، ماذا أفعل لأساعدها؟! أشعرُ بالعجز أمام آلامها؛ فالدواء لم يعد يجدي كثيراً في تخفيفها..
تحدَّثتْ في نفسها وقالت: غريب أمر هذه الحياة.. عندما كنا أطفالاً كانت معنا جميعاً في مراحل حياتنا؛ تسهر لراحتنا، وتخدم كل أفراد الأسرة بلا كلل أو ملل؛ طالبة من الله أن يحمينا ويرعانا، كم قامت الليل ساهرة تراجع معنا الامتحانات.. تعمل كالساعة وتوقظ كلاًّ منا في الوقت المحدد! كم حنت يدها تمسح عنا الأحزان وتشجعنا!! وكم وكم.. وها نحن جميعاً غير قادرين على أن نُخفِّف عنها آلامها!!!
تذكَّرتْ كلمات أمِّها: "بس تكبروا وتتخرجوا أنا وأبوكم رح نرتاح وبعدها نعيش حياتنا".. وتساءلتْ في نفسها عن مدى صحه هذا القول.. تُرى هل يرتاح الوالدان عندما تنتهي مسؤولياتهم في رعاية الأبناء؟!
قالت في نفسها: للأسف رحل والدي رحمه الله منذ سنوات.. وأكملتِ وحدكِ الطريقَ معنا.. وها هي الأيام والأحداث والأمراض تترك بصماتها على جميع أجزاء جسمك.. نظرتْ الى أمها بحنان ووجدت نفسها تُكرِّر قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 23-24].
هذه القصة تقودنا لأهم موضوع اجتماعي أسري وهو رعاية الآباء المُسنِّين.. فلكلٍّ منا والدان أو أحدهما على قيد الحياة، وقد يعاني أحدنا من جراء التغيرات التي تطرأ على حالتهم الصحية والعقلية والنفسية.. ومن شدة حبنا واحترامنا لهم قد نرفض الاعتراف بتلك التغيرات خاصة العقلية والنفسية منها، وقد يخطر ببال أحدنا أنه إذا اعترف بهذه التغيرات فإنه يكون قد عقَّ والديه!!
الإنسان ومراحله العمرية:
كما هو معروف علميّاً فإن جسم الإنسان يبدأ بالتقدم في العمر منذ اللحظة الأولى لولادته.. صحيح أنه ينمو ويكبر ولكنه يتقدم في العمر أيضاً ويصبح في كل لحظة أقرب للموت.. وفي كل مرحلة عمرية تظهر تغيرات جسمية وبيولوجية ونفسية.. ولعل مرحلتي الطفولة والشيخوخة من أكثر المراحل العمرية التي يحتاج فيها الإنسان إلى رعاية الآخرين..
الشيخوخة:
يرى بعض العلماء أن المُسنَّ هو من بلغ الستين فأكثر من العمر، على الرغم من أن الكثيرين ممن وصلوا الستين لم تبد عليهم علامات التقدم في العمر! في حين قد يصاب بأعراض الشيخوخة العديد من صغار السن!!
فالشيخوخة هي مرحلة تغير طبيعي من مراحل حياة الإنسان التي تبدأ فيها الوظائف الفسيولوجية والعقلية في التدهور بصورة أكثر وضوحاً مما كانت عليه في الفترات السابقة من العمر؛ نتيجة للتغيرات التي تطرأ على أنسجة الجسم وخلاياه.
وتلعب الوراثة والاستعداد العائلي والشخصي، وكذلك نمط الحياة ونوعيتها ورغدها دوراً في ظهور أعراض التقدم في العمر قبل الأوان عند بعض الأسر دون غيرها؛ فالأفراد الذين يتمتعون برغد العيش وتتوفر لهم الإمكانات المادية التي تسمح لهم بالتغذية المناسبة وممارسة النشاطات الرياضة وتناول العلاجات المناسبة يعملون على تأخير ظهور أعراض التقدم في العمر عندهم.
الشيخوخة والأمراض:
الشيخوخة من المراحل العمرية التي يحتاج فيها الإنسان إلى رعاية مَن حوله؛ بسبب الضعف الذي يطرأ على حالته الصحية والنفسية. ومن الأمراض التي تصيب الإنسان في هذه المرحلة:
- الأمراض الجسمية: كالتغيرات الصحية التي تصيب الجهاز العصبي، وأمراض القلب، والجلطات، وتصلُّب الشرايين، والمفاصل، والضغط، والسكر، وصعوبة التحكم في الجهاز البولي (سلس البول)، وهشاشة العظام عند النساء.. إلخ.
- ضعف الذاكرة، وفقدان القدرة على التعلم واستيعاب المعلومات الجديدة، والحاجة إلى وقت أطول لاستدعاء المعلومات الجديدة؛ نتيجة التغيرات التي تحدث في الدماغ مع تقدم العمر وتناقص وزن الدماغ وتناقص عدد الخلايا العصبية وضعف التروية الدموية للدماغ وغيرها من الأسباب. وقد ينسى المُسنُّ صلة القرابة لبعض أفراد العائلة، وقد يُكرِّر نفس القصص والأحاديث، ويستمر بالتحدث عن خبرات الماضي وذكرياته، ونجد أن الذاكرة قصيرة المدى تكون أقل فعالية بمعنى أن المُسنَّ قد ينسى ماذا حدث قبل فترة وجيزة!
- ضعف النظر والسمع.. إلخ.
الاضطرابات والتغيرات الشخصية والنفسية في الشيخوخة:
من التغيرات والاضطرابات النفسية التي تصيب المُسنَّ:
- نوبات البكاء والحزن بسبب رحيل الأبناء وابتعادهم وانشغالهم عن رعاية والديهم أو فقدان شريك العمر ورحيل الأصدقاء ومن هم في مثل عمره بالوفاة.
- صعوبة التحكُّم في الانفعالات، والعصبية والعناد وصلابة الرأي وتقلُّب المزاج.
- الشكوى والاعتراض وكثرة انتقاد الأصغر عمراً.
- الخوف من الوحدة، والخوف من الموت.
- الشك وتوهم حدوث الأشياء؛ فقد يعتقد المُسنُّ أن أشياءه سُرقت، ولكنه في الحقيقة يكون قد نسي أين وضعها.
- اضطرابات النوم؛ فعادة ما يقل معدل ساعات نوم المُسنِّ ويصاب بالأرق والقلق.
- الميل للعزلة الاجتماعية عند بعض المسنين، والابتعاد عن التفاعل مع الآخرين.
- التصرف بشكل غير مقبول اجتماعيّاً نتيجة خلل في الإدراك؛ مما يُسبِّب الإحراج للمحيطين بهم.
- الخرف والهذيان نتيجة تراجع وظائف الدماغ.
اكتئاب الشيخوخة:
يعاني العديد من المسنين من الاكتئاب، خاصة إذا كانت البيئة المحيطة تحتوي على العديد من المحفزات لحدوث الاكتئاب، وليست مسببات أساسية لحدوث الاكتئاب؛ فقد يحدث الاكتئاب بعد إجراء العمليات الجراحية والإصابة بالأمراض، أو نتيجة الآثار الجانبية لبعض الأدوية، أو نتيجة التفكير بالموت أو الشعور بالوحدة وإهمال الأهل للمسن.
مرض (الزهايمر):
من أكثر أنواع الخرف حدوثاً؛ فأكثر من (50%) من حالات الخرف تنتج عن الإصابة بهذا المرض، وتزيد نسبة الإصابة به مع التقدم في العمر؛ حيث تتراوح النسبة بعد سن الـ(65) بين (5-10%)، وترتفع إلى (50%) بعد سن الـ(85)، وأسبابه المباشرة مجهولة.
وهذا المرض أكثر شيوعاً عند النساء، ومن أعراضه: ضعف الذاكرة، تقلب المزاج وتغير الشخصية، أرق، عدم الاهتداء، تدهور في السلوك الاجتماعي، صعوبة التكلم، وعدم القدرة على عمل الأشياء.. وغالباً ما تستمر حالة التدهور حتى الوفاة. وهذه التغيرات تؤثر على الحياة العائلية والعملية والاجتماعية للمريض.
شيخوخة نشطة:
لا بد من الإشارة إلى أن الشيخوخة ليست كلها ضعفاً ومرضاً، ولا اكتئاباً وحزناً، وهي تختلف في أعراضها من شخص لآخر؛ فقد تضعف أعضاء الجسم وتقل القدرات الجسدية، ولكن قد تقوى في مقابلها الاحتياجات الفكرية والدينية والروحية.. فكم من قصة حكيمة تُروى على لسان الشيوخ العقلاء.. وكم من مشكلة معقدة حُلَّت نتيجة الحكمة وتجارب السنين التي لوَّنت الشعر الأسود ببياض الوقار.. وكم من إبداع فكري جاء عبر التفرغ للعمل بعد سنوات التقاعد..
لأن من العوامل التي تجنب المسن معاناة الشيخوخة أن تكون له اهتمامات ونشاطات متنوعة (فكرية، اجتماعية، رياضية..)، وأن يكون له أصدقاء من مختلف الأعمار، ولعل التواجد في المسجد خير نشاط.
وقد يكون الاستقلال الاقتصادي والمعيشي مفيداً إذا كان ذلك ممكناً؛ فالاعتمادية الزائدة قد تُشكِّل عبئاً على المسن ومن يرعاه؛ فكلما كان المسن أكثر قدرة على القيام برعاية نفسه والقيام بمتطلباته كان ذلك أجدى لصحته الجسدية والنفسية والعقلية؛ فقد أثبتت الدراسات أنه كلما زاد شعورالمسن بالحاجة إليه وأنه ما زال فاعلاً في الحياة وقادراً على العطاء ولو كان بسيطاً وأنه قادر على السيطرة على حياته وقراراته كان ذلك أجدى له، وكلما كان معتمداً على غيره وفاقداً للشعور بالحاجة إليه زادت احتمالية الإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية المؤدية إلى الاستسلام للموت في بعض الحالات.
وهنا يأتي دورالأبناء والأحفاد في تعزيز الحاجة للآباء؛ فرعاية المسنين لا تقتصر على توفير الاحتياجات المادية لهم من طعام وشراب وغير ذلك؛ ولذا قال تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}؛ فحاجتهم لحبِّنا ورعايتنا النفسية وتسليتهم لمنع نمو مشاعر الوحدة وعدم الحاجة لهم أهم بكثير من الحاجات المادية، فكم من قصة رويت عن سوء معاملة الوالدين المسنَّين سواء من الأبناء أو زوجات الأبناء والأحفاد..
قالت إحداهن: ابني يسكن في الطابق العلوي.. ولا أراه إلا إذا سمحت له زوجته.. وعندما يحضر يدّعي الانشغال.. أعرف أنه مغلوب على أمره!!
حق الآباء على الأبناء:
أمر الله تعالى بمصاحبة الوالدين بالمعروف وبِرِّهما، وجعل الله للوالدين منزلة عظيمة؛ فهذا من أعظم القربات، وأجلِّ الطاعات، وبفضل طاعتهما تتنزل الرحمات وتُكشف الكربات وتزاد البركات.
وفي العديد من الآيات الكريمات والأحاديث النبوية دلالات على ضرورة رعايتنا لهما والإحسان إليهما وبرهما وخصوصاً في كبرهما. قال تعالى: {وَاعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]. وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حقَّ الوالدين مُقدَّماً على الجهاد في سبيل الله. جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أيُّ؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أيُّ؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله". وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه! قيل: مَنْ يا رسول الله؟! قال: مَنْ أدرك أبويه عند الكبر أحدِهما أوكليهما ثم لم يدخل الجنة.
ويكون بر الوالدين في حياتهما ببرهما وطاعتهما والإحسان إليهما، وبعد موتهما بأن يدعو لهما بالرحمة والمغفرة، وينَفِّذَ عهدهما، ويُكرمَ أصدقاءهما. والاستغفار لهما، وإيفاءٌ بعهودهما من بعد موتهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما.
عقوق الوالدين:
حذَّر الله تعالى من عقوق الوالدين، وعدم طاعتهما، وفعل ما لا يرضيهما من إيذاء ولو بكلمة (أف) أو بنظرة أو بإدخال الحزن إلى قلبهما لأيِّ سبب. قال علي رضي الله عنه: مَنْ أحزن والديه فقد عَقَّهُمَا. وجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العقوق وبين الشرك بالله، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين... (متفق عليه).
ويُعجِّل الله تعالى بعقوبة العاقِّ لوالديه في الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم: كل الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين؛ فإن الله يُعجِّله لصاحبه في الحياة قبل الممات (رواه البخاري).
قصه حقيقية:
قالت: كنت أذهب لرعاية والدتي المريضة والاعتناء بها بين الحين والآخر، وكان وضعي المادي بالكاد يكفيني وأسرتي، وأحياناً كنت أستصعب الذهاب بسبب تكلفة المواصلات.. وكنت كلما ذهبتُ لرعايتها -بفضل الله- تيسَّرت أموري المالية، وشعرت كأن معي آلاف الدنانير.. وفي مرحلة ما لم أستطع الذهاب لرعايتها، وكانت تلمُّ بي بضائقة مالية.. فذهبت ذات يوم لرعايتها، واعتذرت لها فدعت لي؛ فخرجتُ من عندها راضية، وشعرت بأن معي مالاً كثيراً.. جلستُ أفكر في نفسي وقلت: سبحان الله، كلما ذهبتُ لرعايتها شعرتُ ببركة ما رزقني الله، وكلما تعذَّر ذهابي إليها كانت أموري المالية تضيق!! فأدركت عندها أن الله يريد لي الخير بذهابي إليها ورعايتها، وها أنا أحاول جاهدة الذهاب لرعايتها قدر المستطاع؛ فبدعائها يُبارك الله في رزقي وذريتي.
كلمات أخيرة:
لعل أفضل ما يمكن أن نقدمه لآبائنا المسنين أن نتفهَّم التغيرات الفسيولوجية والصحية والنفسية والعقلية لهم، وهذا قد يُقدِّم لنا تفسيراً لتلك السلوكات التي يمارسونها ولا ندرك ما الدافع وراء القيام بها.. وربما يساعدنا على تفهم حاجاتهم المختلفة والطريقة التي يمكن أن نساعدهم بها.. فربما كانوا يحتاجون إلى كلمات حانية و(لَمَّة) عائلية وعبارت دعم وتشجيع.. أفضل ألف مرَّة من تلك الأدوية التي قد يدركون عدم فاعليتها نظراً لأن آلامهم النفسية والروحية قد تطغى على تلك التي لم يعد يجدي معها الدواء..
موضوع من مجلة