بسم الله
سورة الأنعام هي السورة السادسة حسب ترتيب المصحف،
وقبلها سور : الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة.
وهي السورة الخامسة والخمسون، حسب ترتيب نزول القرآن،
حيث أنزلت بعد سورة " الحجر "، وأنزلت بعدها سورة " الصافات ".
ومن المعلوم أن الله الحكيم أنزل القرآن منجماً حسب الحوادث، كما أنه من المعلوم أن ترتيب السور في المصحف التوقيفي ليس على أساس النزول، وإنما على أساس التناسب والتناسق والترابط ..
وسورة الأنعام أول سورة مكية طويلة حسب ترتيب المصحف، فما قبلها أربع سور مدنية طويلة، هي سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. أما سورة الفاتحة التي جعلها الله فاتحة القرآن وأم الكتاب فهي سورة مكية، وهي السورة الخامسة في النزول، بينما سورة الأنعام هي الخامسة والخمسون .. لكن سورة الفاتحة المكية قصيرة، آياتها سبع، ولذلك قلنا: إن سورة الأنعام هي أول سورة مكية طويلة حسب ترتيب المصحف.
اسم السورة التوقيفي:
نعلم أن أسماء السور " توقيفية "، أي أنها من عند الله، فالله هو الذي أمر أن تسمى كل سورة باسمها المذكور في القرآن، وأن اسمها يؤخذ من شيء مذكور فيها، اختصت هي بذكره أو تميزت به.
ولهذه السورة اسم توقيفي واحد، هو " سورة الأنعام ". وسميت بذلك لأن كلمة " الأنعام " مذكورة ست مرات فيها.
ومن اللطائف أن كلمة " الأنعام " مذكورة ثلاث مرات في آية واحد من آياتها، هي قوله تعالى : " وقالوا هذه أنعام وحرث حجر، لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءً عليه، سيجزيهم بما كانوا يفترون" (الأنعام : 138).
و " الأنعام " جمع. مفرده: " نَعَم " - بفتح النون والعين - .. وفعله الثلاثي نَعِم. : نقول: نَعِمَ، ينْعَم، نَعَماً. من باب: فِرح، يفرَح، فرَحاً. و " النَعَم" بفتح النون والعين : اسم جمع ، لا مفرد له. وقد ورد مرة واحدة في القرآن، وذلك في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم " (المائدة : 95).
نقول : نَعَمٌ وأنعام. كما نقول: ثَقَل وأثقال .. والأنعام تطلق على الأصناف الحيوانية الأربعة، التي أنعم الله بها علينا، وهي : الإبل، والبقر، والضأن، والماعز ...
والأصناف الأربعة هي الأزواج الثمانية، التي قال الله عنها في سورة الأنعام : " ثمانية أزواج: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " و : " ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ..." (الأنعام: 143 – 144).
وهي ثمانية أزواج لأن كل صنف منها زوجان : ذكر وأنثى .. الإبل اثنان: جمل وناقة .. والبقر اثنان: ثور وبقرة .. والضأن اثنان: خروف ونعجة .. والمعز اثنان : تيس وعنزة .. فالمجموع ثمانية أزواج. وسميت هذه الأصناف الأربعة أنعاماً، لأن النعمة فيها ظاهرة من الله على الناس، ولأن الناس يستفيدون من كل ما يتصل بهذه الأنعام، من اللحم والشحم واللبن والجلد والصوف والروث والركوب والانتقال. كما قال تعالى: " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون. وذلّلناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون. ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون .." (يس: 71-73).
ونفرق في هذه المناسبة بين كلمتين متقاربتين في الحروف والحركات: الأنعام والإنعام: فالأنعام بفتح الهمزة جمع " نعم"، وهي الأصناف الأربعة المذكورة. أما " الإنعام "، بكسر الهمزة، فهو مصدر الفعل الرباعي. نقول: أنعم، ينعم، إنعاماً .. فالإنعام بالأنعام نعمة عظيمة من الله على الناس، يجب أن يشكره المؤمنون عليها.
اسم السورة الاجتهادي:
هذا عن معنى اسم السورة التوقيفي، وسبب تسميتها به. أما اسمها الاجتهادي فهو : " سورة الحجة "، ومن المعلوم أنه يجوز أن يذكر لأي سورة قرآنية اسم اجتهادي، يجتهد العلماء في إطلاقه عليها، ويلحظونه من موضوعها ومقاصدها، ولا مانع من إطلاقه عليها، بشرط عدم إلغاء الاسم التوقيفي، والنص على أن هذا اسم اجتهادي، اجتهد العلماء في إطلاقه عليها.
وسورة الأنعام سورة " الحجة " لورود كلمة الحجة فيها. كما في قوله تعالى : " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من نشاء " (الأنعام : 83). وفي قوله تعالى : " قل فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين .." (الأنعام: 149).
وهي سورة الحجة لأن موضوعها هو الانتصار للحق، وإقامة الحجة له، ومواجهة الباطل وتفنيده، وإقامة الحجة عليه.
مكية سورة الأنعام :
سورة الأنعام سورة مكية، أنزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات. والراجح أن سورة الأنعام كلها مكية، وأنها أنزلت كلها دفعة واحدة فليس فيها آية مدنية.
ودليل ذلك ما قاله عبدالله بن عباس رضي الله عنهما : " أنزلت سورة الأنعام : بمكة، ليلاً، جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك، يجأرون حولها بالتسبيح".
ويمكن أن تؤخذ من قول ابن عباس رضي الله عنهما الدلالات التالية:
1- سورة الأنعام كلها مكية.
2- كان إنزالها دفعة واحدة.
3- كان إنزالها ليلاً.
4- نزل معها سبعون ألف ملك، كانوا يسيرون مع جبريل عليه السلام، وهو يحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- كان أولئك الملائكة يسبحون الله بصوت مرتفع، وكأنهم " يزفّون " هذه السورة الجليلة، وهم يجأرون حولها بالتسبيح.
وهذا مما تميزت به هذه السورة: فكأن السبعين ألف ملك كانوا يسيرون في طرقات وشوارع مكة في " مظاهرة" إيمانية، يعلنون فيها توحيد الله وشكره، ويبطلون الشرك به الذي يمارسه المشركون. ومن المعلوم أن المشركين لم يشاهدوا السبعين ألف ملك في تلك الليلة المباركة، ولم يسمعوا تسبيحهم !! وهذا القول عن ابن عباس رضي الله عنهما يردّ على بعض العلماء الذين ذهبوا إلى أن بعض آيات سورة الأنعام مدنية. فالراجح عندنا أن كل آياتها مكية، ليس بينها آية مدنية واحدة. والله أعلم.
من فضائل سورة الأنعام:
يمكن أن نسجل الأقوال التالية عن السابقين، الدالة على فضائل ومزايا هذه السورة:
1- قول ابن عباس السابق: " أنزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك، يجأرون حولها بالتسبيح".
2- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " سورة الأنعام من نواجب القرآن " والنواجب هي : اللباب. وهي جمع " نجب" وهو اللب. وفي رواية ثانية عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " سورة الأنعام من نجائب القرآن ". والنجائب جمع " نجيبة " وهي الفاضلة، فالنجائب هي الفضائل.
إن عمر رضي الله عنه يبين أن سورة الأنعام من أفاضل سور القرآن، لأنها من " لباب " القرآن، ولباب الشيء هو ماكمن داخله واحتفظ به، وكان الاهتمام به أكثر، والحرص عليه أشد.
وهي كذلك لأن موضوعها هو العقيدة، والعقيدة هي أهم موضوعات القرآن ، والمقصد الأساسي فيه.
ونشير إلى أن كل القرآن فاضل في نفسه، فليس في سوره ما هو أفضل ومفضول، وليس فضل بعض سوره على حساب فضل بعض سوره الأخرى ..، وفضائل بعض سوره الواردة في الأحاديث وكلام بعض الصحابة، إنما تشير إلى " فضل السورة في ذاتها " لموضوعاتها، وهذا لا يعني أنها أفضل من غيرها من السور، لأن السور كلها كلام الله، وليس بعض كلام الله بأفضل من بعض كلام الله !!
وقال الإمام أبوإسحاق الإسفراييني : " في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ..".
وقال الإمام فخر الدين الرازي : " قال الأصوليون : اختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة: أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة، والثاني أنها شيّعها سبعون ألفاً من الملائكة. والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم " أصول الدين " في غاية الجلالة والرفعة ".
جو نزول سورة الأنعام:
أنزلت سورة الأنعام في جو خاص، كان يعيشه المسلمون المضطهدون في مكة، كان ذلك الجو " مكروباً "، شديد الضيق والألم والاضطهاد والمعاناة، وقد مرت حركة الدعوة الإسلامية في ذلك الجو بفترة خاصة شديدة، يمكن أن تسمى " الفترة الحرجة".
زادت قريش في تلك الفترة من حربها للإسلام، وإيذائها وتعذيبها للمسلمين، و" صعّدت " من مواجهتها للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وشدّدت حصارها ضد الحركة والدعوة.
في تلك " الفترة الحرجة " تمت محاصرة المسلمين في شعب " أبي طالب" لمدة ثلاث سنوات، لقي المسلمون فيها من الأذى والضيق ما لقوا .. وكانت في هذه الفترة الحرجة الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية إلى الحبشة.
واستمرت هذه الفترة الحرجة عدة سنوات .. وكان كثير من الصحابة يتساءلون عن وقت انتهاء تلك الفترة، وانفراج الأزمة، وزوال الشدة، وينظرون بأمل إلى الفرج والخلاص والانتصار..
وأنزل الله في هذه الفترة عدة سور كريمة، بشّر فيها المسلمين بقرب انفراج الأزمة، وانتهاء الشدة، وفتح باب الأمل بانتصار الإسلام وهزيمة الكفر .. وحققت تلك السور مهمتها في تربية وتعليم وتوجيه المسلمين، وتثبيتهم على الحق، وزيادة تصميمهم على مواجهة الباطل..
من السور التي أنزلت في الفترة الحرجة، سور:
يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر والصافّات.
وفي مقدمة تلك السور التي كان لها أهداف تربوية وتعليمية وجهادية حركية سورة الأنعام، التي أنزلت في " الفترة الحرجة " القاسية.
وأشير إلى أننا نعيش في هذا الزمان " فترة حرجة " شديدة الضيق والقسوة والمعاناة، حيث ازدادت الهجمة اليهودية الأمريكية الصليبية ضد الإسلام والمسلمين والمجاهدين شراسة وإرهاباً ودموية، ونحن في حاجة ماسة إلى الوقفة المتأنية أمام السور القرآنية النازلة في تلك الفترة الحرجة، كسور: الأنعام ويونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر، وغيرها؛ لنتزود منها بمزيد من العلم والوعي والبصيرة والثبات والجهاد ..
أهداف سورة الأنعام:
بعد أن عرفنا " الجو الدعوي الجهادي " الذي أنزلت فيه سورة الأنعام في مكة، فإنه يمكننا التعرف على الأهداف الأساسية التي حققتها السورة في حياة الصحابة.
إن أهم أهداف هذه السورة الجليلة هي :
1- تقرير أهم مبادئ وتصورات وأسس التصور الإسلامي، وترسيخها في كيان المسلمين.
2- الاستدلال لمسائل الإيمان ومباحث العقيدة، واستخراج تلك الدلائل من المشاهد المنظورة في الكون والإنسان.
3- عرض مظاهر توحيد الألوهية والربوبية، وتقديم الدلائل الحياتية على الوحدانية، وربط الكون ومافيه بيد الله وحده.
4- تفنيد مزاعم المشركين، ونقض أفكارهم وتصوراتهم، وإبطال شبهاتهم، وإقامة الحجة عليهم، وعرض نماذج سخيفة مضحكة من عقائدهم وممارساتهم وعباداتهم وأحكامهم وتشريعاتهم ..
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إذا سرّك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام. وهو قوله تعالى : " قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ".
5- شنُّ حرب نفسية ضد المشركين، المغترين بقوتهم، وتيئيسهم من حرب المسلمين، وإخبارهم أن المستقبل في صراعهم مع الحق ليس لصالحهم، وتهديدهم بالعذاب والدمار.
6- تبشير المسلمين بالنصر والفرج، ورفع معنوياتهم، وشحذ عزائمهم، وتعليمهم الحجة في الاحتجاج لما معهم من الحق، والحجة في جهاد أهل الباطل. والخلاصة: إن أهداف سورة الأنعام، أهداف: تعليمية، وتوجيهية، وحركية، وجهادية، وتربوية. وهي نفسها الأهداف الأساسية للقرآن الكريم.
شخصية سورة الأنعام:
تدلنا أهداف سورة الأنعام على " شخصيتها ". تلك الشخصية الخاصة التي ميزتها عن غيرها من سور القرآن، فمن المعلوم أن لكل سورة شخصية تتميز بها، رغم أنها تلتقي مع باقي السور في أنها كلام الله العظيم الجليل المعجز.
شخصية سورة الأنعام أنها سورة: " تعليمية، تربوية، حركية، جهادية ". فهي تعلم المسلمين الحق، وتربيهم على الحق، وتدعوهم إلى الحركة بالحق، وتحثهم على الجهاد بالحق، وتأمرهم بتحدي الباطل ومواجهته وإقامة الحجة عليه. وشخصية السورة وأهدافها ميزتها بموضوعها الأساسي وأقسامها الرئيسية. إن موضوع سورة الأنعام الأساسي هو " العقيدة "، أو : مسائل الإيمان. وكان حديث آيات السورة ودروسها ووحداتها عن الألوهية والربوبية والحاكمية مفصّلاً، كذلك فصّلت الحديث عن الوحي والرسالة، وعن اليوم الآخر وما فيه، وعن الحاكمية الإلهية. وفي أثناء حديثها عن هذه المسائل الإيمانية كانت حريصة على الالتفات إلى المشركين: متحدّية مهدّدة، ومبطلة ناقضة ، ومناقشة موجهة، وكاشفة فاضحة، كما قال ابن عباس.
وإن سورة الأنعام هي سورة العقيدة، بهذا المفهوم الحركي الجهادي، وهكذا عرضت السورة أسس العقيدة عرضها الحي المؤثر.
وهذا معناه أن طريقة القرآن في عرض العقيدة وتقرير حقائقها هي الطريقة الصحيحة النافعة، وأنه آن الأوان كي نأخذ عقيدتنا من القرآن، ونفهمها على أساس القرآن، ونتلقاها بمختلف نوافذ المعرفة والتلقي في كياننا، والعقل هو واحد من هذه النوافذ، وليس منفذها الوحيد ..
" العقيدة السلفية " التي كان عليها السلف الصالح من الصحابة والتابعين هي المأخوذة من القرآن، والتي تتغلغل في كل جوانب الشخصية المسلمة، والتي ينزل بها المؤمن المجاهد إلى الميدان ، يتحرك بها عملياًّ، ويحوّل مبادئها إلى حقائق حياتية معاشة، ويرى آثارها الإيجابية العملية في حياته، يربي نفسه بها، ويواجه أعداء دينه بحقائقها.
هذه هي شخصية سورة الأنعام، وهذه هي أهدافها، وهذه هي موضوعاتها، فلنتعرف عليها، ثم نحسن " صحبتها " والحياة معها على هذا الأساس
( د . صلاح عبدالفتاح الخالدي )