وجّه الدّربيل إلى نفسك
(د. عائض القرني)
في قلب كل إنسان منا دربيل اسمه البصيرة، قال تعالى: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) وهذا الدربيل إن أراد الله بك خيراً وجهته لنفسك، فاكتشفت به عيوبك، فأصلحتها وقوّمتها على الحق، وإن أراد الله بالإنسان خذلاناً سلّط هذا الدربيل على الآخرين، وأهمل نفسه، فتجده ينقب عن عيوب الناس، ويبحث عن زلاّتهم، ويجمع أغلاطهم، فهو كالذباب لا يقع إلا على الجرح كما في الأثر: «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه». هل فرغنا من عيوبنا الكثيرة حتى نتفرّغ لعيوب الناس؟ هل بقي لدينا وقت نشغله بتتبع أخطاء البشر؟ إن توجيه مصباح الله في القلب إلى نفسك نعمة كبيرة من نعم الله، معنى ذلك أنك اكتشفت عيوبك، وعرفت مواطن الخلل في نفسك.
وفي الأثر: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس». ولكن المشكلة يوم تحمل هذا الدربيل لتضعه على أسرار عباد الله، فتفحص بعناية كل زلّة وكل خطيئة، ومن يفعل ذلك يُسمى سبّاباً عيّاباً، ليتنا نوجّه دربيلنا إلى ذواتنا، ونترك الناس لرب الناس. اتركوا الخلق للخالق، ودعوا العبيد للمعبود. ليس مطلوباً منّا مراقبة البشر فيما أضمروه وأسروه من أخطاء، ولسنا نحن الذين نحاسبهم، يقول الرسول (: «إني لم أومر أن أنَقُبَ عن قلوب الناس ولا أشُقَّ بُطونَهم». وهذه الجملة النبوية دستور مهذّب في التعامل مع الناس، ولو عمل بها المسلمون لما رأيت من تفرغ ليحصي على الناس زلاّتهم، ويؤلّف في مناقبهم، ويجمع عثراتهم. واحسرتاه على من يحمل الذنوب، ويتلبس بالعيوب، ثم لا يعنيه ذلك، إنما شغله الشاغل بعيوب الناس وذنوب البشر. قيل لحكيم: أما رأيت فلاناً يصنع كذا وكذا من الذنوب؟ قال: ما تبت أنا من ذنوبي. واغتاب أحد الناس رجلاً في مجلس العالم الزاهد الربيع بن خثيم فقال له: تذكّر سكرات الموت. أيها الباحثون عن زلاّت الخليقة، عدتم بالفشل، ورجعتم بالخيبة. أيها المكتشفون أخطاء الناس، حققتم الإفلاس، وأدركتم سوء العاقبة. كان الواجب علينا لو رأينا عيباً في الآخرين أن نغض الطرف، ونتغابى أو ننصح، كما قال أبو تمام:
* لَيسَ الغَبِيُّ بِسَيِّدٍ في قَومِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ قَومِهِ المُتَغابي.
إن الإنسان الحقير يعشق تصيّد الزّلات ويفرح بعيوب الناس؛ لأنه ردئ كما قال الشاعر الشعبي:
* ما يستشك يا حسينْ كود الرديّيّن والا ترى الطيّبْ وسيعٍ بطانَهْ.
يقول أحمد بن حنبل: التغافل تسعة أعشار حسن الخُلُق. قلت: لو سلكنا منهج التغافل مع الزوجة والابن والصّديق والناس لعشنا الحياة السعيدة، فكيف إذا استعملنا قدراتنا العقلية من الذكاء والدهاء والألمعية في تشخيص أخطاء البشر، وعشنا مع أخطائنا بغباء وبلاهة؟ يقول ديل كارنيجي: عندي ملف في درج مكتبي عنوانه (حماقات ارتكبتها) أسجل فيه أخطائي؛ لأتلافاها مع الزمن. وقال سفيان: لي ثلاثون سنة أجاهد نفسي في ترك عيب، وما زلتُ أجاهد. فيأيها الإنسان، اجعل معك قائمة سوداء من عيوبك تراجعها بينك وبين نفسك، أما الناس فأطمئنك أنك لن تدخل معهم قبورهم لتحاسبهم، ولن تكلّف بمناقشتهم على أخطائهم يوم القيامة، بل أؤكد لك جازماً أنك سوف تحاسب على اغتيابك لهم وكشف أسرارهم. إن الذي بيته من زجاج لا يحقُّ له أن يرمي بيوت الآخرين بالحجارة، كفى اشتغالاً بالآخرين على حساب أنفسنا. والشكر لأبي معاذ الرازي على قوله:
* وغير تقيٍّ يأمر الناسَ بالتقى طبيبُ يداوي الناس وهو عليل.
إن النّجار الذي ذهب يصلح أبواب الناس وبابه مكسّر أحمق، وإن الخياط الذي يخيط للآخرين وثوبه ممزّق أبله، والذي سلّط دربيله على تضاريس العباد وترك الحفر والمطبات في نفسه غبيّ مخذول
بارك الله لنا فى شيخنا الفضيل ..
ونفعنا وأياكم بعلمه ..