بناء المسجد النبوي
كانت أولى نسمات الخير التي أتت بها الهجرة المباركة ، بناء المسجد النبوي ، فبعد أعوام عديدة من حياة الخوف والقلق ، والمعاناة من الشدّة والتضييق ، والحرمان من المجاهرة بالشعائر التعبدية ، والاضطرار إلى الصلاة بعيداً عن أعين الناس في الشعاب والأودية ، أو خفيةً في البيوت ، إذا بهم يجدون حريّتهم الكاملة في أداء صلاتهم وإقامة شعائرهم دون خوفٍ أو وجل ، في بيوت الله تعالى .
وجاء إنشاء المسجد النبوي بعد وقتٍ قصيرٍ من مقدم النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان يصلي حيث أدركته الصلاة باديء الأمر ، ولم يمض أسبوعان على وصوله حتى شرع في البحث عن مكان مناسب للبناء ، واستقرّ رأيه على مربد - وهو الموضع الذي يُجفّف فيه التمر - كان ملكاً لغلامين يتيمين في المدينة يعيشان عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه ، ووقع اختيار النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك المكان عندما بركت راحلته فيه أثناء بحثه ، وقال حينها : ( هذا إن شاء الله المنزل ) رواه البخاري .
ثم طلب النبي – صلى الله عليه وسلم – من سادات بني النجار الحضور ومعهم الغلامين ليعرض عليهم شراء تلك الأرض ، وقال لهم : ( يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا – أي اطلبوا له ثمنا - ) ، فقالوا : " لا والله لا نطلب ثمنه " ، وقال الغلامان : " بل نهبه لك يا رسول الله " ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبى لعلمه بحاجتهما ، وعوّضهما بالثمن المناسب ، رواه البخاري .
وما أعظم سرور الصحابة وهم يعملون جنباً إلى جنب ، بهمّة عالية ، وإرادة صلبة ، وعزيمة لا تلين ، ويروّحون عن أنفسهم بأبيات من الشعر تزيد من نشاطهم ، وتخفّف عنهم مشقّة العمل ، فمن ذلك قولهم :
هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشاركهم في نقل الحجارة وإنشاد الأشعار ، فثبت في صحيح البخاري أنه كان يرتجز بقول الشاعر :
اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجره
وفي الوقت الذي كان الصحابة يحملون فيه الحجارة لبنة لبنة ، كان عمار بن ياسر رضي الله عنه يحمل لبنتين في كلّ مرّة ، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم – وهو على هذه الحال فجعل ينفض التراب عن رأسه ويقول : ( يا عمار ، ألا تحمل لبنة لبنة كما يحمل أصحابك ؟ ) ، فردّ عليه قائلاً : " إني أريد الأجر عند الله " فالتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه وقال : ( ويح عمار ، تقتله الفئة الباغية ) رواه البخاري .
ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – صحابيّاً من اليمامة ، فأعجب بمهارته في خلط الطين وتجهيزه ، فقال : ( قدموا اليمامي من الطين ؛ فإنه من أحسنكم له مسّاً ) ، وفي رواية : ( قربوا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له بناء ) رواه ابن حبان و البيهقي .
وخلال فترةٍ وجيزة ، استطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن ينتهوا من بناء المسجد ، وقد جعلوا سواريه من جذوع النخل ، وأعلاه مظلل بالجريد وسعف النخيل واستغرق بناؤه اثني عشر يوماً ، ثم أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – ببناء حجرات لنسائه ، وحدّد موقعها بحيث تحد المسجد من جهة الشمال والشرق والجنوب ، وبعد اكتمالها ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – دار أبي أيوب رضي الله عنه وانتقل للسكنى فيها .
وببناء المسجد النبوي تحقّق للمسلمين حلمهم الكبير في الاجتماع للعبادة وذكر الله ، ولم يتوقّف دور المسجد عند هذا الحد بل صار موضعاً للحكم والقضاء، وإدارة الدولة وسياستها، ومنطلقا لقوافل الجهاد ، ومأوى للفقراء من أهل الصفّة ، ومنارة لتعليم القراءة والكتابة ، تشعّ أنوار الهدى حتى يومنا هذا
.
ألاترون معي هذا الحب والتأخي
ألا ترون إتقان العمل
النبي صلى الله عليه وسلم يمدح هذا ويثني على ذاك
فلا غيرة بينهم
أرأيتم الغلامان وردهما على النبى
صلى الله عليه وسلم
هذا عمار
عمار وحب الاجر فيما عند الله
هذا سر نجاحهم