بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة تبارك الملك
تعريف عام بالسورة:
سورة "الملك" وتسمى سورة "تبارك الذي بيده الملك"، وسورة "المانعة" و "المنجية".
وهي سورة مكية كلها باتفاق العلماء، تبلغ عدة آياتها ثلاثين آية، كما نص عليه الحديث الشريف.
وموضوع السورة الذي تدور حوله معاني آياتها وفقراتها هو بيان أن تدبير العالم وسلطة التصرف فيه هي لله وحده سبحانه. وهي تقرر بذلك عقيدة هامة في حياة الإنسان، وركناً من أركان الدين، هو توحيد الأفعال. إذ توضح أن كل العوالم في الأرض والجو والسماء، وفي الدنيا والآخرة هي بيد قدرته وقهره سبحانه. ومن أجل هذا الغرض تعرض السورة أمام الإنسان جوانب الدنيا من الحياة والموت، والسماء والأرض والعيش والرزق لتري هذا الإنسان آثار قدرة الله تعالى في هذا العالم مدبرة له متصرفة فيه على أحسن وجه وأبدع نظام.
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [1-4].
المعنى والأسلوب:
افتتحت السورة بهذا الثناء الجامع المعبر:
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ }: لتقرر به أصلاً اعتقاديّاً عظيماً يتفرع منه سائر ما يأتي في السورة من المعاني والصور، فكان في هذا الافتتاح تهيئة وإعداد للذهن لتقبل ما سيلقى عليه من التفصيل فيما بعد. وهو ما يسميه علماء البلاغة "براعة الاستهلال". ومن القرآن العظيم أُخذ هذا الفن، كما أخذت منه سائر فنون البلاغة والبيان. وقد بين هذا الافتتاح تمجيد ذات الله تعالى وتعظيمه وزيادة خيراته وأفضاله على الملك الذي بيده، ودوامها عليه.
وعبر القرآن بهذه الصيغة "تبارك" لأن هذه الصيغة على زنة "تفاعل" تختص بمعنى جليل، هو الدلالة على غاية الكمال ونهاية التعظيم، لذلك لم يجز استعمال الوصف بها للمدح إلا لله سبحانه.
فلا يجوز أن تقول: "تبارك" أو "تعاظم" أو "تعالى" إلا لله عز وجل. (1)
{ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ }: أي السلطان النافذ في كل شيء: مُلك السماوات والأرض، والدنيا والآخرة. يفعل ما يشاء في العوالم كلها إيجاداً أو إعداماً، تغييراً وتبديلاً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، كل ذلك في قبضة قدرته سبحانه ومشيئته مقهور صاغر لعظمته.
{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }: أي إنه تعالى بليغ القدرة يتصرف كيف يريد من إنعام وانتقام، ورفع ووضع، وإيجاد وإعدام. لا يعجزه سبحانه شيء من الأشياء.
وقد أضفت { كُلِّ شَيْءٍ } مزيداً من القوة على معنى الجملة السابقة، لأنها صرحت بشمول قدرته شمولاً لا يخرج منه شيء من الأشياء القليلة أو الكثيرة، ولا يُستثنى منه أمر من جلائل الأمور أو دقائقها. فكانت تكميلاً لما سبق من هذه الناحية في نظرنا.
ثم شرع في تفصيل هذا الافتتاح الجليل الذي افتتحت به السورة فقال: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }: وقد بينت هذه الآية مثالين عظيمين من آثار السلطان الإلهي والقدرة الإلهية. هما: الموت والحياة، وأنهما مبنيان على قوانين الحكم وغاياتها الجليلة، وهي اختبار الناس، ليظهر أيهم أحسن عملاً.
والموت ورد في الآية مطلقاً، فيشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق بعدها، كذلك الحياة مطلقة تشمل ما قبل الموت وما بعده.
{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }: وبهذا ارتفع شأن الحياة عن كونها مجرد متاع لا غاية بعده، كما يتوهم الغافلون، إلى أرفع مستوى، هو ابتلاء الله لخلقه، أي اختبارهم وامتحانهم.
وقد عبرت الآية بلفظ {يبلوكم} لاستمرار الاختبار طالما أن الإنسان على هذه المعمورة. لما قرر اللغويون في أصل الكلمة واشتقاقها من البِلى، فكأنهم ابتلوا حتى بَلُوا أي خَلِقوا. (2)
وقد بينت الآية غاية هذا الاختبار، فهو اختبار يتطلب من الإنسان أن يكون على أعلى مستوى في أي عمل في أعمال المادة والمعنى، في الدين والدنيا، في القلب والقالب، لأن لفظ "عمل" ورد في الآية مطلقاً فيتناول جميع الأعمال: أعمال الجوارح وأعمال القلوب.
وقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: "أيكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله تعالى، وأسرع في طاعة الله عز وجل". (3)
وعن السدي في الآية: { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قال: "أيكم أحسن للموت ذكراً، وله استعداداً ومنه خوفاً وحذراً".(4)
ثم انتقلت السورة إلى بيان مظاهر أخرى للملك والقدرة النافذة في هذه الآية: { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ }: فالله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير هو الذي خلق سبع سماوات، فربطت العقيدة اليقينية بسلطان الله وقدرته ووصلتها بهذا الخلق العظيم خلق سبع سماوات.
وقد لفت القرآن بأسلوب عجيب نظر كل إنسان يبصر ويعقل إلى دقة خلق السماوات وإحكامها على الرغم من ضخامة أبعادها ضخامة لا يحيط بها الخيال، فليس فيها أي خلل أو اضطراب، فعبر عن ذلك تعبيراً بليغاً غاية البلاغة في قوله: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ }: فقد وجه الخطاب إلى كل إنسان له عقل وبصر يقول له: "ما ترى" في هذا الخلق الضخم أي خلل أو نقص.
وقد قرر القرآن هذه الحقيقة تقريراً في غاية القوة، بأن وجه الخطاب بالأمر للتحدي إلى كل من يتأتى منه الخطاب ويعقل الجواب { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ }، فهذا الأمر يتحدى كل من يعقل الكلام بأن "يرجع" أي يردد بصره في السماء يفتشها هل يرى فيها من فطور، أي أدنى وأقل فطور وصدوع.
{ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ }: أي يرجع إليك بصرك مطروداً محروماً من أن يشاهد أي خلل أو صدوع في السماء.
وقد أفاد هذا التعبير { خَاسِئًا } قوة في المعنى المراد، لما في اللفظ من دلالة على معنى الطرد مع الذلة، وأبرزت الآية إحكام عالم السماوات إبرازاً عظيماً بهذه العبارة أيضاً، حيث صورتها لشدة إحكامها كأنها كائن حي يحس بالبصر يتجسس عليه بحثاً عن خلل فيه، فيطرده شر طردة، كما يطرد الكلب بقماءة وذلة، فيرجع البصر من محاولته العنيدة: { وَهُوَ حَسِيرٌ } قال مجاهد وقتادة والسدي: "الحسير: المنقطع من الإعياء – أي التعب الشديد – ولا يرى نقصاً". (5)
قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [5-11].
المعنى والأسلوب: بعد أن بين الله تعالى في الآيات السابقة إعجاز السماء ودلالتها على عظمة الله وسلطانه لما فيها من دقة الصنع وإتقانه البالغ غاية الغايات. بين في هذه الآيات دلالتها على عظمته سبحانه من جهة أخرى هي كونها في غاية الجمال فقال: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا } أي القربى منكم { بِمَصَابِيحَ }، وهي الكواكب بأنواعها الثوابت والسيارات، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح المضيئة، ولقد زينا سقف الدار الدنيا التي اجتمعتم فيها بمصابيح وأي مصابيح، هي عظيمة جدّاً. وهي آية جمالية في غاية الحسن لا يمل منها القلب كيفما قلَّب نظره فيها، ولذلك صدَّر الآية بالقسم: "ولقد"، أي وبالله لقد، لإظهار كمال الاعتناء بمضمون الآية، ثم عبر بنون المتكلم المعظم "نا" في قوله "زينا" و "جعلناها" دلالة على عظمة الله تعالى وقدسيته.
وهكذا جمع القرآن في هذا السياق بين دلالة الكمال والجمال: دلالة الكمال في قوله: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ }، ودلالة الجمال في هذه الآية، وبذلك أصبح البرهان شاملاً للناس كافة، سواء كان أحدهم يميل إلى الكمال أو يتعشق الجمال.
ثم ذكر لهذه المصابيح منافع أخرى:
{ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ }: ترميهم بشهب تنفصل عنها، لتدحرهم عما أرادوه من تطلع أخبار السماء.
{ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ }: هيأنا للشياطين العذاب المحرق البالغ أشد الإحراق.
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }: بين هنا أن العذاب مستحق لكل من كفر بالله عز وجل. (6)
ثم ذكر ما يلقون فيها من شديد العذاب في تصوير مروع مخيف: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ}:
فأول ما يحسون منها فظاعة صوتها الذي سماه "شهيقاً"، وهو صوت الحمير أنكر الأصوات، وهو حسيسها المنكر الفظيع الذي ذكره القرآن في وصف المؤمنين {لا يسمعون حسيسها}.
{ وَهِيَ تَفُورُ }: قال ابن عباس: "تغلي بهم غَلْيَ المرجل". وهذا من شدة لهب النار من شدة الغضب، كما تقول: "فلان يفور غيظاً" وقال مجاهد: "تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير". (7)
{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ }: أي توشك جهنم أن تتقطع وتنفصل عن بعضها بعضاً لما بها من أشد الغضب على هؤلاء الذين كفروا بربهم. ( وفي هذا العذاب المروع: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا }: وهم حراس النار والقائمون بعقاب أهلها: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }: ويعلم الخزنة أن الرسل جاءتهم وأنذرتهم هول العذاب، لكنه سؤال التوبيخ واللوم يضاعف عليهم ما يلقون من العذاب.
{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ }: { قَالُوا } اعترافاً بأنه عز وجل قد أزاح عللهم بالكلية: { بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ } وجمعوا بين حرف الجواب { بَلَى } ونفي الجملة المجاب بها { قَدْ جَاءَنَا } مبالغة في الاعتراف بمجيء النذير وتحسراً على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم، وتمهيداً لما وقع منهم من التفريط تندماً واغتماماً على ذلك. (9)
هكذا بالتأكيد والتحقيق { قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ }.
ثم عادوا على أنفسهم باللوم: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }: فقد أقروا أن الدعوة كانت في غاية الوضوح والقوة، يدركها كل ذي سمع وكل ذي عقل، لكن الآفة منهم، حيث غلبهم الهوى حتى عطلوا أسماعهم وأبطلوا عقولهم، لأنهم لم ينتفعوا بأهم ما خلقت له هذه المواهب.
وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة فقالوا: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }، أي لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزل الله من الحق لما كنا على ما كنا عليه من الكفر والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، وما كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم.
قال الله تعالى: { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ }: فذكر الله تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وأخرج الإمام أحمد في المسند عنه أنه قال: "لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم". (10)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [12-14].
المعنى والأسلوب:
بعد أن ذكر القرآن هول عذاب الكافرين ذكر نعيم المؤمنين الصالحين تكميلاً لما أشار إليه في صدر السورة بقوله { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [هود: 7].
وقد عبر القرآن عن المؤمنين بهذا الوصف: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ }: وهو وصف جليل يصف المؤمنين بغاية الصدق في إيمانهم بالله وتعظيمهم لربهم، فخافوا عذابه وإن لم يروه، وذلك يجعلهم يجتنبون معصية الله من غير أن يحتاجوا إلى رقيب عليهم من سوى أنفسهم لأنهم يخشون عقاب ربهم بالغيب.
ثم بعد أن بين فضل خشية الله بالغيب نبه على كمال علم الله وإحاطته بالضمائر والأسرار الخفية فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }: وهو تقرير لوجوب خشية الله وترسيخ لها في القلب، وأنه لا بد من حصول الثواب والعقاب.
وقد نبهت الآية على كمال علم الله تعالى بالسر والجهر بأسلوب بليغ جدّاً في قوله تعالى: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }، وظاهر هذا التعبير الأمر بأحد الأمرين: الإسرار والإجهار، لكن المراد هو التسوية بينهما، والمعنى: ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما غاية التساوي. ولتأكيد هذا المعنى وترسيخه في القلب، نلاحظ في الآية تقديم السر على الجهر. وفي هذا يقول الآلوسي: "وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في شمول علمه عز وجل المحيط بجميع المعلومات، كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به، مع كونهما في الحقيقة على السوية. أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر، إذ ما من شيء يُجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب غالباً، فتعلُّق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على حالته الثانية". (11)
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }: هذه جملة مستأنفة تأكيد لما سبق في صدر الآية، أكد الله فيها علمه البالغ بصيغة فعيل "عليم" وعبر بصيغة الجمع مع "الـ" الاستغراق "الصدور"، ووصف الأسرار المضمرة بصاحبيتها للصدور، فكان في غاية القوة، وكأنه يقول: إنه عالم غاية العلم بمضمرات صدور الناس وأسرارهم الخفية المستقرة في صدورهم لا تفارقها، فكيف يخفى عليه شيء مما تسرون به أو تجهرون.
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }: هذا تقرير أيضاً لإحاطة علمه تعالى بسرائر الناس بأسلوب برهاني استدلالي بارع، أي ألا يعلم السر والجهر من خلق جميع الأشياء، ومن بينها السر والجهر، وقد صدَّر الجملة بهمزة الاستفهام المقصودة بها النفي، وأدخلها على "لا" النافية ليدل على تأكيد علمه وثبوته ثبوتاً لا يقبل أي شك أو بحث، لأن نفي النفي إثبات. فهو سبحانه خالق الأسرار والضمائر، وخالق كل شيء فكيف لا يعلمها. وهو سبحانه { اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }، اللطيف الذي يتوصل إلى ما يريد بأدق الوسائل وأخفاها وأنفذها، فهو يعلم خفايا الصدور، وهو سبحانه { الْخَبِيرُ } المتوصل علمه إلى دقائق الأمور وخفاياها، لا شك أنه يعلم ذلك غاية العلم وأعظمه.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [15-19].
المعنى والأسلوب:
بعد أن بين القرآن في الآية السابقة أن الله تعالى هو الخالق وأنه يعلم سرائر الناس وعلانيتهم بين هنا سوابغ نعم الله عليهم بياناً فيه إظهار قدرته تقوية لدعوتهم إلى توحيد الله وطاعته فقال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا }: أي إنه تعالى جعل الأرض منقادة مسهَّلة لكم: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: "أطرافها وفجاجها ونواحيها".
وقد عرض القرآن هذا المعنى عرضاً فيه قوة وحياة بتصوير الأرض بصورة دابة مسخرة للإنسان، والمعنى في تأكيد هذا الأسلوب والتفنن فيه في قوله: { ذَلُولًا } والذل لا يوصف به إلا الأحياء، ثم في قوله { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }. وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف.
{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }: أي التسموا من نعمه على شتى أنواعها، وليس المقصود خصوص الأكل فقط كما يُتوهم، لكنه ذكر الأكل لأنه الأهم الأعم.
وهذا كله قد جاء بصيغة الأمر { فَامْشُوا } و { وَكُلُوا } لإظهار المنة والرحمة الإلهية بهذا الإنسان حتى يشكر نعمة ربه، لذلك عقَّبت الآية سياق هذه النعمة بهذا التذكير: { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }: فذكرهم بأنه إليه وحده سبحانه المرجع لا إلى غيره، فبالِغوا في شكر هذه النعم ولا تقصِّروا.
{ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }: بعد أن بين أنه تعالى إليه النشور عقَّب ذلك بقوارع من التذكير حتى ينتبه الناس من غفلة الطمأنينة على هذه الأرض المستقرة المذللة، ويرجعوا إلى الله تعالى. وقد خاطبهم بقوله: {َأَمِنْتُمْ} يستنكر عليهم هذه الغفلة، هل أمنوا أن يبدل الله حال الأرض الذلول فيخسفها أي يقلبها بهم فيغيبوا في جوفها فتضطرب وتذهب وتجيء ؟!
وهذه أحداث الزلازل والبراكين يعرفها الناس ويسمعون أخبارها ويعلمون ماذا تفعل من الأفاعيل في دقائق يسيرة بل في ثوان، ويعلمون كيف يصبح هذا الإنسان المتغطرس وماذا يغني عن نفسه منها.
ثم ينتقل إلى تهديد آخر: { أَمْ أَمِنْتُمْ }؟: أي بل أأمنتم. { مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا }: حجارة من السماء تحملها الأعاصير أو غيرها مما يرسله الله بالعذاب: فستعملون عند مشاهدتها كيف إنذاري لكم وتوقنون به، لكن حيث لا ينفع العلم شيئاً، وهو تهديد قوي جدّاً يشير إلى وشك نزول العذاب بالمعاندين.
ومن ثم أكد هذا التخويف بالتذكير بما سبق من عقاب السابقين ليكون التخويف بمثال يعتبر به: { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }: وهو تذكير مخيف تأكد بالقسم { وَلَقَدْ } ثم ختم بهذا الاستفهام للتعجيب {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب !! أي إنه كان على غاية الهول والشدة والفظاعة.
وهذا التعبير المهول هو المقصود بالقسم لتتحرك القلوب فتتعظ وتتذكر. وفي الكلام من البلاغة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد للكفرة ما لا يخفى.
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }: بعد أن ذكَّر الله عباده أنه قادر على أخذهم بالعقاب بمثال ضربه لهم انتقل إلى تخويفهم بالبرهان على ذلك، وهو البرهان على كمال قدرته، ومتى ثبت ذلك ثبت كونه تعالى قادراً على إيصال جميع أنواع العذاب إليهم". (12)
وقد قام هذا البرهان بأن أثار تأملهم وتفكرهم في هذا الشيء الذي يذكرهم به، وهو مشهد يرونه كثيراً، لكنهم لا يعتبرون بما فيه من دلائل القدرة وخوارقها.
وقد بدأ التذكير بهذا الاستفهام الإنكاري: { أَوَلَمْ }، أي أغفلوا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات باسطات أجنحتها، { وَيَقْبِضْنَ } أي تضرب جنوبها بأجنحتها في الطيران.
{ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }: والمعنى أنه لكونه اتصف بتلك القدرة والإبداع والرحمة والصفات التي ظهرت آثارها في خلق الطير فهو سبحانه يعلم كيفية إبداع المُبدعات، وتدبير المصنوعات، ومنها خلقه للطير على وجه يتأتى به جريه في جو السماء.
قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [20-21].
المعنى والأسلوب:
بعدما أوضح القرآن معجزة الطيران التي صدَّرها بالاستفهام التوبيخي على ترك التأمل فيما يشاهدونه منها بقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا }، انتقل إلى تبكيت الكافرين بلجوئهم إلى من لا حول له ولا قوة فقال: { أَمَّنْ } فاستعمل "أم" المنقطعة بمعنى (بل) فقال: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ }: وكأنه يقول: كفى ما بينا من دلائل قدرة الله تعالى وسلطانه، ننتقل بكم إلى أمر آخر ننظر حالكم: أرونا هذا السند { الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أي يمنعكم من عذاب الله تعالى، وهذا الأسلوب فيه توبيخ لهم بالاستفهام الذي يفيد النفي، أي لا أحد ينصركم من دونه تعالى، كما أنه تسفيه لهم لاستنادهم إلى مخلوق لا حول له ولا طول.
وكان أصل العبارة "من ينصركم من دون الرحمن"، لكن عدل إلى هذا الأسلوب { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي } ليشير إلى تحقيره في قوله { هَذَا الَّذِي ...} والمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم من دون الرحمن. (13)
ومن ثم سجَّل عليهم الحماقة في صنيعهم هذا فقال: { إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ }: فجاء تسجيلاً في غاية القوة والتأكيد في هذا الحصر: أي ما هم إلا في غرور، فقد أشار بذلك إلى إحاطة الغرور بهم إحاطة الظرف بالمظروف، فهم غارقون في الضلال والتعلل بالأوهام.
ومن ثم انتقل بهم إلى ناحية أشد التصاقاً بإحساسهم لاضطرارهم إليها كل وقت اضطراراً أظهر، وهي الرزق ليسألهم على نفس الأسلوب: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ }: أي بل من هذا الذي يرزقكم إن أمسك الله عز وجل رزقه عنكم. فالرزق إنما يأتي بإرادة الله عز وجل وحده، من أول مباديه إلى أن يجنيه هذا الإنسان الكفور، أما ما يتوهمه الإنسان من جهده وعمله فليس إلا جنياً لحصاد قدرة الله يجنيه أيضاً بما أعطاه الله من القدرة والعلم وغير ذلك.
وهكذا كل ذرة رزق هي من صنع الله وبإمداده، فماذا يصدّر هذا الإنسان بعد ذلك من عبادة الله والانقياد له إلا العناد والتجبر، لذلك ذيَّل الآية بقوله: { بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }: أي دعهم، إنهم متمادون في عصيان وطغيان، وفي نفور فظيع من الحق، تلبَّس بهم حتى ظلوا في هذا الإعراض المتمرد النافر. فأضرب بحرف "بل" عن خطابهم، والتفت عنهم، ليسجل عليهم ما في نفوسهم من الوصف الذميم.
قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [22-30].
المعنى والأسلوب:
بعد أن بين في الآيتين السابقتين عناد الكافرين واستكبارهم وانخراطهم في مهاوي الغرور العمياء ضرب في مطلع هذا النص مثلاً للكافر والمؤمن الموحِّد، تنبيهاً على قبح ما وصف به الكافر وفظاعة أثر ذلك الوصف عليه، وتبياناً لحال الفريقين في وضوح الرؤية عند المؤمن وظلمة القضية التي في قلب الكافر والملحد، لذلك عطف بحرف الفاء فقال: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى }: فالقرآن ضرب في هذه الآية للكافر والملحد مثلاً بالذي يمشي وهو مكبٌّ أي ساقط على وجهه، لأنه يعثر في كل ساعة، ويسقط على وجهه في كل خطوة، لتوعر طريقه واختلال قواه.
وهذا مثل مادي يبين حقيقة حال الكافر والملحد وأنه ليس على بصيرة ولا يقين له بعقيدته. فصورت الآية الحقيقة النفسية لهؤلاء بأنهم لا براهين عندهم تثبت معتقدهم إثباتاً صحيحاً وتنير طريقهم، ولا ميزان عندهم يَزِنُون به الأمور والقضايا، وإنما يعيشون على أحلام وأوهام، لذلك فإن الكافر والملحد قلق دائماً من براهين الإيمان والتوحيد، لا يريح بالتسليم لأهلها، ولا يستريح بالإذعان لها والاهتداء بضيائها، فهل هذا أهدى: { أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }: إن المؤمن { يَمْشِي سَوِيًّا } معتدلاً مستقيم القامة يرى كل شيء أمامه، وهو في طريق مستقيم لا عوج فيه، ولا خفاء لشيء منه، فكل ما يعرض له من الأمور والقضايا يسلك فيه الطريق السويّ الذي هداه الله إليه { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }.
ثم قرر وضوح هذه الرؤية الإيمانية بأنها على غاية الجلاء تشهد بها على الإنسان نفسه فقال: { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }: ذكر أولاً في هذه الآية خلق أنفسهم، فهذا الخلق العظيم المحكم الذي عليه الإنسان لا بد له من خالق، وليس من المعقول أن عدماً يخلق موجوداً، فإن هذا من أوضح المستحيلات، ثم ذكر جل شأنه جعل السمع والأبصار والأفئدة، أي العقول للناس، وكل واحد فيه الآيات الكثيرة على عظمة الخالق وتوحيده سبحانه يزيد العلم الحديث استدلال القرآن بها قوة ويقيناً.
لذلك ذكرهم بحقيقة الحشر التي تنتظرهم لتظهر فيها نتيجة الابتلاء الذي ذكر في أول السورة: { قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }: فبين اختصاصه بخلق الناس وإظهارهم في هذه الدنيا بقوله: { هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ } بتعريف طرفي الجملة الإسمية "هو" و "الذي" وهو من أدوات الحصر أي أن الله تعالى هو وحده لا غيره خلق هذا الإنسان على ظهر الأرض. { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }: أفاد أن الحشر مختص بكونه إلى الله لا إلى غيره بتقديم الجار والمجرور "إليه" على فعل "تحشرون" الذي يتعلق به الجار والمجرور.
{ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}: إنه مجرد سؤال للشغب والتشكيك في أدلة الحشر القطعية، سؤال لا جدوى منه، لأن هذا اليوم آت لا ريب فيه، والاستعداد له هو المطلوب، قَرُب ذلك اليوم أم بَعُد، وقد اقتضت حكمته تعالى إخفاء موعده عن الناس، لذلك جاء الجواب: { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }: هذا وعد لا يعلمه أحد إلا الله، وليست وظيفة النبي أكثر من الإنذار، أي إعلام الناس بمخاطر مخالفاتهم وأعمالهم، وسؤالكم هذا سؤال العناد والتكبر، الذي لا ينفع مع صاحبه حجة، ولا برهان، لذلك عقب بقوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }: هدَّدهم بما يلقون من هذا اليوم، وعطف الكلام بحرف الفاء { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } أي قريباً منهم.
وأكثر المفسرين على أن المراد بقوله: { رَأَوْهُ } معناه العذاب الموعود وهو عذاب الآخرة الذي دل عليه قوله: { تُحْشَرُونَ }.
وقال بعضهم: المراد الحشر، وهو الظاهر بحسب عود الضمير للأقرب المذكور قبل في قوله: { تُحْشَرُونَ }.
والراجح – والله أعلم – أن المراد رؤية العذاب، لأنه المتبادر، أي إنهم لما رأوا العذاب قريباً: { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }: أي ظهرت عليهم المساءة بأن غشيتها الكآبة ورهقها القتر والذلة. وكان الظاهر أن يقول "سيئت وجوههم" كما قال في الأول { رَأَوْهُ }، لكن عبر عنهم باسم الموصول { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فوضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر، ولبيان أنه هو السبب والعلة في حلول المساءة بهم وبأكرم شيء منهم وهو { وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
{ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ }: أي تطلبونه في الدنيا، استعجالاً واستهزاء.
وبعد أن بين تحقُّق العذاب في هذه الصورة المعبرة رجع بالخطاب للكافرين يقول لهم: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا }: والرؤية هنا مجاز عن الإخبار، لأنها سبب للإخبار، وفيها تحدٍّ لهم أن يأتوا بخبر يقيني أنه إن افترض أن الله أهلك النبي والمؤمنين ووقع ما يتمنى أعداؤهم بهم من الهلاك أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم جزاء على كفركم. فمن يجيركم من عذاب الله؟! أي لا يخلصكم أحد، فخلِّصوا أنفسكم بالتوبة والإنابة والرجوع إلى دينه.
ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالإيمان، وأن فيما هم فيه شغلاً شاغلاً عن تمني هلاك النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين. وهذا أَوْجَهُ أوْجُهٍ ثلاثة ذكرها الزمخشري. (14)
وفي هذه الآية استدلال بديع يزحزح المعاندين عن جمودهم، حيث يقرر لهم أن المؤمنين على أي حال ليسوا بخاسرين، بل هم في جناب رحمته تعالى ينتظرون إحدى الحسنيين. أما الكافرون فليس لهم إلا الهلاك، ولا نجاة لهم من العذاب، لا ينجيهم منه أحد ألبتة. وهذا يشير إلى أن العاقل يجب عليه أن يلتزم جانب الإيمان، لأنه سيؤدي به إلى النجاة على كل حال.
{ فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }: فإن الكلام كان موجهاً إليهم بصيغة الخطاب، فذكرتهم بهذا الأسلوب الغائب على سبيل الالتفات لتشير لهم أنكم موسومون بسمة العذاب، وهي الكفر الذي لا ينجو صاحبه لفظاعة جريرته.
ثم يخاطبهم القرآن خطاباً ثانياً يترقى فيه من التهديد السابق إلى الجزم باطمئنان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }: فالله عز وجل من أعظم صفاته الرحمة، ومن أعظم أسمائه الحسنى الرحمن، أي البالغ الرحمة في حق عباده، وقد آمنا به واعتمدنا عليه دون غيره في أمورنا ومصيرنا، ومَنْ كان كذلك فهو ناج لا محالة، ومضاده هالك لا محالة، وقد ألمح إلى ذلك تلميح الواثق في هذه الجملة: { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }.
ويوجه القرآن إليهم في ختام السورة هذا الخطاب الذي يهز النفس من الأعماق:
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }: وهذا إلزام لهم بالضعف الإنساني عن أبسط شيء من ضروريات الحياة، وهو الماء الذي جادت به العناية الإلهية على الناس، حتى ظنوا أن أمره سهل.
وترتبط الآية بما قبلها بارتباط قوي حيث أشار تعالى في الآية السابقة إلى أنه يجب أن يتوكل عليه لا على غيره، وذكر الدليل عليه هنا فقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }: فوجه إليهم هذا السؤال، وهو استفهام إنكاري: { إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } أي ذاهباً في أعماق الأرض: { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }: أي عذب كثير سهل المأخذ. والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. أي أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }، فلا بد وأن يقولوا الله، فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية؟ !!! وهو سؤال يحمل في طياته الجواب لينطق به كل من يسمع هذا السؤال بلسان الفطرة وبلسان العقل السليم وهو يستشعر يد الله عليه في كل شؤونه ويحس افتقاره إليه، ليقر ويعتقد ما صُدِّرت به السورة فيقول: لا أحد يأتي به إلا { الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
( أ.د. نور الدين عتر )
تفسير سورة تبارك الملك
تعريف عام بالسورة:
سورة "الملك" وتسمى سورة "تبارك الذي بيده الملك"، وسورة "المانعة" و "المنجية".
وهي سورة مكية كلها باتفاق العلماء، تبلغ عدة آياتها ثلاثين آية، كما نص عليه الحديث الشريف.
وموضوع السورة الذي تدور حوله معاني آياتها وفقراتها هو بيان أن تدبير العالم وسلطة التصرف فيه هي لله وحده سبحانه. وهي تقرر بذلك عقيدة هامة في حياة الإنسان، وركناً من أركان الدين، هو توحيد الأفعال. إذ توضح أن كل العوالم في الأرض والجو والسماء، وفي الدنيا والآخرة هي بيد قدرته وقهره سبحانه. ومن أجل هذا الغرض تعرض السورة أمام الإنسان جوانب الدنيا من الحياة والموت، والسماء والأرض والعيش والرزق لتري هذا الإنسان آثار قدرة الله تعالى في هذا العالم مدبرة له متصرفة فيه على أحسن وجه وأبدع نظام.
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [1-4].
المعنى والأسلوب:
افتتحت السورة بهذا الثناء الجامع المعبر:
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ }: لتقرر به أصلاً اعتقاديّاً عظيماً يتفرع منه سائر ما يأتي في السورة من المعاني والصور، فكان في هذا الافتتاح تهيئة وإعداد للذهن لتقبل ما سيلقى عليه من التفصيل فيما بعد. وهو ما يسميه علماء البلاغة "براعة الاستهلال". ومن القرآن العظيم أُخذ هذا الفن، كما أخذت منه سائر فنون البلاغة والبيان. وقد بين هذا الافتتاح تمجيد ذات الله تعالى وتعظيمه وزيادة خيراته وأفضاله على الملك الذي بيده، ودوامها عليه.
وعبر القرآن بهذه الصيغة "تبارك" لأن هذه الصيغة على زنة "تفاعل" تختص بمعنى جليل، هو الدلالة على غاية الكمال ونهاية التعظيم، لذلك لم يجز استعمال الوصف بها للمدح إلا لله سبحانه.
فلا يجوز أن تقول: "تبارك" أو "تعاظم" أو "تعالى" إلا لله عز وجل. (1)
{ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ }: أي السلطان النافذ في كل شيء: مُلك السماوات والأرض، والدنيا والآخرة. يفعل ما يشاء في العوالم كلها إيجاداً أو إعداماً، تغييراً وتبديلاً، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، كل ذلك في قبضة قدرته سبحانه ومشيئته مقهور صاغر لعظمته.
{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }: أي إنه تعالى بليغ القدرة يتصرف كيف يريد من إنعام وانتقام، ورفع ووضع، وإيجاد وإعدام. لا يعجزه سبحانه شيء من الأشياء.
وقد أضفت { كُلِّ شَيْءٍ } مزيداً من القوة على معنى الجملة السابقة، لأنها صرحت بشمول قدرته شمولاً لا يخرج منه شيء من الأشياء القليلة أو الكثيرة، ولا يُستثنى منه أمر من جلائل الأمور أو دقائقها. فكانت تكميلاً لما سبق من هذه الناحية في نظرنا.
ثم شرع في تفصيل هذا الافتتاح الجليل الذي افتتحت به السورة فقال: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }: وقد بينت هذه الآية مثالين عظيمين من آثار السلطان الإلهي والقدرة الإلهية. هما: الموت والحياة، وأنهما مبنيان على قوانين الحكم وغاياتها الجليلة، وهي اختبار الناس، ليظهر أيهم أحسن عملاً.
والموت ورد في الآية مطلقاً، فيشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق بعدها، كذلك الحياة مطلقة تشمل ما قبل الموت وما بعده.
{ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }: وبهذا ارتفع شأن الحياة عن كونها مجرد متاع لا غاية بعده، كما يتوهم الغافلون، إلى أرفع مستوى، هو ابتلاء الله لخلقه، أي اختبارهم وامتحانهم.
وقد عبرت الآية بلفظ {يبلوكم} لاستمرار الاختبار طالما أن الإنسان على هذه المعمورة. لما قرر اللغويون في أصل الكلمة واشتقاقها من البِلى، فكأنهم ابتلوا حتى بَلُوا أي خَلِقوا. (2)
وقد بينت الآية غاية هذا الاختبار، فهو اختبار يتطلب من الإنسان أن يكون على أعلى مستوى في أي عمل في أعمال المادة والمعنى، في الدين والدنيا، في القلب والقالب، لأن لفظ "عمل" ورد في الآية مطلقاً فيتناول جميع الأعمال: أعمال الجوارح وأعمال القلوب.
وقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: "أيكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله تعالى، وأسرع في طاعة الله عز وجل". (3)
وعن السدي في الآية: { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قال: "أيكم أحسن للموت ذكراً، وله استعداداً ومنه خوفاً وحذراً".(4)
ثم انتقلت السورة إلى بيان مظاهر أخرى للملك والقدرة النافذة في هذه الآية: { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ }: فالله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير هو الذي خلق سبع سماوات، فربطت العقيدة اليقينية بسلطان الله وقدرته ووصلتها بهذا الخلق العظيم خلق سبع سماوات.
وقد لفت القرآن بأسلوب عجيب نظر كل إنسان يبصر ويعقل إلى دقة خلق السماوات وإحكامها على الرغم من ضخامة أبعادها ضخامة لا يحيط بها الخيال، فليس فيها أي خلل أو اضطراب، فعبر عن ذلك تعبيراً بليغاً غاية البلاغة في قوله: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ }: فقد وجه الخطاب إلى كل إنسان له عقل وبصر يقول له: "ما ترى" في هذا الخلق الضخم أي خلل أو نقص.
وقد قرر القرآن هذه الحقيقة تقريراً في غاية القوة، بأن وجه الخطاب بالأمر للتحدي إلى كل من يتأتى منه الخطاب ويعقل الجواب { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ }، فهذا الأمر يتحدى كل من يعقل الكلام بأن "يرجع" أي يردد بصره في السماء يفتشها هل يرى فيها من فطور، أي أدنى وأقل فطور وصدوع.
{ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ }: أي يرجع إليك بصرك مطروداً محروماً من أن يشاهد أي خلل أو صدوع في السماء.
وقد أفاد هذا التعبير { خَاسِئًا } قوة في المعنى المراد، لما في اللفظ من دلالة على معنى الطرد مع الذلة، وأبرزت الآية إحكام عالم السماوات إبرازاً عظيماً بهذه العبارة أيضاً، حيث صورتها لشدة إحكامها كأنها كائن حي يحس بالبصر يتجسس عليه بحثاً عن خلل فيه، فيطرده شر طردة، كما يطرد الكلب بقماءة وذلة، فيرجع البصر من محاولته العنيدة: { وَهُوَ حَسِيرٌ } قال مجاهد وقتادة والسدي: "الحسير: المنقطع من الإعياء – أي التعب الشديد – ولا يرى نقصاً". (5)
قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [5-11].
المعنى والأسلوب: بعد أن بين الله تعالى في الآيات السابقة إعجاز السماء ودلالتها على عظمة الله وسلطانه لما فيها من دقة الصنع وإتقانه البالغ غاية الغايات. بين في هذه الآيات دلالتها على عظمته سبحانه من جهة أخرى هي كونها في غاية الجمال فقال: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا } أي القربى منكم { بِمَصَابِيحَ }، وهي الكواكب بأنواعها الثوابت والسيارات، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح المضيئة، ولقد زينا سقف الدار الدنيا التي اجتمعتم فيها بمصابيح وأي مصابيح، هي عظيمة جدّاً. وهي آية جمالية في غاية الحسن لا يمل منها القلب كيفما قلَّب نظره فيها، ولذلك صدَّر الآية بالقسم: "ولقد"، أي وبالله لقد، لإظهار كمال الاعتناء بمضمون الآية، ثم عبر بنون المتكلم المعظم "نا" في قوله "زينا" و "جعلناها" دلالة على عظمة الله تعالى وقدسيته.
وهكذا جمع القرآن في هذا السياق بين دلالة الكمال والجمال: دلالة الكمال في قوله: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ }، ودلالة الجمال في هذه الآية، وبذلك أصبح البرهان شاملاً للناس كافة، سواء كان أحدهم يميل إلى الكمال أو يتعشق الجمال.
ثم ذكر لهذه المصابيح منافع أخرى:
{ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ }: ترميهم بشهب تنفصل عنها، لتدحرهم عما أرادوه من تطلع أخبار السماء.
{ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ }: هيأنا للشياطين العذاب المحرق البالغ أشد الإحراق.
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }: بين هنا أن العذاب مستحق لكل من كفر بالله عز وجل. (6)
ثم ذكر ما يلقون فيها من شديد العذاب في تصوير مروع مخيف: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ}:
فأول ما يحسون منها فظاعة صوتها الذي سماه "شهيقاً"، وهو صوت الحمير أنكر الأصوات، وهو حسيسها المنكر الفظيع الذي ذكره القرآن في وصف المؤمنين {لا يسمعون حسيسها}.
{ وَهِيَ تَفُورُ }: قال ابن عباس: "تغلي بهم غَلْيَ المرجل". وهذا من شدة لهب النار من شدة الغضب، كما تقول: "فلان يفور غيظاً" وقال مجاهد: "تفور بهم كما يفور الحب القليل في الماء الكثير". (7)
{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ }: أي توشك جهنم أن تتقطع وتنفصل عن بعضها بعضاً لما بها من أشد الغضب على هؤلاء الذين كفروا بربهم. ( وفي هذا العذاب المروع: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا }: وهم حراس النار والقائمون بعقاب أهلها: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }: ويعلم الخزنة أن الرسل جاءتهم وأنذرتهم هول العذاب، لكنه سؤال التوبيخ واللوم يضاعف عليهم ما يلقون من العذاب.
{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ }: { قَالُوا } اعترافاً بأنه عز وجل قد أزاح عللهم بالكلية: { بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ } وجمعوا بين حرف الجواب { بَلَى } ونفي الجملة المجاب بها { قَدْ جَاءَنَا } مبالغة في الاعتراف بمجيء النذير وتحسراً على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم، وتمهيداً لما وقع منهم من التفريط تندماً واغتماماً على ذلك. (9)
هكذا بالتأكيد والتحقيق { قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ }.
ثم عادوا على أنفسهم باللوم: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }: فقد أقروا أن الدعوة كانت في غاية الوضوح والقوة، يدركها كل ذي سمع وكل ذي عقل، لكن الآفة منهم، حيث غلبهم الهوى حتى عطلوا أسماعهم وأبطلوا عقولهم، لأنهم لم ينتفعوا بأهم ما خلقت له هذه المواهب.
وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة فقالوا: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }، أي لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزل الله من الحق لما كنا على ما كنا عليه من الكفر والاغترار به، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل، وما كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم.
قال الله تعالى: { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ }: فذكر الله تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وأخرج الإمام أحمد في المسند عنه أنه قال: "لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم". (10)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [12-14].
المعنى والأسلوب:
بعد أن ذكر القرآن هول عذاب الكافرين ذكر نعيم المؤمنين الصالحين تكميلاً لما أشار إليه في صدر السورة بقوله { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [هود: 7].
وقد عبر القرآن عن المؤمنين بهذا الوصف: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ }: وهو وصف جليل يصف المؤمنين بغاية الصدق في إيمانهم بالله وتعظيمهم لربهم، فخافوا عذابه وإن لم يروه، وذلك يجعلهم يجتنبون معصية الله من غير أن يحتاجوا إلى رقيب عليهم من سوى أنفسهم لأنهم يخشون عقاب ربهم بالغيب.
ثم بعد أن بين فضل خشية الله بالغيب نبه على كمال علم الله وإحاطته بالضمائر والأسرار الخفية فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }: وهو تقرير لوجوب خشية الله وترسيخ لها في القلب، وأنه لا بد من حصول الثواب والعقاب.
وقد نبهت الآية على كمال علم الله تعالى بالسر والجهر بأسلوب بليغ جدّاً في قوله تعالى: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ }، وظاهر هذا التعبير الأمر بأحد الأمرين: الإسرار والإجهار، لكن المراد هو التسوية بينهما، والمعنى: ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما غاية التساوي. ولتأكيد هذا المعنى وترسيخه في القلب، نلاحظ في الآية تقديم السر على الجهر. وفي هذا يقول الآلوسي: "وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في شمول علمه عز وجل المحيط بجميع المعلومات، كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به، مع كونهما في الحقيقة على السوية. أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر، إذ ما من شيء يُجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب غالباً، فتعلُّق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على حالته الثانية". (11)
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }: هذه جملة مستأنفة تأكيد لما سبق في صدر الآية، أكد الله فيها علمه البالغ بصيغة فعيل "عليم" وعبر بصيغة الجمع مع "الـ" الاستغراق "الصدور"، ووصف الأسرار المضمرة بصاحبيتها للصدور، فكان في غاية القوة، وكأنه يقول: إنه عالم غاية العلم بمضمرات صدور الناس وأسرارهم الخفية المستقرة في صدورهم لا تفارقها، فكيف يخفى عليه شيء مما تسرون به أو تجهرون.
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }: هذا تقرير أيضاً لإحاطة علمه تعالى بسرائر الناس بأسلوب برهاني استدلالي بارع، أي ألا يعلم السر والجهر من خلق جميع الأشياء، ومن بينها السر والجهر، وقد صدَّر الجملة بهمزة الاستفهام المقصودة بها النفي، وأدخلها على "لا" النافية ليدل على تأكيد علمه وثبوته ثبوتاً لا يقبل أي شك أو بحث، لأن نفي النفي إثبات. فهو سبحانه خالق الأسرار والضمائر، وخالق كل شيء فكيف لا يعلمها. وهو سبحانه { اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }، اللطيف الذي يتوصل إلى ما يريد بأدق الوسائل وأخفاها وأنفذها، فهو يعلم خفايا الصدور، وهو سبحانه { الْخَبِيرُ } المتوصل علمه إلى دقائق الأمور وخفاياها، لا شك أنه يعلم ذلك غاية العلم وأعظمه.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [15-19].
المعنى والأسلوب:
بعد أن بين القرآن في الآية السابقة أن الله تعالى هو الخالق وأنه يعلم سرائر الناس وعلانيتهم بين هنا سوابغ نعم الله عليهم بياناً فيه إظهار قدرته تقوية لدعوتهم إلى توحيد الله وطاعته فقال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا }: أي إنه تعالى جعل الأرض منقادة مسهَّلة لكم: { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: "أطرافها وفجاجها ونواحيها".
وقد عرض القرآن هذا المعنى عرضاً فيه قوة وحياة بتصوير الأرض بصورة دابة مسخرة للإنسان، والمعنى في تأكيد هذا الأسلوب والتفنن فيه في قوله: { ذَلُولًا } والذل لا يوصف به إلا الأحياء، ثم في قوله { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }. وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف.
{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }: أي التسموا من نعمه على شتى أنواعها، وليس المقصود خصوص الأكل فقط كما يُتوهم، لكنه ذكر الأكل لأنه الأهم الأعم.
وهذا كله قد جاء بصيغة الأمر { فَامْشُوا } و { وَكُلُوا } لإظهار المنة والرحمة الإلهية بهذا الإنسان حتى يشكر نعمة ربه، لذلك عقَّبت الآية سياق هذه النعمة بهذا التذكير: { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }: فذكرهم بأنه إليه وحده سبحانه المرجع لا إلى غيره، فبالِغوا في شكر هذه النعم ولا تقصِّروا.
{ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }: بعد أن بين أنه تعالى إليه النشور عقَّب ذلك بقوارع من التذكير حتى ينتبه الناس من غفلة الطمأنينة على هذه الأرض المستقرة المذللة، ويرجعوا إلى الله تعالى. وقد خاطبهم بقوله: {َأَمِنْتُمْ} يستنكر عليهم هذه الغفلة، هل أمنوا أن يبدل الله حال الأرض الذلول فيخسفها أي يقلبها بهم فيغيبوا في جوفها فتضطرب وتذهب وتجيء ؟!
وهذه أحداث الزلازل والبراكين يعرفها الناس ويسمعون أخبارها ويعلمون ماذا تفعل من الأفاعيل في دقائق يسيرة بل في ثوان، ويعلمون كيف يصبح هذا الإنسان المتغطرس وماذا يغني عن نفسه منها.
ثم ينتقل إلى تهديد آخر: { أَمْ أَمِنْتُمْ }؟: أي بل أأمنتم. { مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا }: حجارة من السماء تحملها الأعاصير أو غيرها مما يرسله الله بالعذاب: فستعملون عند مشاهدتها كيف إنذاري لكم وتوقنون به، لكن حيث لا ينفع العلم شيئاً، وهو تهديد قوي جدّاً يشير إلى وشك نزول العذاب بالمعاندين.
ومن ثم أكد هذا التخويف بالتذكير بما سبق من عقاب السابقين ليكون التخويف بمثال يعتبر به: { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }: وهو تذكير مخيف تأكد بالقسم { وَلَقَدْ } ثم ختم بهذا الاستفهام للتعجيب {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب !! أي إنه كان على غاية الهول والشدة والفظاعة.
وهذا التعبير المهول هو المقصود بالقسم لتتحرك القلوب فتتعظ وتتذكر. وفي الكلام من البلاغة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد للكفرة ما لا يخفى.
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }: بعد أن ذكَّر الله عباده أنه قادر على أخذهم بالعقاب بمثال ضربه لهم انتقل إلى تخويفهم بالبرهان على ذلك، وهو البرهان على كمال قدرته، ومتى ثبت ذلك ثبت كونه تعالى قادراً على إيصال جميع أنواع العذاب إليهم". (12)
وقد قام هذا البرهان بأن أثار تأملهم وتفكرهم في هذا الشيء الذي يذكرهم به، وهو مشهد يرونه كثيراً، لكنهم لا يعتبرون بما فيه من دلائل القدرة وخوارقها.
وقد بدأ التذكير بهذا الاستفهام الإنكاري: { أَوَلَمْ }، أي أغفلوا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات باسطات أجنحتها، { وَيَقْبِضْنَ } أي تضرب جنوبها بأجنحتها في الطيران.
{ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }: والمعنى أنه لكونه اتصف بتلك القدرة والإبداع والرحمة والصفات التي ظهرت آثارها في خلق الطير فهو سبحانه يعلم كيفية إبداع المُبدعات، وتدبير المصنوعات، ومنها خلقه للطير على وجه يتأتى به جريه في جو السماء.
قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [20-21].
المعنى والأسلوب:
بعدما أوضح القرآن معجزة الطيران التي صدَّرها بالاستفهام التوبيخي على ترك التأمل فيما يشاهدونه منها بقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا }، انتقل إلى تبكيت الكافرين بلجوئهم إلى من لا حول له ولا قوة فقال: { أَمَّنْ } فاستعمل "أم" المنقطعة بمعنى (بل) فقال: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ }: وكأنه يقول: كفى ما بينا من دلائل قدرة الله تعالى وسلطانه، ننتقل بكم إلى أمر آخر ننظر حالكم: أرونا هذا السند { الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } أي يمنعكم من عذاب الله تعالى، وهذا الأسلوب فيه توبيخ لهم بالاستفهام الذي يفيد النفي، أي لا أحد ينصركم من دونه تعالى، كما أنه تسفيه لهم لاستنادهم إلى مخلوق لا حول له ولا طول.
وكان أصل العبارة "من ينصركم من دون الرحمن"، لكن عدل إلى هذا الأسلوب { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي } ليشير إلى تحقيره في قوله { هَذَا الَّذِي ...} والمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم من دون الرحمن. (13)
ومن ثم سجَّل عليهم الحماقة في صنيعهم هذا فقال: { إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ }: فجاء تسجيلاً في غاية القوة والتأكيد في هذا الحصر: أي ما هم إلا في غرور، فقد أشار بذلك إلى إحاطة الغرور بهم إحاطة الظرف بالمظروف، فهم غارقون في الضلال والتعلل بالأوهام.
ومن ثم انتقل بهم إلى ناحية أشد التصاقاً بإحساسهم لاضطرارهم إليها كل وقت اضطراراً أظهر، وهي الرزق ليسألهم على نفس الأسلوب: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ }: أي بل من هذا الذي يرزقكم إن أمسك الله عز وجل رزقه عنكم. فالرزق إنما يأتي بإرادة الله عز وجل وحده، من أول مباديه إلى أن يجنيه هذا الإنسان الكفور، أما ما يتوهمه الإنسان من جهده وعمله فليس إلا جنياً لحصاد قدرة الله يجنيه أيضاً بما أعطاه الله من القدرة والعلم وغير ذلك.
وهكذا كل ذرة رزق هي من صنع الله وبإمداده، فماذا يصدّر هذا الإنسان بعد ذلك من عبادة الله والانقياد له إلا العناد والتجبر، لذلك ذيَّل الآية بقوله: { بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ }: أي دعهم، إنهم متمادون في عصيان وطغيان، وفي نفور فظيع من الحق، تلبَّس بهم حتى ظلوا في هذا الإعراض المتمرد النافر. فأضرب بحرف "بل" عن خطابهم، والتفت عنهم، ليسجل عليهم ما في نفوسهم من الوصف الذميم.
قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [22-30].
المعنى والأسلوب:
بعد أن بين في الآيتين السابقتين عناد الكافرين واستكبارهم وانخراطهم في مهاوي الغرور العمياء ضرب في مطلع هذا النص مثلاً للكافر والمؤمن الموحِّد، تنبيهاً على قبح ما وصف به الكافر وفظاعة أثر ذلك الوصف عليه، وتبياناً لحال الفريقين في وضوح الرؤية عند المؤمن وظلمة القضية التي في قلب الكافر والملحد، لذلك عطف بحرف الفاء فقال: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى }: فالقرآن ضرب في هذه الآية للكافر والملحد مثلاً بالذي يمشي وهو مكبٌّ أي ساقط على وجهه، لأنه يعثر في كل ساعة، ويسقط على وجهه في كل خطوة، لتوعر طريقه واختلال قواه.
وهذا مثل مادي يبين حقيقة حال الكافر والملحد وأنه ليس على بصيرة ولا يقين له بعقيدته. فصورت الآية الحقيقة النفسية لهؤلاء بأنهم لا براهين عندهم تثبت معتقدهم إثباتاً صحيحاً وتنير طريقهم، ولا ميزان عندهم يَزِنُون به الأمور والقضايا، وإنما يعيشون على أحلام وأوهام، لذلك فإن الكافر والملحد قلق دائماً من براهين الإيمان والتوحيد، لا يريح بالتسليم لأهلها، ولا يستريح بالإذعان لها والاهتداء بضيائها، فهل هذا أهدى: { أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }: إن المؤمن { يَمْشِي سَوِيًّا } معتدلاً مستقيم القامة يرى كل شيء أمامه، وهو في طريق مستقيم لا عوج فيه، ولا خفاء لشيء منه، فكل ما يعرض له من الأمور والقضايا يسلك فيه الطريق السويّ الذي هداه الله إليه { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }.
ثم قرر وضوح هذه الرؤية الإيمانية بأنها على غاية الجلاء تشهد بها على الإنسان نفسه فقال: { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ }: ذكر أولاً في هذه الآية خلق أنفسهم، فهذا الخلق العظيم المحكم الذي عليه الإنسان لا بد له من خالق، وليس من المعقول أن عدماً يخلق موجوداً، فإن هذا من أوضح المستحيلات، ثم ذكر جل شأنه جعل السمع والأبصار والأفئدة، أي العقول للناس، وكل واحد فيه الآيات الكثيرة على عظمة الخالق وتوحيده سبحانه يزيد العلم الحديث استدلال القرآن بها قوة ويقيناً.
لذلك ذكرهم بحقيقة الحشر التي تنتظرهم لتظهر فيها نتيجة الابتلاء الذي ذكر في أول السورة: { قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }: فبين اختصاصه بخلق الناس وإظهارهم في هذه الدنيا بقوله: { هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ } بتعريف طرفي الجملة الإسمية "هو" و "الذي" وهو من أدوات الحصر أي أن الله تعالى هو وحده لا غيره خلق هذا الإنسان على ظهر الأرض. { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }: أفاد أن الحشر مختص بكونه إلى الله لا إلى غيره بتقديم الجار والمجرور "إليه" على فعل "تحشرون" الذي يتعلق به الجار والمجرور.
{ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}: إنه مجرد سؤال للشغب والتشكيك في أدلة الحشر القطعية، سؤال لا جدوى منه، لأن هذا اليوم آت لا ريب فيه، والاستعداد له هو المطلوب، قَرُب ذلك اليوم أم بَعُد، وقد اقتضت حكمته تعالى إخفاء موعده عن الناس، لذلك جاء الجواب: { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }: هذا وعد لا يعلمه أحد إلا الله، وليست وظيفة النبي أكثر من الإنذار، أي إعلام الناس بمخاطر مخالفاتهم وأعمالهم، وسؤالكم هذا سؤال العناد والتكبر، الذي لا ينفع مع صاحبه حجة، ولا برهان، لذلك عقب بقوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }: هدَّدهم بما يلقون من هذا اليوم، وعطف الكلام بحرف الفاء { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } أي قريباً منهم.
وأكثر المفسرين على أن المراد بقوله: { رَأَوْهُ } معناه العذاب الموعود وهو عذاب الآخرة الذي دل عليه قوله: { تُحْشَرُونَ }.
وقال بعضهم: المراد الحشر، وهو الظاهر بحسب عود الضمير للأقرب المذكور قبل في قوله: { تُحْشَرُونَ }.
والراجح – والله أعلم – أن المراد رؤية العذاب، لأنه المتبادر، أي إنهم لما رأوا العذاب قريباً: { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }: أي ظهرت عليهم المساءة بأن غشيتها الكآبة ورهقها القتر والذلة. وكان الظاهر أن يقول "سيئت وجوههم" كما قال في الأول { رَأَوْهُ }، لكن عبر عنهم باسم الموصول { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فوضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر، ولبيان أنه هو السبب والعلة في حلول المساءة بهم وبأكرم شيء منهم وهو { وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
{ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ }: أي تطلبونه في الدنيا، استعجالاً واستهزاء.
وبعد أن بين تحقُّق العذاب في هذه الصورة المعبرة رجع بالخطاب للكافرين يقول لهم: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا }: والرؤية هنا مجاز عن الإخبار، لأنها سبب للإخبار، وفيها تحدٍّ لهم أن يأتوا بخبر يقيني أنه إن افترض أن الله أهلك النبي والمؤمنين ووقع ما يتمنى أعداؤهم بهم من الهلاك أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم جزاء على كفركم. فمن يجيركم من عذاب الله؟! أي لا يخلصكم أحد، فخلِّصوا أنفسكم بالتوبة والإنابة والرجوع إلى دينه.
ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالإيمان، وأن فيما هم فيه شغلاً شاغلاً عن تمني هلاك النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين. وهذا أَوْجَهُ أوْجُهٍ ثلاثة ذكرها الزمخشري. (14)
وفي هذه الآية استدلال بديع يزحزح المعاندين عن جمودهم، حيث يقرر لهم أن المؤمنين على أي حال ليسوا بخاسرين، بل هم في جناب رحمته تعالى ينتظرون إحدى الحسنيين. أما الكافرون فليس لهم إلا الهلاك، ولا نجاة لهم من العذاب، لا ينجيهم منه أحد ألبتة. وهذا يشير إلى أن العاقل يجب عليه أن يلتزم جانب الإيمان، لأنه سيؤدي به إلى النجاة على كل حال.
{ فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }: فإن الكلام كان موجهاً إليهم بصيغة الخطاب، فذكرتهم بهذا الأسلوب الغائب على سبيل الالتفات لتشير لهم أنكم موسومون بسمة العذاب، وهي الكفر الذي لا ينجو صاحبه لفظاعة جريرته.
ثم يخاطبهم القرآن خطاباً ثانياً يترقى فيه من التهديد السابق إلى الجزم باطمئنان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا }: فالله عز وجل من أعظم صفاته الرحمة، ومن أعظم أسمائه الحسنى الرحمن، أي البالغ الرحمة في حق عباده، وقد آمنا به واعتمدنا عليه دون غيره في أمورنا ومصيرنا، ومَنْ كان كذلك فهو ناج لا محالة، ومضاده هالك لا محالة، وقد ألمح إلى ذلك تلميح الواثق في هذه الجملة: { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }.
ويوجه القرآن إليهم في ختام السورة هذا الخطاب الذي يهز النفس من الأعماق:
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }: وهذا إلزام لهم بالضعف الإنساني عن أبسط شيء من ضروريات الحياة، وهو الماء الذي جادت به العناية الإلهية على الناس، حتى ظنوا أن أمره سهل.
وترتبط الآية بما قبلها بارتباط قوي حيث أشار تعالى في الآية السابقة إلى أنه يجب أن يتوكل عليه لا على غيره، وذكر الدليل عليه هنا فقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }: فوجه إليهم هذا السؤال، وهو استفهام إنكاري: { إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } أي ذاهباً في أعماق الأرض: { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }: أي عذب كثير سهل المأخذ. والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. أي أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباً في الأرض { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }، فلا بد وأن يقولوا الله، فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية؟ !!! وهو سؤال يحمل في طياته الجواب لينطق به كل من يسمع هذا السؤال بلسان الفطرة وبلسان العقل السليم وهو يستشعر يد الله عليه في كل شؤونه ويحس افتقاره إليه، ليقر ويعتقد ما صُدِّرت به السورة فيقول: لا أحد يأتي به إلا { الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
( أ.د. نور الدين عتر )