السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإدغام الكبير في رواية حفص
الإدغام الكبير: هو إدغام حرفٍ متحركٍ بآخر متحرك فينطق بحرفٍ كالثاني مشدداً. ويكون في المتماثلين نحو: (قال لوالديه)؛ فتقرأ: (قالِّوالديه). وفي المتقاربين نحو: (يريد ظُلماً)؛ فتقرأ: (يُريظُّلْماً). وفي المتجانسين نحو: (بعد توكيدها)؛ فتقرأ: (بَعْتَّوكيدها).
وفي سبب تسمية هذا النوع من الإدغام بالكبير أقوال:
الأول: لكثرة وقوعه؛ إذ الحركة أكثر من السّكون.
الثاني: لتأثيره في إسكان المتحرك قبل إدغامه؛ لذا فهو أزْيَدُ عملاً.
الثالث: لما فيه من الصعوبة.
الرابع: لشموله أنواع المتماثلين والمتجانسين والمتقاربين.
والغاية منه: طلب التخفيف. وشرطه أن يلتقي الحرفان خطاً ولفظاً نحو: (إنه هو )، (إنك كنت). أما إذا كان التلاقي لفظاً فقط فلا إدغام حينئذ نحو: (أنا النذير). وسببه: التماثل أو التجانس أو التقارب. وله موانع يمكن الاطلاع عليها في كتب القراءات (*).
ولتوضيح هذا الحكم يلزم تقسيمه إلى نوعين هما:
الأول: الكلمات التي ورد فيها الخلاف بين الإظهار والإدغام ورواها حفص بالإدغام بينما رواها واحد أو أكثر بالإظهار، أو الكلمات التي أجمع القراء -بما فيهم حفص- على إدغام حرفين متحركين فيها نحو: (نعمّا، تأمنّا).
الثاني: الكلمات التي ورد فيها الخلاف بين الإظهار والإدغام، ورواها حفص بالإظهار بينما رواها واحد أو أكثر بالإدغام. وذلك إمّا أن يكون في كلمات فرشية منتشرة في سور القرآن الكريم، وإما أن يكون في أصول مطّردة كثيرة الدوران كقواعد يقاس عليها.
النوع الأول:
هذا النوع رأينا أن نضع له ضابطاً نتحرى بموجبه كل كلمة أو موضع يتضمن حرفين متجاورين (خَطّاً) أو (خَطّاً ولفظاً) وقد رواهما حفص بالإدغام بينما رواهما واحد أو أكثر بالإظهار، ويلحق بذلك الحرف الواحد المضعّف (المُشَدَّد)، والذي هو عبارة عن حرفين مدغمين كما في (يرتدّ، يمدّكم) إذ الأصل: (يرتدد، يمددكم)، (أتحاجونّي، يخصّمون) إذ الأصل: (أتحاجونني، يختصمون)، ومثل ذلك المتماثلين المدغمين (كحرفٍ مضعف) بعد إعلال الإبدال كما في (وادّكر، ادّعى) إذ الأصل: (واذتكر، ادتعى) على وزن افتعل من (ذَكَرَ، دَعَى) جرى عليهما الإعلال بإبدال التاء دالاً ثم أدغمت فيها الذال من (واذتكر) وأدغمت فيها الدال من (ادتعى).
وجملة ما ظهر لنا من هذا النوع ثمانية ألفاظ هي:
1. (يرتدّ) من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) (المائدة: 54). قرأ المدنيان (نافع وأبو جعفر) وابن عامر الشامي بفك إدغام الدالين (يرتدد) بينما قرأ الباقون ومنهم حفص عن عاصم بإدغام هذين الدالين.
ويلاحظ أن الفعل (يرتدد) مجزوم بأداة الشرط (مَنْ) وهذا يعني أن الدال الأولى مكسورة والثانية ساكنة للجزم فذلك من نوع المطلق والذي تقضي القواعد بإظهاره إجماعاً ولكن الجزم هنا عارض بسبب الشرط، ومعلوم أنه لا إدغام في نحو: (يَمْسَسْهم)، (أَقْرَرْتم)، (شَقَقْنا)، (صَبَبْنا).
2. (حّيَّ) من قوله تعالى: (ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيى من حيَّ عن بينة وإن الله لسميع عليم) (الأنفال:42). قرأ كلٌّ من أبي عمرو البصري وابن عامر الشامي وحمزة والكسائي وابن كثير من رواية قنبل وعاصم من رواية حفص -قرأوا- بالإدغام (حيَّ) بينما قرأ الباقون (حَيِيَ) بياءين على الإظهار (الياء الأولى مكسورة والياء الثانية مفتوحة).
3. (تأمّنا) من قوله تعالى: (قالوا يا أبانا مالكَ لا تأمنَّا على يوسف) (يوسف:11). قرأ جميع الأئمة بإدغام النونين في هذه الكلمة والأصل أن تكون (تأمنُنَا) مؤلفة من الفعل (تأمن) و(نا) ضمير المتكلمين، وقد اندرج ما رواه حفص عن عاصم مع هذا الإجماع. وهناك خلاف يسير في كيفية أداء هذا الإدغام؛ فقد قرأ أبو جعفر بالإدغام المحض من غير روم ولا إشمام، والباقون بالإدغام مع جواز الروم والإشمام، وكلٌّ على أصله من حيث إبدال الهمزة أو تحقيقها.
4. (مكنِّي) من قوله تعالى: (قال ما مكنِّي فيه ربي خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) (الكهف: 95). قرأ ابن كثير: (مكنني) بفكّ إدغام النونين أي بالإظهار، وقرأ الباقون بالإدغام أي بنون واحدة مشددة. ويلاحظ اندراج حفص مع المدغِمين.
5. (ليأتينِّي) من قوله تعالى: (لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتينِّي بسلطان مبين) (النمل: 21). قرأ ابن كثير: (أو ليأتينني) بنونين على الإظهار، وقرأ الباقون بإدغام النونين. ولا يخفى أن حفصاً من المدغِمين.
6. (تأمرونّي) من قوله تعالى: (قل أفغير الله تأْمرونِّي أعْبُدُ أيها الجاهلون) (الزمر: 64). قرأ ابن عامر الشامي بنونين على الإظهار، وقرأ المدنيان (نافع وأبو جعفر) بنون واحدة مكسورة خفيفة، وقرأ الباقون ومنهم حفص بإدغام النونين فتكون نوناً واحدة مشددة، ويلزم معها مدُّ الواو مدّاً مشبعاً للساكنين، وكلٌّ على أصله بالنسبة لياء الإضافة (ياء المتكلم) من حيث فتحها أو إسكانها.
7. (أَتُحَاجُّونِّي) من قوله تعالى: (وحاجَّهُ قومُهُ قال أتحاجونّي في الله وقد هدان) (الأنعام: 80). قرأ المدنيان (نافع وأبو جعفر) وكذلك ابن عامر الشامي بخُلفٍ عن هشام بنون خفيفة (أتحاجوني)، وقرأ الباقون ومنهم حفص بنون مشددة هي عبارة عن إدغام نون الفعل الذي هو من صيغ الأفعال الخمسة مع نون الوقاية التي تسبق ياء المتكلم ليسهل أداؤها كما تقول: (يكرمني، يطعمني، يرحمني)؛ إذ لا يُسْتساغ لغةً أن تقول: (يُكرمُي، يُطعمُي، يَرْحَمُي). ولهذا سميت نون الوقاية أي للوقاية من هذا العُسْر في النطق والذي لا يستقيم إلا بوجود هذه النون.
ملاحظة:لم ترسم هذه الكلمة بنونين في المصاحف ولم يقرأها أحد بنونين مظهرتين، ولهذا لا نعجب لو أن أحداً استبعدها عن باب الإدغام الكبير وذلك وجيه، إلا أننا أدرجناها هنا بسبب وجود من يقرأ بالتخفيف في مقابل رواية حفص، والتي تقرأ بموجبها بالتشديد، ويلزم معه مدّ الواو مدّاً مشبعاً.
8. (نعمَّا) في موضعيها: الأول في قوله تعالى: (إن تُبْدُوا الصدقات فَنِعّما هي) (البقرة: 271)، والثاني في الآية (58) من سورة النساء من قوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً). وأصل هذا اللفظ (نِعْمَ مَا) وقد رسمت موصولة هكذا (نعمّا) وأجمع القراء على إدغام الميمين، ولكن الخلاف بينهم حاصل في حركتي النون والعين؛ فقد قرأ ابن عامر الشامي وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون وكسر العين (نَعِمّا)، وقرأ قالون وأبو عمرو البصري وشعبة بكسر النون، وبوجهين في حركة العين هما: إسكانها أو اختلاس كسرتها، وقرأ ابن كثير ويعقوب وورش وحفص بكسر النون والعين.
والإجماع على إدغام الميمين في (نعم ما) يشبه الإجماع على إدغام النونين في (تأمننا)؛ إذ رسمت (نِعمّا) بميم واحدة مشددة ورسمت (تأمنّا) بنون واحدة مشددة، لكن أصل هذه (نِعْمَ ما) وأصل تلك (تأمننا). والله تعالى أعلم.
ما يلحق بالإدغام الكبير:
ونعني بذلك: إلحاق ما فيه حرف مشدّد ناتج عن إدغام مثلين كبير، أو أن الأصل أنه بدل حرفين، أو أنه ناتج عن إدغام حرفين بعد طروء إعلال الإبدال على أحدهما كما سنوضحه في الكلمات التالية -مع ملاحظة أننا ألحقناها بالباب لأن من القراء من قرأها بالتخفيف بينما رواها حفص بالتشديد وهو الذي عندنا بمعنى الإدغام-:
الكلمة الأولى: (أمن لا يَهِدِّي) من قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبَعَ أمّن لا يَهِدِّي إلا أن يُهْدى) (يونس: 35). قرأ حمزة والكسائي (أمن لا يَهْدي) بفتح الياء وإسكان الهاء وكسر الدال من غير تشديد، وقرأ الباقون ومنهم حفص عن عاصم بتشديد الدال مكسورة، ولكن اختلفوا في حركة الهاء بين الفتح والإسكان والكسر والفتحة المختلسة، أما رواية حفص فبفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال مكسورة لمجاورتها حرف الياء الذي بعدها.
والكلمة أصلها (يَهْتَدي) أبدلت التاء دالاً ثم أدغمت في الدال بعدها فحصل تجاور ساكنين الأول الهاء والثاني سكون عارض الإدغام فيلزم مع ذلك تحريك الساكن الأول وهو الهاء، فرواها حفص بالكسر على قاعدته في التقاء الساكنين، وقرئت الدال مشددة مكسورة لمجاورة الياء.
الكلمة الثانية: (يَخِصِّمون) من قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحةً واحدةً تأخذهم وهم يخصّمون) (يس: 49). أصلها: (يَخْتَصِمُون) أبدلت التاء صاداً ثم أدغمت في مثيلتها فحصل تجاور ساكنين: الأول الخاء والثاني سكون الإدغام؛ فيلزم تحريك الساكن الأول وهو الخاء، فرواها حفص بالكسر على أصله في التقاء الساكنين، وقرئت الصاد مشددة مكسورة (حركتها الأصلية).
هذا وسبب إدراج هذه الكلمة هنا هو أن واحداً من القراء هو حمزة يقرأها بالتخفيف (يَخْصِمون) أي بسكون الخاء وصاد خفيفة مكسورة. والضابط الذي اتبعناه هو إدراج أية كلمة رواها واحد على الأقل بالتخفيف بينما رواها حفص بالتشديد أي بالإدغام.
والكلمتان (يَهِدّي، يخصّمون) تكونان بعد إعلال الإبدال وقبل الإدغام (يَهْدَدِي، يَخْصَصِمُون) فتجاور في كل منهما حرفان متحركان؛ وذلك سبب إلحاقهما بالإدغام الكبير. والله تعالى أعلم.
الكلمة الثالثة: (لا يَسَّمَّعون) من قوله تعالى: (لا يسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب) (الصافات: . قرأ الكوفيُّون ومنهم حفص بتشديد السّين والميم (يسَّمَّعون)، وقرأ الباقون بالتخفيف فيهما (يَسْمَعون). أبدلت التاء سيناً ثم أدغمت في السين بعدها وهي قبل الإدغام (يَسَسَمَّعون) ثم بعد الإدغام أصبحت (يسَّمَّعون)، وهذا الإعلال لغويّاً وجائز. ومن أمثلته زيادة على ما ذكرناه: (واصطبر، واصطنعتك، أطَّلَع) أصلها: (واصْتَبِرْ، واصْتَنَعْتك، اطْتَلَع) وبإعلال الإبدال أصبحت: (واصطبر، واصطنعتك، أطّلع) ولا خلاف فيهن بين القراء.
الكلمة الرابعة: (لِيَذَّكَّروا) من قوله تعالى: (ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذَّكَّرُوا وما يزيدهم إلا نفوراً) (الإسراء: 41). قرأ حمزة والكسائي وخلف بتخفيف الذال والكاف (ليذْكروا)، وقرأ الباقون ومنهم حفص بتشديد الحرفين الذال والكاف، والأصل: (ليتذكروا)، فأبدلت التاء ذالاً ثم أدغمت في مثيلتها إدغاماً كبيراً؛ فهي بالإبدال (ليَذَذَكروا) وهي بالإدغام (ليذَّكَّروا).
الخامسة والسادسة: (المُصَّدِّقين والمصَّدَِقات) من قوله تعالى: (إن المصَّدِّقين والمصَّدِّقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يُضَاعَفُ لهم ولهم أجرٌ كريم) (الحديد: 18). قرأ ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما (المصَدِّقين والمصَدِّقات)، وقرأ الباقون ومنهم حفص بتشديد الصاد والدال في الكلمتين إذ الأصل: (المتصدقين والمتصدقات)، أصبحت بالإعلال والإدغام (المصَّدِّقين والمصَّدِّقات)، وبسبب وجود الخلاف في القراءة أدرجناها في هذا الباب، وأما ما اتفق عليه فلم نذكره مثل: (يصَّدَّعون، أطَّلَعَ، فأطَّلِعُ، وادَّكَرَ، ليَدَّبَّروا، مُدَّكِر، فأصَّدَّق، يطَّوَّف، اطَّيَّرْنا، يشَّقَّق، ليدَّبَّروا). والله تعالى أعلم.
الكلمة السابعة: (يَصَّعَّدُ) من قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حَرَجاً كأنما يصَّعَّدُ في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) (الأنعام: 125). قرأها ابن كثير (يَصْعَدُ) بسكون الصاد وتخفيف العين، وقرأها شعبة (يصَّاعد) بتشديد الصاد وزيادة ألف بعدها وتخفيف العين، وقرأ الباقون ومنهم حفص (يَصَّعَّدُ) بتشديد الصاد والعين. وقراءة التشديد تدلّ على إدغام إذ الأصل (يتصعَّد)، ثم أبدلت التاء صاداً (يصَصَعَّد)، ثم أدغمت هذه الصاد في مثيلتها لتقرأ (يصَّعَّد).
النوع الثاني:
وهو ما أظهره حفص بينما أدغمه واحد أو أكثر من أصحاب القراءات المتواترة، وذلك كثير نذكر منه ما يلي:
1. جميع ما ورد في باب الإدغام الكبير من قراءة أبي عمرو البصري أو يعقوب أو حمزة أو غيرهم، نحو: (قال لأبيه)، (من بعد ذلك)، (جاء أمر ربك)، (يعلم ما).
2. تاءات البزي في روايته عن ابن كثير، نحو: (ولا تنابزوا)، (ولا تفرقوا)، (ولا تيمموا الخبيث)، (ولا تجسسوا)، (إذ تلقّونه)، (وقبائل لتعارفوا).
3. كلمات فرشية نذكر منها:
•(وأن تَصَدّقوا) (البقرة:280): قرأها الجميع ما عدا عاصم بتشديد الصاد. وهي تدل على أن الأصل (وأن تتصدقوا)، ثم أبدلت التاء الثانية صاداً (تصَصَدّقوا)، ثم أدغمت الصاد المبدلة في الصاد المرسومة فأصبح اللفظ: (وأن تصَّدَّقوا).
•(تذكَّرون) حيث وردت: قرأها الجميع ما عدا حفص والأصحاب بتشديد الذال لتدل على أن الأصل (تتذكرون)، ثم أبدلت التاء الثانية ذالاً، ثم أدغمت الذال في مثيلتها فأصبح اللفظ عندهم (تذَّكَّرون).
•(تَظَاهرُون) (البقرة:85): قرأ الجميع ما عدا عاصم والأصحاب بتشديد الظاء، والتعليل (تتظاهرون)، ثم الإبدال (تظظاهرون)، ثم الإدغام (تظّاهرون).
•(تُظاهرون) (الأحزاب:4): قرأ الشامي بفتح التاء وتشديد الظاء، وقرأ عاصم بضم التاء وتخفيف الظاء، وقرأ المدنيان والبصريان والمكي بفتح التاء وتشديد الظاء وحذف الألف (تَظَّهرُون)، وقرأ الباقون بفتح التاء وتخفيف الظاء. وقراءة التشديد تعني إعلال الإبدال ثم الإدغام.
•(يُظاهرون) موضعان بالمجادلة (2، 3): قرأ عاصم بالتخفيف للظاء مع ضم الياء وألف بعد الظاء، وقرأ نافع والبصريان والمكي بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مع حذف الألف، وقرأ الباقون بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعد الظاء. وقراءة التشديد تعني الإدغام كما مرّ آنفاً.
•(تساءلون) (النساء:1): قرأ الكوفيون بتخفيف السين، وقرأ الباقون بالتشديد إذ فيها الإعلال (تتساءلون) ثم الإبدال (تسَسَاءلون) ثم الإدغام (تسَّاءلون).
•(تُسَوّى) (النساء:42): قرأ المدنيان والشامي بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ الأصحاب بفتح التاء وتخفيف السين، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين. وقراءة تشديد السين تدل على الإدغام بعد إعلال الإبدال كما مرّ آنفاً.
•(لا تعْدوا في السبت) (النساء:154): قرأ المدنيان بتشديد الدال، وقرأ الباقون ومنهم حفص بتخفيف الدال. وقراءة التشديد تدل على الإدغام بعد إعلال الإبدال إذ الأصل عندهم (لا تعتدوا) فأبدلت التاء الثانية دالاً (لا تعْدَدُوا) ثم أدغمت الدال الأولى في الدال الثانية (لا تعْدُّوا)، وقد قرأ أبو جعفر المدني بتسكين العين، وروى قالون الوجهين في العين: الإسكان والاختلاس لحركة الفتح، وروى ورش بفتح العين.
•(فما اسطاعوا) (الكهف:97): قرأها حمزة بتشديد الطاء، وقرأ الباقون بتخفيفها، وقراءة حمزة تدل على الإدغام إذ هي عنده (استطاعوا) فأبدلت التاء طاءً (اسططاعوا) ثم أدغمت الطاء الأولى في الثانية (اسطّاعوا).
•(تَشَقَّقُ) (الفرقان:25): قرأ المدنيان والمكي والشامي ويعقوب بتشديد الشين، وقرأ الباقون بالتخفيف. وقراءة التشديد تدل على الإدغام إذ الأصل (تتشقق) فأبدلت التاء الثانية شيناً (تششقق) ثم أدغمت الشين الأولى في الثانية. ومثل ذلك موضع سورة (ق) آية (44).
•(تُساقِط) (مريم:25): قرأ يعقوب (يَسَّقاط) بياء مفتوحة ثم بتشديد السين، وروى حفص بضم التاء وتخفيف السين، وقرأ حمزة بتاء مفتوحة وتخفيف السين، وقرأ الباقون بتاء مفتوحة مع تشديد السين. وقراءة التشديد تدل على الإدغام بعد إعلال الإبدال كما مرّ.
•(أتمدونن) (النمل:36): قرأها حمزة ويعقوب (أتمدونِّي) بإدغام النونين، وقرأها الباقون بنونين، ومنهم من يثبت ياء الإضافة الزائدة على الرسم؛ فابن كثير يثبتها وصلاً ووقفاً، بينما يثبتها المدنيان والبصري في حال الوصل فقط. ولأجل قراءة الإدغام عند حمزة ويعقوب رأينا أن ندرج الكلمة في هذا الباب.
•(ثم تتفكروا...) (سبأ:46): رواها رويس عن يعقوب (ثم تَّفكروا) بإدغام التاء الأولى في الثانية، بينما رواها حفص والباقون بفك الإدغام.
•(أتعدانني) (الأحقاف:17): رواها هشام عن ابن عامر الشامي بإدغام النونين (أتعدانِّي)، وقرأها الباقون بفك الإدغام (أتعدانني)، ولكن هناك خلاف في ياء الإضافة بين الفتح والإسكان؛ فقرأها المدنيان والمكي بالفتح، وقرأ الباقون بالإسكان.
•(ربّك تتمارى) (النجم:55): قرأها يعقوب بإدغام التاءين في حال وصل الكلمتين (ربك تمَّارى)، وقرأ الباقون بفك الإدغام أي إظهار التاءين، أما عند البدء بكلمة (تتمارى) فلا بد من إظهار التاءين للجميع.
•(تزكّى) (النازعات:18): قرأ المدنيان والمكي ويعقوب بتشديد الزاي (تزّكَّى)، وأصلها (تتزكى) فأبدلت التاء الثانية زاياً ثم أدغمت في الزاي الثانية، وأما حفص والباقون فقد قرأوها بتخفيف الزاي وتشديد الكاف فقط.
•(تصدّى) (عبس:6): قرأها المدنيان والمكي بتشديد الصاد إضافة إلى تشديد الدال، وقرأ الباقون ومنهم حفص بتخفيف الصاد وتشديد الدال فقط. وقراءة التشديد تدل على أصل اللفظ (تتصدى) بتاءين ثم أبدلت التاء الثانية دالاً وأدغمت في الدال بعدها لتصبح (تصَّدَّى).
الشيخ عبد الرحمن جبريل
الإدغام الكبير في رواية حفص
الإدغام الكبير: هو إدغام حرفٍ متحركٍ بآخر متحرك فينطق بحرفٍ كالثاني مشدداً. ويكون في المتماثلين نحو: (قال لوالديه)؛ فتقرأ: (قالِّوالديه). وفي المتقاربين نحو: (يريد ظُلماً)؛ فتقرأ: (يُريظُّلْماً). وفي المتجانسين نحو: (بعد توكيدها)؛ فتقرأ: (بَعْتَّوكيدها).
وفي سبب تسمية هذا النوع من الإدغام بالكبير أقوال:
الأول: لكثرة وقوعه؛ إذ الحركة أكثر من السّكون.
الثاني: لتأثيره في إسكان المتحرك قبل إدغامه؛ لذا فهو أزْيَدُ عملاً.
الثالث: لما فيه من الصعوبة.
الرابع: لشموله أنواع المتماثلين والمتجانسين والمتقاربين.
والغاية منه: طلب التخفيف. وشرطه أن يلتقي الحرفان خطاً ولفظاً نحو: (إنه هو )، (إنك كنت). أما إذا كان التلاقي لفظاً فقط فلا إدغام حينئذ نحو: (أنا النذير). وسببه: التماثل أو التجانس أو التقارب. وله موانع يمكن الاطلاع عليها في كتب القراءات (*).
ولتوضيح هذا الحكم يلزم تقسيمه إلى نوعين هما:
الأول: الكلمات التي ورد فيها الخلاف بين الإظهار والإدغام ورواها حفص بالإدغام بينما رواها واحد أو أكثر بالإظهار، أو الكلمات التي أجمع القراء -بما فيهم حفص- على إدغام حرفين متحركين فيها نحو: (نعمّا، تأمنّا).
الثاني: الكلمات التي ورد فيها الخلاف بين الإظهار والإدغام، ورواها حفص بالإظهار بينما رواها واحد أو أكثر بالإدغام. وذلك إمّا أن يكون في كلمات فرشية منتشرة في سور القرآن الكريم، وإما أن يكون في أصول مطّردة كثيرة الدوران كقواعد يقاس عليها.
النوع الأول:
هذا النوع رأينا أن نضع له ضابطاً نتحرى بموجبه كل كلمة أو موضع يتضمن حرفين متجاورين (خَطّاً) أو (خَطّاً ولفظاً) وقد رواهما حفص بالإدغام بينما رواهما واحد أو أكثر بالإظهار، ويلحق بذلك الحرف الواحد المضعّف (المُشَدَّد)، والذي هو عبارة عن حرفين مدغمين كما في (يرتدّ، يمدّكم) إذ الأصل: (يرتدد، يمددكم)، (أتحاجونّي، يخصّمون) إذ الأصل: (أتحاجونني، يختصمون)، ومثل ذلك المتماثلين المدغمين (كحرفٍ مضعف) بعد إعلال الإبدال كما في (وادّكر، ادّعى) إذ الأصل: (واذتكر، ادتعى) على وزن افتعل من (ذَكَرَ، دَعَى) جرى عليهما الإعلال بإبدال التاء دالاً ثم أدغمت فيها الذال من (واذتكر) وأدغمت فيها الدال من (ادتعى).
وجملة ما ظهر لنا من هذا النوع ثمانية ألفاظ هي:
1. (يرتدّ) من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) (المائدة: 54). قرأ المدنيان (نافع وأبو جعفر) وابن عامر الشامي بفك إدغام الدالين (يرتدد) بينما قرأ الباقون ومنهم حفص عن عاصم بإدغام هذين الدالين.
ويلاحظ أن الفعل (يرتدد) مجزوم بأداة الشرط (مَنْ) وهذا يعني أن الدال الأولى مكسورة والثانية ساكنة للجزم فذلك من نوع المطلق والذي تقضي القواعد بإظهاره إجماعاً ولكن الجزم هنا عارض بسبب الشرط، ومعلوم أنه لا إدغام في نحو: (يَمْسَسْهم)، (أَقْرَرْتم)، (شَقَقْنا)، (صَبَبْنا).
2. (حّيَّ) من قوله تعالى: (ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيى من حيَّ عن بينة وإن الله لسميع عليم) (الأنفال:42). قرأ كلٌّ من أبي عمرو البصري وابن عامر الشامي وحمزة والكسائي وابن كثير من رواية قنبل وعاصم من رواية حفص -قرأوا- بالإدغام (حيَّ) بينما قرأ الباقون (حَيِيَ) بياءين على الإظهار (الياء الأولى مكسورة والياء الثانية مفتوحة).
3. (تأمّنا) من قوله تعالى: (قالوا يا أبانا مالكَ لا تأمنَّا على يوسف) (يوسف:11). قرأ جميع الأئمة بإدغام النونين في هذه الكلمة والأصل أن تكون (تأمنُنَا) مؤلفة من الفعل (تأمن) و(نا) ضمير المتكلمين، وقد اندرج ما رواه حفص عن عاصم مع هذا الإجماع. وهناك خلاف يسير في كيفية أداء هذا الإدغام؛ فقد قرأ أبو جعفر بالإدغام المحض من غير روم ولا إشمام، والباقون بالإدغام مع جواز الروم والإشمام، وكلٌّ على أصله من حيث إبدال الهمزة أو تحقيقها.
4. (مكنِّي) من قوله تعالى: (قال ما مكنِّي فيه ربي خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) (الكهف: 95). قرأ ابن كثير: (مكنني) بفكّ إدغام النونين أي بالإظهار، وقرأ الباقون بالإدغام أي بنون واحدة مشددة. ويلاحظ اندراج حفص مع المدغِمين.
5. (ليأتينِّي) من قوله تعالى: (لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتينِّي بسلطان مبين) (النمل: 21). قرأ ابن كثير: (أو ليأتينني) بنونين على الإظهار، وقرأ الباقون بإدغام النونين. ولا يخفى أن حفصاً من المدغِمين.
6. (تأمرونّي) من قوله تعالى: (قل أفغير الله تأْمرونِّي أعْبُدُ أيها الجاهلون) (الزمر: 64). قرأ ابن عامر الشامي بنونين على الإظهار، وقرأ المدنيان (نافع وأبو جعفر) بنون واحدة مكسورة خفيفة، وقرأ الباقون ومنهم حفص بإدغام النونين فتكون نوناً واحدة مشددة، ويلزم معها مدُّ الواو مدّاً مشبعاً للساكنين، وكلٌّ على أصله بالنسبة لياء الإضافة (ياء المتكلم) من حيث فتحها أو إسكانها.
7. (أَتُحَاجُّونِّي) من قوله تعالى: (وحاجَّهُ قومُهُ قال أتحاجونّي في الله وقد هدان) (الأنعام: 80). قرأ المدنيان (نافع وأبو جعفر) وكذلك ابن عامر الشامي بخُلفٍ عن هشام بنون خفيفة (أتحاجوني)، وقرأ الباقون ومنهم حفص بنون مشددة هي عبارة عن إدغام نون الفعل الذي هو من صيغ الأفعال الخمسة مع نون الوقاية التي تسبق ياء المتكلم ليسهل أداؤها كما تقول: (يكرمني، يطعمني، يرحمني)؛ إذ لا يُسْتساغ لغةً أن تقول: (يُكرمُي، يُطعمُي، يَرْحَمُي). ولهذا سميت نون الوقاية أي للوقاية من هذا العُسْر في النطق والذي لا يستقيم إلا بوجود هذه النون.
ملاحظة:لم ترسم هذه الكلمة بنونين في المصاحف ولم يقرأها أحد بنونين مظهرتين، ولهذا لا نعجب لو أن أحداً استبعدها عن باب الإدغام الكبير وذلك وجيه، إلا أننا أدرجناها هنا بسبب وجود من يقرأ بالتخفيف في مقابل رواية حفص، والتي تقرأ بموجبها بالتشديد، ويلزم معه مدّ الواو مدّاً مشبعاً.
8. (نعمَّا) في موضعيها: الأول في قوله تعالى: (إن تُبْدُوا الصدقات فَنِعّما هي) (البقرة: 271)، والثاني في الآية (58) من سورة النساء من قوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً). وأصل هذا اللفظ (نِعْمَ مَا) وقد رسمت موصولة هكذا (نعمّا) وأجمع القراء على إدغام الميمين، ولكن الخلاف بينهم حاصل في حركتي النون والعين؛ فقد قرأ ابن عامر الشامي وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون وكسر العين (نَعِمّا)، وقرأ قالون وأبو عمرو البصري وشعبة بكسر النون، وبوجهين في حركة العين هما: إسكانها أو اختلاس كسرتها، وقرأ ابن كثير ويعقوب وورش وحفص بكسر النون والعين.
والإجماع على إدغام الميمين في (نعم ما) يشبه الإجماع على إدغام النونين في (تأمننا)؛ إذ رسمت (نِعمّا) بميم واحدة مشددة ورسمت (تأمنّا) بنون واحدة مشددة، لكن أصل هذه (نِعْمَ ما) وأصل تلك (تأمننا). والله تعالى أعلم.
ما يلحق بالإدغام الكبير:
ونعني بذلك: إلحاق ما فيه حرف مشدّد ناتج عن إدغام مثلين كبير، أو أن الأصل أنه بدل حرفين، أو أنه ناتج عن إدغام حرفين بعد طروء إعلال الإبدال على أحدهما كما سنوضحه في الكلمات التالية -مع ملاحظة أننا ألحقناها بالباب لأن من القراء من قرأها بالتخفيف بينما رواها حفص بالتشديد وهو الذي عندنا بمعنى الإدغام-:
الكلمة الأولى: (أمن لا يَهِدِّي) من قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبَعَ أمّن لا يَهِدِّي إلا أن يُهْدى) (يونس: 35). قرأ حمزة والكسائي (أمن لا يَهْدي) بفتح الياء وإسكان الهاء وكسر الدال من غير تشديد، وقرأ الباقون ومنهم حفص عن عاصم بتشديد الدال مكسورة، ولكن اختلفوا في حركة الهاء بين الفتح والإسكان والكسر والفتحة المختلسة، أما رواية حفص فبفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال مكسورة لمجاورتها حرف الياء الذي بعدها.
والكلمة أصلها (يَهْتَدي) أبدلت التاء دالاً ثم أدغمت في الدال بعدها فحصل تجاور ساكنين الأول الهاء والثاني سكون عارض الإدغام فيلزم مع ذلك تحريك الساكن الأول وهو الهاء، فرواها حفص بالكسر على قاعدته في التقاء الساكنين، وقرئت الدال مشددة مكسورة لمجاورة الياء.
الكلمة الثانية: (يَخِصِّمون) من قوله تعالى: (ما ينظرون إلا صيحةً واحدةً تأخذهم وهم يخصّمون) (يس: 49). أصلها: (يَخْتَصِمُون) أبدلت التاء صاداً ثم أدغمت في مثيلتها فحصل تجاور ساكنين: الأول الخاء والثاني سكون الإدغام؛ فيلزم تحريك الساكن الأول وهو الخاء، فرواها حفص بالكسر على أصله في التقاء الساكنين، وقرئت الصاد مشددة مكسورة (حركتها الأصلية).
هذا وسبب إدراج هذه الكلمة هنا هو أن واحداً من القراء هو حمزة يقرأها بالتخفيف (يَخْصِمون) أي بسكون الخاء وصاد خفيفة مكسورة. والضابط الذي اتبعناه هو إدراج أية كلمة رواها واحد على الأقل بالتخفيف بينما رواها حفص بالتشديد أي بالإدغام.
والكلمتان (يَهِدّي، يخصّمون) تكونان بعد إعلال الإبدال وقبل الإدغام (يَهْدَدِي، يَخْصَصِمُون) فتجاور في كل منهما حرفان متحركان؛ وذلك سبب إلحاقهما بالإدغام الكبير. والله تعالى أعلم.
الكلمة الثالثة: (لا يَسَّمَّعون) من قوله تعالى: (لا يسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب) (الصافات: . قرأ الكوفيُّون ومنهم حفص بتشديد السّين والميم (يسَّمَّعون)، وقرأ الباقون بالتخفيف فيهما (يَسْمَعون). أبدلت التاء سيناً ثم أدغمت في السين بعدها وهي قبل الإدغام (يَسَسَمَّعون) ثم بعد الإدغام أصبحت (يسَّمَّعون)، وهذا الإعلال لغويّاً وجائز. ومن أمثلته زيادة على ما ذكرناه: (واصطبر، واصطنعتك، أطَّلَع) أصلها: (واصْتَبِرْ، واصْتَنَعْتك، اطْتَلَع) وبإعلال الإبدال أصبحت: (واصطبر، واصطنعتك، أطّلع) ولا خلاف فيهن بين القراء.
الكلمة الرابعة: (لِيَذَّكَّروا) من قوله تعالى: (ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذَّكَّرُوا وما يزيدهم إلا نفوراً) (الإسراء: 41). قرأ حمزة والكسائي وخلف بتخفيف الذال والكاف (ليذْكروا)، وقرأ الباقون ومنهم حفص بتشديد الحرفين الذال والكاف، والأصل: (ليتذكروا)، فأبدلت التاء ذالاً ثم أدغمت في مثيلتها إدغاماً كبيراً؛ فهي بالإبدال (ليَذَذَكروا) وهي بالإدغام (ليذَّكَّروا).
الخامسة والسادسة: (المُصَّدِّقين والمصَّدَِقات) من قوله تعالى: (إن المصَّدِّقين والمصَّدِّقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يُضَاعَفُ لهم ولهم أجرٌ كريم) (الحديد: 18). قرأ ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما (المصَدِّقين والمصَدِّقات)، وقرأ الباقون ومنهم حفص بتشديد الصاد والدال في الكلمتين إذ الأصل: (المتصدقين والمتصدقات)، أصبحت بالإعلال والإدغام (المصَّدِّقين والمصَّدِّقات)، وبسبب وجود الخلاف في القراءة أدرجناها في هذا الباب، وأما ما اتفق عليه فلم نذكره مثل: (يصَّدَّعون، أطَّلَعَ، فأطَّلِعُ، وادَّكَرَ، ليَدَّبَّروا، مُدَّكِر، فأصَّدَّق، يطَّوَّف، اطَّيَّرْنا، يشَّقَّق، ليدَّبَّروا). والله تعالى أعلم.
الكلمة السابعة: (يَصَّعَّدُ) من قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حَرَجاً كأنما يصَّعَّدُ في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) (الأنعام: 125). قرأها ابن كثير (يَصْعَدُ) بسكون الصاد وتخفيف العين، وقرأها شعبة (يصَّاعد) بتشديد الصاد وزيادة ألف بعدها وتخفيف العين، وقرأ الباقون ومنهم حفص (يَصَّعَّدُ) بتشديد الصاد والعين. وقراءة التشديد تدلّ على إدغام إذ الأصل (يتصعَّد)، ثم أبدلت التاء صاداً (يصَصَعَّد)، ثم أدغمت هذه الصاد في مثيلتها لتقرأ (يصَّعَّد).
النوع الثاني:
وهو ما أظهره حفص بينما أدغمه واحد أو أكثر من أصحاب القراءات المتواترة، وذلك كثير نذكر منه ما يلي:
1. جميع ما ورد في باب الإدغام الكبير من قراءة أبي عمرو البصري أو يعقوب أو حمزة أو غيرهم، نحو: (قال لأبيه)، (من بعد ذلك)، (جاء أمر ربك)، (يعلم ما).
2. تاءات البزي في روايته عن ابن كثير، نحو: (ولا تنابزوا)، (ولا تفرقوا)، (ولا تيمموا الخبيث)، (ولا تجسسوا)، (إذ تلقّونه)، (وقبائل لتعارفوا).
3. كلمات فرشية نذكر منها:
•(وأن تَصَدّقوا) (البقرة:280): قرأها الجميع ما عدا عاصم بتشديد الصاد. وهي تدل على أن الأصل (وأن تتصدقوا)، ثم أبدلت التاء الثانية صاداً (تصَصَدّقوا)، ثم أدغمت الصاد المبدلة في الصاد المرسومة فأصبح اللفظ: (وأن تصَّدَّقوا).
•(تذكَّرون) حيث وردت: قرأها الجميع ما عدا حفص والأصحاب بتشديد الذال لتدل على أن الأصل (تتذكرون)، ثم أبدلت التاء الثانية ذالاً، ثم أدغمت الذال في مثيلتها فأصبح اللفظ عندهم (تذَّكَّرون).
•(تَظَاهرُون) (البقرة:85): قرأ الجميع ما عدا عاصم والأصحاب بتشديد الظاء، والتعليل (تتظاهرون)، ثم الإبدال (تظظاهرون)، ثم الإدغام (تظّاهرون).
•(تُظاهرون) (الأحزاب:4): قرأ الشامي بفتح التاء وتشديد الظاء، وقرأ عاصم بضم التاء وتخفيف الظاء، وقرأ المدنيان والبصريان والمكي بفتح التاء وتشديد الظاء وحذف الألف (تَظَّهرُون)، وقرأ الباقون بفتح التاء وتخفيف الظاء. وقراءة التشديد تعني إعلال الإبدال ثم الإدغام.
•(يُظاهرون) موضعان بالمجادلة (2، 3): قرأ عاصم بالتخفيف للظاء مع ضم الياء وألف بعد الظاء، وقرأ نافع والبصريان والمكي بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مع حذف الألف، وقرأ الباقون بفتح الياء وتشديد الظاء وألف بعد الظاء. وقراءة التشديد تعني الإدغام كما مرّ آنفاً.
•(تساءلون) (النساء:1): قرأ الكوفيون بتخفيف السين، وقرأ الباقون بالتشديد إذ فيها الإعلال (تتساءلون) ثم الإبدال (تسَسَاءلون) ثم الإدغام (تسَّاءلون).
•(تُسَوّى) (النساء:42): قرأ المدنيان والشامي بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ الأصحاب بفتح التاء وتخفيف السين، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين. وقراءة تشديد السين تدل على الإدغام بعد إعلال الإبدال كما مرّ آنفاً.
•(لا تعْدوا في السبت) (النساء:154): قرأ المدنيان بتشديد الدال، وقرأ الباقون ومنهم حفص بتخفيف الدال. وقراءة التشديد تدل على الإدغام بعد إعلال الإبدال إذ الأصل عندهم (لا تعتدوا) فأبدلت التاء الثانية دالاً (لا تعْدَدُوا) ثم أدغمت الدال الأولى في الدال الثانية (لا تعْدُّوا)، وقد قرأ أبو جعفر المدني بتسكين العين، وروى قالون الوجهين في العين: الإسكان والاختلاس لحركة الفتح، وروى ورش بفتح العين.
•(فما اسطاعوا) (الكهف:97): قرأها حمزة بتشديد الطاء، وقرأ الباقون بتخفيفها، وقراءة حمزة تدل على الإدغام إذ هي عنده (استطاعوا) فأبدلت التاء طاءً (اسططاعوا) ثم أدغمت الطاء الأولى في الثانية (اسطّاعوا).
•(تَشَقَّقُ) (الفرقان:25): قرأ المدنيان والمكي والشامي ويعقوب بتشديد الشين، وقرأ الباقون بالتخفيف. وقراءة التشديد تدل على الإدغام إذ الأصل (تتشقق) فأبدلت التاء الثانية شيناً (تششقق) ثم أدغمت الشين الأولى في الثانية. ومثل ذلك موضع سورة (ق) آية (44).
•(تُساقِط) (مريم:25): قرأ يعقوب (يَسَّقاط) بياء مفتوحة ثم بتشديد السين، وروى حفص بضم التاء وتخفيف السين، وقرأ حمزة بتاء مفتوحة وتخفيف السين، وقرأ الباقون بتاء مفتوحة مع تشديد السين. وقراءة التشديد تدل على الإدغام بعد إعلال الإبدال كما مرّ.
•(أتمدونن) (النمل:36): قرأها حمزة ويعقوب (أتمدونِّي) بإدغام النونين، وقرأها الباقون بنونين، ومنهم من يثبت ياء الإضافة الزائدة على الرسم؛ فابن كثير يثبتها وصلاً ووقفاً، بينما يثبتها المدنيان والبصري في حال الوصل فقط. ولأجل قراءة الإدغام عند حمزة ويعقوب رأينا أن ندرج الكلمة في هذا الباب.
•(ثم تتفكروا...) (سبأ:46): رواها رويس عن يعقوب (ثم تَّفكروا) بإدغام التاء الأولى في الثانية، بينما رواها حفص والباقون بفك الإدغام.
•(أتعدانني) (الأحقاف:17): رواها هشام عن ابن عامر الشامي بإدغام النونين (أتعدانِّي)، وقرأها الباقون بفك الإدغام (أتعدانني)، ولكن هناك خلاف في ياء الإضافة بين الفتح والإسكان؛ فقرأها المدنيان والمكي بالفتح، وقرأ الباقون بالإسكان.
•(ربّك تتمارى) (النجم:55): قرأها يعقوب بإدغام التاءين في حال وصل الكلمتين (ربك تمَّارى)، وقرأ الباقون بفك الإدغام أي إظهار التاءين، أما عند البدء بكلمة (تتمارى) فلا بد من إظهار التاءين للجميع.
•(تزكّى) (النازعات:18): قرأ المدنيان والمكي ويعقوب بتشديد الزاي (تزّكَّى)، وأصلها (تتزكى) فأبدلت التاء الثانية زاياً ثم أدغمت في الزاي الثانية، وأما حفص والباقون فقد قرأوها بتخفيف الزاي وتشديد الكاف فقط.
•(تصدّى) (عبس:6): قرأها المدنيان والمكي بتشديد الصاد إضافة إلى تشديد الدال، وقرأ الباقون ومنهم حفص بتخفيف الصاد وتشديد الدال فقط. وقراءة التشديد تدل على أصل اللفظ (تتصدى) بتاءين ثم أبدلت التاء الثانية دالاً وأدغمت في الدال بعدها لتصبح (تصَّدَّى).
الشيخ عبد الرحمن جبريل