السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
يحاول التجار دائما أن يشتروا بضائعهم بأفضل سعر ممكن و أن يبيعوها بأعلى سعر ممكن ليحصلوا على أعلى ربح ممكن، و بين الشراء والبيع يعيش التاجر في كبد ومشقة، بين حسابات المكسب و الخسارة، و كلما كان الشراء والبيع موسميا كلما ازداد الخطر و عظم الخطب على التاجر.
و بين أيدينا مثل لتجارة ليست ككل التجارات، تجارة لا يحصل فيها التاجر على بضاعته بالشراء و لا حتى بالتصنيع و إن كان فيه شبه منه، إن التاجر في مثلنا لديه آلة تعمل تلقائيا و تنتج له جواهر ثمينة، و لكنها في ذات الوقت جواهر من ثلج سريعة الذوبان، فإذا ذابت زالت قيمتها تماما.
و في كلٍ يوجد عرضان للشراء:
أولهما: تباع فيه تلك الجواهر الثلجية بجواهر ثابتة لا تذوب و لا تتغير، و لكن هذا البيع يحتاج من البائع شيء من الجهد والسعي حتى تتم الصفقة، و تسليم تلك الجواهر الثابتة لا يكون فوريا في معظم الأحيان وإن كانت مضمونة بأوثق ضمان.
و أما العرض الثاني: فتباع فيه هذه الجواهر بأخرى ثابتة براقة، لونها لون الذهب والياقوت، و ريحها ريح المسك، و لكنها سريعة التغير يذهب لونها المتلألئ و يحل محله لون أسود مرباداً متسخ، و يذهب ريحها الطيب و يحل مكانه ريح منتنة و هى فوق هذا سامة، كما أن لها أثر عجيب في إفساد الجواهر الحقيقية الثابتة، و البائع يعرف في كثير من الأحيان حال هذه الجواهر الخادعة.
ترى ما رأيك فيمن يبيع جواهره الثلجية بتلك الجواهر الخادعة السامة؟! أو حتى في ذلك الذي يقف مكتوف الأيدي و آلته تنتج جواهره ثم يتركها تذوب بدلا من أن يحولها إلي جواهر ثابتة كسلا أو زهدا في تلك الجواهر الثابتة لأن قبضها مؤجلا؟!!
و ثمة أمرا أخر وهو أن هذا التاجر يعلم أن آلته سوف تتوقف في لحظة ما وفجأة دون سابق إنذار.
أخي الحبيب: إن هذا المثل و إن كان خياليا إلا أن الواقع أخطر بكثير من هذا الخيال، إن هذا المثل هو مثل الإنسان في هذة الحياة الدنيا، تتوالى أنفاسه، لا يملك أن يوقفها أو أن يؤجلها، وكل نفس منها جوهرة ثمينة سريعة الانقضاء، فإذا كانت في المباحات فلا أجر و لا وزر، وإن كانت في الطاعات فسوف يعطى بها غرسا في الجنة و بيوتا في الجنة و أنهار في الجنة، و كل ذلك من الذهب و الفضة و الياقوت و اللؤلؤ، فضلا عما يعجل له من ذلك من طمأنينة القلب و سعة الصدر.
وإن كانت في المعصية فهي سبب لدخول نار تلظى يلقى فيها من العذاب و السموم و النار و الحميم فضلا عما يعجل له في الدنيا من ضيق الصدر و اضطراب القلب.
وإذا تأملت في هذا المثل فاعلم أن كل جزئية من جزئياته قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة و آثار السلف رضي الله عنهم قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [سورة الفرقان: 62]، وقال الحسن رحمه الله-:"ما مر يوم على بن آدم إلا قال له ابن آدم إني يوم جديد، و على ما تعمل في شهيد، و إذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، و أخر ما شئت فلن يعود إليك أبدا".
وقال بعضهم: لمن قال له قف أكلمك، فأجابه بقوله: "أوقف الشمس" لعلمه أن عداد الأنفاس لا يمكن إيقافه، و قال بعضهم: "يا بن آدم إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، و يوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل".
و قال صلى الله عليه وسلم مبينا قيمة اللحظة الواحدة من حياة الإنسان: «من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له نخلة في الجنة» [رواه الترمذي]، و في المقابل قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار» [رواه الترمذي].
وقد عبر البعض عن شرف الوقت بقوله: "الوقت من ذهب"، فعلق بعض الدعاة على ذلك وقال: "بأن هذا عند أهل الدنيا الذين لا يرون فيها ما هو أغلى من الذهب، و لكنه عند من ينظر إلى أبعد من ذلك هو الحياة".
وأما أنه رغم نفاسته سريع الزوال فشبهه بعضهم بالثلج و انظر إلى ذلك الرجل الذي يمشى في السوق كما نمشى و يستلفت نظره ما يستلفت نظرنا إلا أنه يستلفت بصيرته ما لا يستلفت بصيرتنا، فقد رأى بائع ثلج في السوق بعد العصر و قد أشرف السوق على الانتهاء و لم يبع بعد بضاعته فأخذ يصيح في الناس لكي يشتروا بضاعته قبل أن تفنى قائلا: "يا أيها الناس ارحموا من يذوب رأس ماله"، فتذكر صاحبنا رأس ماله الأهم في هذه الحياة الدنيا و تجارته الأخطر و هى تجارة الأنفاس، وتذكر تلك السورة الجامعة التي لخصت ذلك كله فيقول رحمه الله: "تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج بنيسابور، وقف في السوق بعد العصر صائحا يا أيها الناس ارحموا من يذوب رأس ماله".
سورة العصر تلك السورة التي أقسمت بالعصر الذي يعيشه الإنسان لبيان شرفه و خطورته، ثم بينت أن جنس بني الإنسان في خسارة (أي: في تجارة الأوقات) ثم استثنت من جمع خصالا أربعا هي: الإيمان بالله، و العمل الصالح، و التواصي بالحق، و التواصي بالصبر.
كما بين الله تعالى أن هؤلاء الخاسرين إنما انشغلوا بالعاجل رغم تفاهته و سرعة انقضائه لكونهم لم يوطنوا أنفسهم على انتظار الآجل رغم شرفه و بقائه فقال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [سورة الأعلى: 16، 17]، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن معظم البائعين يخسرون عن عمد لكونهم لا يتحملون مشقة البيع الرابح حين قال: «حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات» [رواه مسلم].
و إذا تأملت هذا المثل جيدا علمت مقدار الغبن والخسارة التي يقع فيها المضيع وقته في المباحات فضلا عمن يضيعه في المعاصي، كما قال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» [رواه البخاري].
و إذا علمت هذا فاعلم أن جواهر العمر الثلجية رغم أنها كلها جواهر إلا أن بعضها أشرف من بعض و أن ما يقابلها من جواهر و قصور وجنان أخروية تتناسب مع شرفها وفضلها، ولذلك فحري بالعاقل أن يهتم بكل جوهرة من جواهر حياته، أعني بكل نفس من أنفاسه لاسيما في الأوقات الفاضلة التي تتضاعف فيها الحسنات و كذلك السيئات، و منها العشر الأول من ذي الحجة كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه و ماله فلم يرجع من ذلك بشيء» [رواه أبو داود].
فنسأل الله أن يعين جميع المسلمين فيها و في سائر أوقاتهم على طاعته و أن يدخلهم جنته و دار كرامته.
كتبه/ عبد المنعم الشحات
طريق السلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
يحاول التجار دائما أن يشتروا بضائعهم بأفضل سعر ممكن و أن يبيعوها بأعلى سعر ممكن ليحصلوا على أعلى ربح ممكن، و بين الشراء والبيع يعيش التاجر في كبد ومشقة، بين حسابات المكسب و الخسارة، و كلما كان الشراء والبيع موسميا كلما ازداد الخطر و عظم الخطب على التاجر.
و بين أيدينا مثل لتجارة ليست ككل التجارات، تجارة لا يحصل فيها التاجر على بضاعته بالشراء و لا حتى بالتصنيع و إن كان فيه شبه منه، إن التاجر في مثلنا لديه آلة تعمل تلقائيا و تنتج له جواهر ثمينة، و لكنها في ذات الوقت جواهر من ثلج سريعة الذوبان، فإذا ذابت زالت قيمتها تماما.
و في كلٍ يوجد عرضان للشراء:
أولهما: تباع فيه تلك الجواهر الثلجية بجواهر ثابتة لا تذوب و لا تتغير، و لكن هذا البيع يحتاج من البائع شيء من الجهد والسعي حتى تتم الصفقة، و تسليم تلك الجواهر الثابتة لا يكون فوريا في معظم الأحيان وإن كانت مضمونة بأوثق ضمان.
و أما العرض الثاني: فتباع فيه هذه الجواهر بأخرى ثابتة براقة، لونها لون الذهب والياقوت، و ريحها ريح المسك، و لكنها سريعة التغير يذهب لونها المتلألئ و يحل محله لون أسود مرباداً متسخ، و يذهب ريحها الطيب و يحل مكانه ريح منتنة و هى فوق هذا سامة، كما أن لها أثر عجيب في إفساد الجواهر الحقيقية الثابتة، و البائع يعرف في كثير من الأحيان حال هذه الجواهر الخادعة.
ترى ما رأيك فيمن يبيع جواهره الثلجية بتلك الجواهر الخادعة السامة؟! أو حتى في ذلك الذي يقف مكتوف الأيدي و آلته تنتج جواهره ثم يتركها تذوب بدلا من أن يحولها إلي جواهر ثابتة كسلا أو زهدا في تلك الجواهر الثابتة لأن قبضها مؤجلا؟!!
و ثمة أمرا أخر وهو أن هذا التاجر يعلم أن آلته سوف تتوقف في لحظة ما وفجأة دون سابق إنذار.
أخي الحبيب: إن هذا المثل و إن كان خياليا إلا أن الواقع أخطر بكثير من هذا الخيال، إن هذا المثل هو مثل الإنسان في هذة الحياة الدنيا، تتوالى أنفاسه، لا يملك أن يوقفها أو أن يؤجلها، وكل نفس منها جوهرة ثمينة سريعة الانقضاء، فإذا كانت في المباحات فلا أجر و لا وزر، وإن كانت في الطاعات فسوف يعطى بها غرسا في الجنة و بيوتا في الجنة و أنهار في الجنة، و كل ذلك من الذهب و الفضة و الياقوت و اللؤلؤ، فضلا عما يعجل له من ذلك من طمأنينة القلب و سعة الصدر.
وإن كانت في المعصية فهي سبب لدخول نار تلظى يلقى فيها من العذاب و السموم و النار و الحميم فضلا عما يعجل له في الدنيا من ضيق الصدر و اضطراب القلب.
وإذا تأملت في هذا المثل فاعلم أن كل جزئية من جزئياته قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة و آثار السلف رضي الله عنهم قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [سورة الفرقان: 62]، وقال الحسن رحمه الله-:"ما مر يوم على بن آدم إلا قال له ابن آدم إني يوم جديد، و على ما تعمل في شهيد، و إذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، و أخر ما شئت فلن يعود إليك أبدا".
وقال بعضهم: لمن قال له قف أكلمك، فأجابه بقوله: "أوقف الشمس" لعلمه أن عداد الأنفاس لا يمكن إيقافه، و قال بعضهم: "يا بن آدم إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، و يوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل".
و قال صلى الله عليه وسلم مبينا قيمة اللحظة الواحدة من حياة الإنسان: «من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له نخلة في الجنة» [رواه الترمذي]، و في المقابل قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار» [رواه الترمذي].
وقد عبر البعض عن شرف الوقت بقوله: "الوقت من ذهب"، فعلق بعض الدعاة على ذلك وقال: "بأن هذا عند أهل الدنيا الذين لا يرون فيها ما هو أغلى من الذهب، و لكنه عند من ينظر إلى أبعد من ذلك هو الحياة".
وأما أنه رغم نفاسته سريع الزوال فشبهه بعضهم بالثلج و انظر إلى ذلك الرجل الذي يمشى في السوق كما نمشى و يستلفت نظره ما يستلفت نظرنا إلا أنه يستلفت بصيرته ما لا يستلفت بصيرتنا، فقد رأى بائع ثلج في السوق بعد العصر و قد أشرف السوق على الانتهاء و لم يبع بعد بضاعته فأخذ يصيح في الناس لكي يشتروا بضاعته قبل أن تفنى قائلا: "يا أيها الناس ارحموا من يذوب رأس ماله"، فتذكر صاحبنا رأس ماله الأهم في هذه الحياة الدنيا و تجارته الأخطر و هى تجارة الأنفاس، وتذكر تلك السورة الجامعة التي لخصت ذلك كله فيقول رحمه الله: "تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج بنيسابور، وقف في السوق بعد العصر صائحا يا أيها الناس ارحموا من يذوب رأس ماله".
سورة العصر تلك السورة التي أقسمت بالعصر الذي يعيشه الإنسان لبيان شرفه و خطورته، ثم بينت أن جنس بني الإنسان في خسارة (أي: في تجارة الأوقات) ثم استثنت من جمع خصالا أربعا هي: الإيمان بالله، و العمل الصالح، و التواصي بالحق، و التواصي بالصبر.
كما بين الله تعالى أن هؤلاء الخاسرين إنما انشغلوا بالعاجل رغم تفاهته و سرعة انقضائه لكونهم لم يوطنوا أنفسهم على انتظار الآجل رغم شرفه و بقائه فقال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [سورة الأعلى: 16، 17]، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن معظم البائعين يخسرون عن عمد لكونهم لا يتحملون مشقة البيع الرابح حين قال: «حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات» [رواه مسلم].
و إذا تأملت هذا المثل جيدا علمت مقدار الغبن والخسارة التي يقع فيها المضيع وقته في المباحات فضلا عمن يضيعه في المعاصي، كما قال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» [رواه البخاري].
و إذا علمت هذا فاعلم أن جواهر العمر الثلجية رغم أنها كلها جواهر إلا أن بعضها أشرف من بعض و أن ما يقابلها من جواهر و قصور وجنان أخروية تتناسب مع شرفها وفضلها، ولذلك فحري بالعاقل أن يهتم بكل جوهرة من جواهر حياته، أعني بكل نفس من أنفاسه لاسيما في الأوقات الفاضلة التي تتضاعف فيها الحسنات و كذلك السيئات، و منها العشر الأول من ذي الحجة كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه و ماله فلم يرجع من ذلك بشيء» [رواه أبو داود].
فنسأل الله أن يعين جميع المسلمين فيها و في سائر أوقاتهم على طاعته و أن يدخلهم جنته و دار كرامته.
كتبه/ عبد المنعم الشحات
طريق السلف