الهمة العالية فى الخضوع لله
من سمات سلف هذه الأمة المبارك أنهم كانوا يتلقون نصوص الشريعة بهمة عالية
واستسلام وإذعان للواحد الديان، وهذه السمة الإيمانية ما ترسخت في هذا
الجيل المبارك إلا بالإيمان القوي والتربية الجادة، وقد دلت نصوص الشريعة
على أهمية هذه السمة في حياة الفرد والأمة، قال الله تعالى: {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ
تَسْلِيماً} [النساء:65].
لقد ابتلى الله صحابة النبي بآية في كتاب الله، وقفوا منها موقف المتلقي
والمذعن لأمر ربه والمشفق على نفسه من التقصير، مع شعور قوي بعظم الأمانة
الملقاة على عاتقهم في تلقي أحكام الشريعة ؛ فظنوا أنهم عاجزون عن العمل
بمقتضاها، فراجعوا رسول الله فيها إشفاقًا على أنفسهم لا اعتراضًا، ومع
ذلك سمعوا وأطاعوا ؛ فنسخ الله حكمها وبقي لفظها، وكم من سامع لها بعدهم
ممن لا يعير النصوص اهتمامًا ولا يظن أنها للامتثال، بل يمر عليها ويقرؤها
لا يلقي لها بالاً ولا يحسب لها حسابًا، ولا يقف عندها ليعرف معناها، بل
يستوي الأمر عنده أنسخت الآية أم لم تنسخ.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله {لِّلَّهِ
ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي
أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]، قال
فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ثم بركوا على الركب. فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من
الأعمال ما نطيق. الصلاة والصيام والجهاد والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه
الآية. ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير». فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم. فأنزل الله في إثرها {آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فلما
فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. وأنزل الله عز وجل: لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا
(قال: نعم) ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا (قال:
نعم) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به (قال: نعم) واعف عنا واغفر لنا
وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (قال: نعم). [رواه مسلم].قال ابن كثير رحمه الله فتجوز لهم من حديث النفس وأخذوا بالأعمال.
أهمية هذه السمة الإيمانية
أن الغاية من الأحكام الشرعية التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة هي العمل بها بتنفيذ أوامرها واجتناب نواهيها، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء:64]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]، قال الخطيب البغدادي:
"والعلم يراد للعمل، كما يراد العمل للنجاة، فإذا كان العلم قاصرًا عن
العمل، كان العلم كلاً على العالم، ونعوذ بالله من علمٍ عاد كلاً، وأورث
ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غلاً" (اقتضاء العلم العمل).
ولذلك قال الفضيل: "إنما نزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً". وقال أبو رزين في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} [البقرة:121]، قال: "يتبعونه حق اتباعه يعملون به حق عمله".
إن الله عاب على أمم سابقة ما تلقوا به النصوص الشرعية، فقال عنهم: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93].
وقال تعالى عن اليهود خاصة: {مَثَلُ
الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، وعن قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} [البقرة:101].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أشد الناس
عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فذنبه من جنس ذنب اليهود".
إن الإعراض عن آيات الله بتعطيل أحكامها من أعظم صور الظلم، قال الله
تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: 57].
أن الإنسان محاسب ومسؤول يوم القيامة عن عمله كما ثبت من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله: «لن
تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال عن عمره فيم أفناه؟ وعن
شبابه فيم أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل
فيه» [قال الألباني صحيح لغيره].
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن أخوف ما أخاف على نفسي أن يقال لي يا عويمر هل علمت؟ فأقول نعم، فيقال فماذا عملت فيما علمت؟"
أن الأقوال الصالحة مرهونة بالأعمال الصالحة، فقد قال الحسن البصري:
"ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال
من قال حسنًا وعمل غير صالح رده الله على قوله، ومن قال حسنًا وعمل صالحًا
رفعه العمل، وذلك بأن الله يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
نماذج مشرقة ومشرفة
من أسمى الصور التي تتحقق فيها سمة التلقي للتنفيذ، تلك الصور التي يتلقى
فيها المؤمن الحث على أعمال مستحبة غير ملزم بفعلها، فيأخذها مأخذ
العزيمة، ويلتزم بما فيها من أعمال من لحظة تلقيه للنصوص الشرعية بلا تردد
أو تكاسل أو انقطاع أو فتور. وهذه بعض النماذج المشرقة التي تتجلى فيها
هذه الصفة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منذ نزل عليه: إذا جاء نصر الله والفتح،
يصلي صلاة إلا دعا. أو قال فيها: سبحانك ربي وبحمدك. اللهم اغفر لي» [رواه
مسلم].
عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله ، قال: «نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي بالليل. قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا» [رواه البخاري].
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «بينما نحن
نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل من القوم: الله أكبر
كبيرا. والحمد لله كثيرا. وسبحان الله بكرة وأصيلا. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: من القائل كلمة كذا وكذا؟ قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال:عجبت لها فتحت لها أبواب السماء. قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك» [رواه مسلم].
وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، قال سمعت أبي رضي الله عنه، وهو بحضرة العدو يقول قال رسول الله: «إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف.
فقام رجل رث الهيئة. فقال: يا أبا موسى! آنت سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول هذا؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام.
ثم كسر جفن سيفه فألقاه. ثم مشى بسيفه إلى العدو. فضرب به حتى قتل» [رواه
مسلم].
أخرج البخاري من طريق سعيد بن مرجانة صاحب علي بن الحسين قال قال لي أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي: «أيما رجل أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» [رواه البخاري]،
قال سعيد بن مرجانه فانطلقت به إلى علي بن الحسين، فعمد علي بن الحسين رضي
الله عنهما إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف أو ألف
دينار فأعتقه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا
موسى على سرية في البحر فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا
هاتف فوقهم يهتف يا أهل السفينة قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه
فقال أبو موسى أخبرنا إن كنت مخبرا قال إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه
أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش» [رواه المنذري
وضعفه الألباني].
وعن أبي موسى بنحوه إلا أنه قال فيه، قال: «إن الله قضى على نفسه أن من
عطش نفسه لله في يوم حار؛ كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة قال:
فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حرا
فيصومه» [ضعفه الألباني].
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه. يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة. قال عبدالله بن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، إلا وعندي وصيتي» [رواه مسلم].
عن علي رضي الله عنه قال: «أن فاطمة رضي الله عنها اشتكت ما تلقى من أثر
الرحى في يدها وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي فانطلقت فلم تجده ولقيت
عائشة رضي الله عنها فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته
عائشة بمجيء فاطمة رضي الله عنها إليها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقد
أخذنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على مكانكما. فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري فقال: ألا
أعلمكما خيرا مما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعا وثلاثين
وتسبحاه ثلاثا وثلاثين وتحمداه ثلاثا وثلاثين فهو خير لكما من خادم» [رواه أحمد].
قال الإمام مسلم حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبو خالد يعني
سليمان بن حيان عن داود بن أبي هند، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس،
قال حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يَتَسَارُّ إليه
يسر به قال سمعت أم حبيبة رضي الله عنهما تقول سمعت رسول الله يقول: «من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة.
قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوس: ما
تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة. وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن
من عمرو بن أوس» [رواه مسلم].
عن أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي قال: «من ركع أربع ركعات، قبل الظهر، وأربعا بعدها، حرم الله عز وجل، لحمه على النار. فما تركتهن منذ سمعتهن» [صححه الألباني].
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي قال: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»[رواه البخاري].
«عن علي رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أحدا يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات
الثلاث الأواخر من سورة البقرة»[قال النووي إسناده صحيح على شرط الشيخين].
قال البخاري: "ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغيبة حرام، إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنى اغتبت أحدًا (الطبقات للسبكي).
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة؛ لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت»[صححه الألباني].
قال ابن القيم رحمه الله: "بلغني عن شيخ الإسلام أنه قال ما تركتها عقب كل صلاة إلا نسيانًا أو نحوه" (الوابل الصيب).
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ما كتبت حديثًا إلا وقد عملت به، حتى مر بي
أن النبي احتجم وأعطى أبا طَيْبَةَ دينارًا فأعطيت الحجام دينارًا حين
احتجمت" (سير أعلام النبلاء).
وها هو أبو هريرة يوصيه النبي بوصية في فعل المستحبات، فيفعلها أبو هريرة كأنها فروض وواجبات فيقول: «أوصاني خليلي بثلاث لستُ بتاركهن؛ أن لا أنام إلا على وتر، وأن لا أدع ركعتي الضحى، فإنها صلاة الأوابين، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر»[صححه الألباني].
وإذا نظرنا إلى سلوك السلف رضوان الله عليهم وجدناهم كانوا يأخذون السنن
والنوافل مأخذ الفرض والواجب حتى يموت الواحد منهم، فيسألون عن النوافل
ليفعلوها ويستزيدوا بها لرفع درجاتهم وإرضاء ربهم جل وعلا.
لكن أناسًا في هذا الزمن يسألون هل هو فرض أم سُنة؟ يسألون عن السنة
ليتركوها فهذا يريد أن تكون اللحية سنة ليحلقها وأخرى تريد أن يكون الحجاب
سنة لكي لا تحتجب، وآخر يريد الخبائث مكروهة ليفعلها، فشتان شتان بين سلوك
السلف، وسلوك الخلف، وقد أشار ربنا سبحانه بأنهم قدوتنا فقال: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ} [البقرة:137].
نسأل الله الهداية من فضله، والحمد لله رب العالمين.
مجلة التوحيد