السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لمسات بيانية في آيات المعراج
جاء ذِكْرُ حادثة الإسراء صريحاً في الآية الأولى من سوة الإسراء، أما المعراج فجاء ذكر أحداثه في سورة النجم في آيات متتالية من الآية (1) إلى الآية (18). وهي موضوع مقالنا في هذا العدد.
قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}:
علاقة هذا القسم بما قبله (سورة الطور): اختُتمت سورة الطور بالتسبيح: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}. كما جاء ذِكْر النجوم.
وافتُتحت هذه السورة بالقسم بالنجم. ومعنى {هوى}: غَرَبَ أي سَقَطَ. فإذا كان المعنى في خواتيم سورة الطور (إدبار النجوم) أي غروبها؛ فهي إذن مرتبطة بالتسبيح، ومرتبطة بإدبار النجوم؛ فأصبح هناك تناسق بين إدبار النجوم والنجم إذا هوى.
ثم ناسب افتتاح السورة خاتمتها: {فاسجُدوا لله واعبُدوا} [النجم:62]؛ فالسجود -أولاً- هو أهم ركن من أركان الصلاة، والصلاة فُرِضت في المعراج، وهذه السورة بداية رحلة المعراج؛ فختمت بما فُرِض في المعراج. ومن ناحية أخرى إذا كان {هوى} بمعنى: سقط. والسقوط هوي إلى الأرض؛ فهي مناسبة للحركة؛
لأن السجود هوي إلى الأرض، وكأنما النجم هوى ليسجد لله تعالى!
وفي السجود يكون العبد أقرب ما يكون إلى الله تعالى؛ لذا اختار سبحانه أقرب حالة إليه في أقرب معيّة وهي العروج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى.. أقرب حالة من الله لأقرب رحلة إلى الله تعالى.
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}:
نفي شيئين: الضلالة والغواية. وهناك فرق بين الضلالة والغواية؛ فالضلالة قد تكون عن قصد أو عن غير قصد: {وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]. أما الغواية فهي عن قصد، وهو الإمعان في الضلال.
والضلال عام؛ نقول: ضلّت الدابة. ولا نقول: غوت الدابّة. والغواية هي للمُكلَّف.
والضلال: نقيض الهدى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79]. والغواية: نقيض الرشد: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146].
وهكذا فإن الله تعالى -في هذه الآية- ينفي عن رسوله صلى الله عليه وسلم الأمرين: الضلالة والغواية. وقد ذكر كلمة (صاحبكم) ولم يذكر باسمه، وقد وردت (صاحبكم) في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم: إما لنفي الضلال كما في هذا الموضع، وإما لنفي الجنون كما في قوله تعالى: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}[سبأ:46]، وقوله سبحانه: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]. وهذا لأن فيها معنى الصحبة؛ فقد لبث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم عمراً طويلاً وخالطهم وعاشرهم وعرفوا صدقه وأمانته ولا يكذّبونه فهو صاحبهم؛ فكيف يتهمونه بالضلال؟!
ونلاحظ أن القسم في بداية السورة بالنجم إذا هوى وسقط كما ذكرنا، ثم عبَّر بالضلال والغِيِّ اللذين هما سقوط في السلوك!
والضلال دائماً يأتي في القرآن مع الحرف (في)، وهذا دليل على السقوط، أما عند ذكر الهداية فيأتي بالحرف (على)؛ لأن الهدى تفيد الاستعلاء: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24].
وأما الحكمة من تكرار (ما) في قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} فحتى لا يُتصوَّر أنه نفى الجمع بينهما فقط، وإنما نفى الجمع بينهما والإفراد. وهذه الآية تعني نفيَ الضلالة والغواية معاً، ونفيَ كلِّ واحدة منهما على حدة. أما إذا قيل: (ما ضلَّ صاحبكم وغوى) فهذا يفيد نفيَ الجمع بين الصفتين. وهذا من باب الاحتياط للمعنى: نفاهما على سبيل الجمع والإفراد، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم اهتدى ورشد فهو مهتد رشيد.
ولكن لماذا لم يقل: (اهتدى ورشد) بدل: (ما ضلَّ وما غوى)؟! لو قال: (اهتدى) فقد يكون ذلك في وقت ما من الماضي أو لفترة زمنية محددة، وقد يكون قبل الهداية ضالاًّ.. لكنه صلى الله عليه وسلم مهتد رشيد لم يسبق له ضلالة في أي وقت وزمن كان؛ فجاء التعبير بـ{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}!
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}:
في الآية السابقة نفي الفعلين بالماضي (ضلَّ) و(غوى)، وهنا نفي بالمضارع الذي يفيد الاستمرار والحاضر؛ فلو قال: (ما نطق عن الهوى) لاحتمل المعنى أنه نفى عنه الهوى في الماضي فقط ولم ينفه عنه فيما يستقبل من نُطقه. وهكذا نفى الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم الضلال والغواية في الماضي كله، ونفى عنه الهوى في النطق في الحاضر والمستقبل؛ فهو إذن صلى الله عليه وسلم منفيٌّ عنه الضلال والغواية: في السلوك، وفيما مضى، وفي المستقبل.
ولكن النطق عادة يكون بالباء: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية:29]؛ فما دلالة الحرف (عن) في: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}؟! هنا جاءت (عن) ومعناها: ما ينطق صادراً عن هوى. يعني: إن الدافع للنطق ليس عن هوى، وهو بمنزلة تزكية للنفس القائلة؛ لأن الإنسان قد ينطق بالحق لكن عن هوى (حق أريد به باطل). وهكذا زكّى الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم بتزكية الدافع للقول؛ فالدافع له زكي صادق، ونطقه صادق أيضاً!
{إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}:
(إن) هي أقوى ما في النفي. وأقوى من ذلك أن تأتي بـ(إن) و(إلاّ) معاً؛ ذلك أن مسألة الوحي هي المسألة الأساسية التي بين الإيمان والكفر؛ فجاء سبحانه بأقوى حالات الإثبات.
والإنسان قد ينطق بكلام غير صادر عن هوى، لكن ليس بالضرورة أن يكون كلامه كلّه حقّاً وصدقاً حتى ولو كان دافعه الإخلاص. فبعد أن زكّى سبحانه الدافع {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} ثبّته أنه وحي {إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}. واستخدام الضمير (هو) يعود على النطق؛ معناه: ما نُطقه إلا وحي يوحى.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}:
الوحي قد يكون إلهاماً مثل الوحي لأم موسى بإلقائه في اليم، والوحي للنحل، ولشياطين الإنس والجنّ.. فأراد سبحانه أن يقطع أيَّ فكرة فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} بمعنى أنه ليس إلهاماً، ولكنه وحيٌ علَّمه إياه شديد القُوى؛ فنسب العلم إلى الله سبحانه.
وفي ذكر الوحي يجب ذكر المسؤول عن إيصال الوحي وهو جبريل عليه السلام؛ فالله تعالى هو المُعلّم الأول، وعندما ذكر أن كلامه وحي كان من الداعي أن يذكر من أوصل العلم إليه. وفعل (علَّمه) يفيد المداومة والتكثير على خلاف (أُعلِّمه).
وهنا ذكر وصفين (شديد القوى) و(ذو مِرَّة). والمِرَّة قد تأتي بمعنى العقل والإحكام والحصانة والاستحكام، وتأتي بمعنى القوة أيضاً؛ فلماذا اختار سبحانه هذين الوصفين (شديد القوى) و(ذو مِرّة)؟! هاتان الصفتان فيهما إشارة إلى أن الخروج إلى أقطار السماوات يحتاج إلى أمرين هما: القوة والعلم. والرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته في أقطار السماوات يحتاج إلى قوة شديدة وإلى إحكام وعقل، وهنا إشارة إلى تمكُّن جبريل عليه السلام من حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته؛ فكان قويّاً في حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ومحكماً في حفظ الوحي، وكل حفظ يحتاج إلى قوة وعقل وإحكام.
وهذه الرحلة (المعراج) في أقطار السماوات والأرض، أما في سورة الرحمن: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]؛ لأن الخروج من أقطار السماوات والأرض فيه تحدٍّ، ويحتاج إلى سلطان القوة والعلم.
{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}:
تحديد مكان الاستواء: استوى تعني: استقام وتهيّأ. ينزل جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتدلّى إليه ويصحبه بعد أن تهيّأ لذلك من الأفق الأعلى -وليس العالي- وهذا حتى يليق بمقام النبوة، وفي ذلك ثناء على جبريل عليه السلام أنه استعدّ للأمر قبل أن يأتي ويقوم بمهمته، وفيه تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقام الشخصية يستدعي زيادة التهيئة والاستعداد.
هذه الآية ذكرت (الأفق الأعلى)، وفي آية سورة التكوير ذكرت (الأفق المبين)، فما الفرق بينهما؟!
في آية النجم يُراد بالآيات والرحلة العروج إلى الأفق الأعلى، وهو المكان الذي سيعرُج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. أما في آية التكوير: {وَلَقَدْ رَآَهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]؛ فالأفق المبين تدل على الإبانة الواضحة، وهي مناسبة لما تبعها في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] على أنه صلى الله عليه وسلم ليس بضنين ولا بخيل؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين ليس بضنين، والأفق مبين أيضاً.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}:
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}: فيها تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الدنو غير التدلي؛ فالدنو هو القرب من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل وغيره. أما التدلّي فلا يكون إلا من أعلى لأسفل. ومعنى أن جبريل تدلّى للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا في غاية التكريم له..
العرب تعبِّر عن القرُب بأشياء كثيرة؛ فلماذا اختار سبحانه (قاب قوسين أو أدنى) كنايةً عن القرب؟! القوس في حد ذاتها لا بد أن تكون قوية شديدة، والوتر لا بد أن يكون قوياً شديداً، والرامي ينبغي أن يكون قويّاً مُسدّداً؛ فالقوس يحتاج إلى إحكام في التسديد والانطلاق.. وهذه كلها عناصر الرحلة. وقد سبق قوله تعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}. فالقوس شديد، ويستعمله قوي شديد.
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}:
نفس الكلام الذي ورد في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] -في العدد السابق من (الفرقان)- ينطبق على ورود كلمة {عبده} هنا. وتستخدم هذه الكلمة على مجموع الجسد والروح، وهنا إثبات أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد وإلا فأين المعجزة؟! ولو كان بالروح فقط لما كذّبه الكفار؛ فهم عرفوا وتأكدوا أن الرحلة تمّت بالروح والجسد معاً.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}:
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}: اختيار لفظ الفؤاد هو من التفؤد والتوقّد (يقال: فأد اللحمَ؛ بمعنى شواه). اختار الفؤاد لأن فؤاده صلى الله عليه وسلم متوقّد ليرى كل ما حوله. أما في {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} -وهو القلب المتوقِّد الحار- فلم يقل: البصر واهم فيما يرى. فؤاده صلى الله عليه وسلم صدَّق بصره؛ يعني: ما رأيته ببصرك لم يشكك به الفؤاد على توقُّده؛ فقد صدَّق الفؤادُ البصرَ، وما يراه البصر هو حقٌّ صادق.
ولكن ما اللمسة البيانية في اختيار كلمة: {أَفَتُمَارُونَهُ}؟! المرية: فيها شك. لم يقل سبحانه: (أفتجادلونه). إنما قال: {أَفَتُمَارُونَهُ}؛ لأن المِرية تختلف عن الجدال؛ فالكفار كانوا يشككون في الرواية وليس في الأفكار كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18]؛ أي: يجادلون في الساعة؛ لأن لا أحد رآها، أما الرؤية فهي ليست موضوع نقاش في هذه السورة. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}؛ أي: لا يُمارى على رؤيته صلى الله عليه وسلم. والملاحظ هنا استخدام الحرف (على)، أما في الآية السابقة فقد استخدم الحرف (في)!
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}:
استخدم كلمة {نَزْلَة} وليس كلمة (مرّة)؛ لأن النزلة من النزول؛ فقال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}؛ أي: عند نزوله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل. وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم صعد إلى مكان أعلى من الذي وصل إليه جبريل، وفي رحلة عودته صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عند نزوله.
{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}:
وفي هذه الآية أمور لا نعرفها؛ فالله أعلم بمجريات هذه الرحلة وما فيها وما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم فيها وما في السدرة وما يغشاها.
{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}:
(زاغ): من الزيغان، وهو الذهاب يميناً وشمالاً. أما الطغيان فهو مجاوزة الحدّ والقدر والتطلع إلى ما ليس له. بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم في رحلته ما مال بصره ولا جاوز قدره، بل وقف في المكان الذي خُصِّص له، وفي هذا مدح للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد وقف بصره في المكان المحدَّد له مع أن المكان يستدعي أخذ البصر والالتفات.
وقد سبق أن نفى الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم الضلال والغواية في الأرض، وكذلك نفى عنه أن يكون زاغ بصره أو طغى في السماوات؛ فهو لم يتجاوز لا في الأرض ولا في السماء.. فسبحان الله تعالى!
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}:
(مِن) يقال لها: التبعضيّة. لم ير كل شيء، لكن الرحلة كان لها منهجاً معيناً، وجاء بالكبرى فيه تكريم آخر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى بعض الآيات الكبرى. والسورة كلها فيها تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآية مبنية على الإبهام وهذا الإبهام للتعظيم. والشيخ الشعراوي رحمه الله يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى من آيات ربه الآية الكبرى. والله أعلم.
المصدر - مجلة الفرقان
لمسات بيانية في آيات المعراج
جاء ذِكْرُ حادثة الإسراء صريحاً في الآية الأولى من سوة الإسراء، أما المعراج فجاء ذكر أحداثه في سورة النجم في آيات متتالية من الآية (1) إلى الآية (18). وهي موضوع مقالنا في هذا العدد.
قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}.
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}:
علاقة هذا القسم بما قبله (سورة الطور): اختُتمت سورة الطور بالتسبيح: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}. كما جاء ذِكْر النجوم.
وافتُتحت هذه السورة بالقسم بالنجم. ومعنى {هوى}: غَرَبَ أي سَقَطَ. فإذا كان المعنى في خواتيم سورة الطور (إدبار النجوم) أي غروبها؛ فهي إذن مرتبطة بالتسبيح، ومرتبطة بإدبار النجوم؛ فأصبح هناك تناسق بين إدبار النجوم والنجم إذا هوى.
ثم ناسب افتتاح السورة خاتمتها: {فاسجُدوا لله واعبُدوا} [النجم:62]؛ فالسجود -أولاً- هو أهم ركن من أركان الصلاة، والصلاة فُرِضت في المعراج، وهذه السورة بداية رحلة المعراج؛ فختمت بما فُرِض في المعراج. ومن ناحية أخرى إذا كان {هوى} بمعنى: سقط. والسقوط هوي إلى الأرض؛ فهي مناسبة للحركة؛
لأن السجود هوي إلى الأرض، وكأنما النجم هوى ليسجد لله تعالى!
وفي السجود يكون العبد أقرب ما يكون إلى الله تعالى؛ لذا اختار سبحانه أقرب حالة إليه في أقرب معيّة وهي العروج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى.. أقرب حالة من الله لأقرب رحلة إلى الله تعالى.
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}:
نفي شيئين: الضلالة والغواية. وهناك فرق بين الضلالة والغواية؛ فالضلالة قد تكون عن قصد أو عن غير قصد: {وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]. أما الغواية فهي عن قصد، وهو الإمعان في الضلال.
والضلال عام؛ نقول: ضلّت الدابة. ولا نقول: غوت الدابّة. والغواية هي للمُكلَّف.
والضلال: نقيض الهدى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79]. والغواية: نقيض الرشد: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146].
وهكذا فإن الله تعالى -في هذه الآية- ينفي عن رسوله صلى الله عليه وسلم الأمرين: الضلالة والغواية. وقد ذكر كلمة (صاحبكم) ولم يذكر باسمه، وقد وردت (صاحبكم) في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم: إما لنفي الضلال كما في هذا الموضع، وإما لنفي الجنون كما في قوله تعالى: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}[سبأ:46]، وقوله سبحانه: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]. وهذا لأن فيها معنى الصحبة؛ فقد لبث الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم عمراً طويلاً وخالطهم وعاشرهم وعرفوا صدقه وأمانته ولا يكذّبونه فهو صاحبهم؛ فكيف يتهمونه بالضلال؟!
ونلاحظ أن القسم في بداية السورة بالنجم إذا هوى وسقط كما ذكرنا، ثم عبَّر بالضلال والغِيِّ اللذين هما سقوط في السلوك!
والضلال دائماً يأتي في القرآن مع الحرف (في)، وهذا دليل على السقوط، أما عند ذكر الهداية فيأتي بالحرف (على)؛ لأن الهدى تفيد الاستعلاء: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24].
وأما الحكمة من تكرار (ما) في قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} فحتى لا يُتصوَّر أنه نفى الجمع بينهما فقط، وإنما نفى الجمع بينهما والإفراد. وهذه الآية تعني نفيَ الضلالة والغواية معاً، ونفيَ كلِّ واحدة منهما على حدة. أما إذا قيل: (ما ضلَّ صاحبكم وغوى) فهذا يفيد نفيَ الجمع بين الصفتين. وهذا من باب الاحتياط للمعنى: نفاهما على سبيل الجمع والإفراد، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم اهتدى ورشد فهو مهتد رشيد.
ولكن لماذا لم يقل: (اهتدى ورشد) بدل: (ما ضلَّ وما غوى)؟! لو قال: (اهتدى) فقد يكون ذلك في وقت ما من الماضي أو لفترة زمنية محددة، وقد يكون قبل الهداية ضالاًّ.. لكنه صلى الله عليه وسلم مهتد رشيد لم يسبق له ضلالة في أي وقت وزمن كان؛ فجاء التعبير بـ{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}!
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}:
في الآية السابقة نفي الفعلين بالماضي (ضلَّ) و(غوى)، وهنا نفي بالمضارع الذي يفيد الاستمرار والحاضر؛ فلو قال: (ما نطق عن الهوى) لاحتمل المعنى أنه نفى عنه الهوى في الماضي فقط ولم ينفه عنه فيما يستقبل من نُطقه. وهكذا نفى الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم الضلال والغواية في الماضي كله، ونفى عنه الهوى في النطق في الحاضر والمستقبل؛ فهو إذن صلى الله عليه وسلم منفيٌّ عنه الضلال والغواية: في السلوك، وفيما مضى، وفي المستقبل.
ولكن النطق عادة يكون بالباء: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية:29]؛ فما دلالة الحرف (عن) في: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}؟! هنا جاءت (عن) ومعناها: ما ينطق صادراً عن هوى. يعني: إن الدافع للنطق ليس عن هوى، وهو بمنزلة تزكية للنفس القائلة؛ لأن الإنسان قد ينطق بالحق لكن عن هوى (حق أريد به باطل). وهكذا زكّى الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم بتزكية الدافع للقول؛ فالدافع له زكي صادق، ونطقه صادق أيضاً!
{إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}:
(إن) هي أقوى ما في النفي. وأقوى من ذلك أن تأتي بـ(إن) و(إلاّ) معاً؛ ذلك أن مسألة الوحي هي المسألة الأساسية التي بين الإيمان والكفر؛ فجاء سبحانه بأقوى حالات الإثبات.
والإنسان قد ينطق بكلام غير صادر عن هوى، لكن ليس بالضرورة أن يكون كلامه كلّه حقّاً وصدقاً حتى ولو كان دافعه الإخلاص. فبعد أن زكّى سبحانه الدافع {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} ثبّته أنه وحي {إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}. واستخدام الضمير (هو) يعود على النطق؛ معناه: ما نُطقه إلا وحي يوحى.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}:
الوحي قد يكون إلهاماً مثل الوحي لأم موسى بإلقائه في اليم، والوحي للنحل، ولشياطين الإنس والجنّ.. فأراد سبحانه أن يقطع أيَّ فكرة فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} بمعنى أنه ليس إلهاماً، ولكنه وحيٌ علَّمه إياه شديد القُوى؛ فنسب العلم إلى الله سبحانه.
وفي ذكر الوحي يجب ذكر المسؤول عن إيصال الوحي وهو جبريل عليه السلام؛ فالله تعالى هو المُعلّم الأول، وعندما ذكر أن كلامه وحي كان من الداعي أن يذكر من أوصل العلم إليه. وفعل (علَّمه) يفيد المداومة والتكثير على خلاف (أُعلِّمه).
وهنا ذكر وصفين (شديد القوى) و(ذو مِرَّة). والمِرَّة قد تأتي بمعنى العقل والإحكام والحصانة والاستحكام، وتأتي بمعنى القوة أيضاً؛ فلماذا اختار سبحانه هذين الوصفين (شديد القوى) و(ذو مِرّة)؟! هاتان الصفتان فيهما إشارة إلى أن الخروج إلى أقطار السماوات يحتاج إلى أمرين هما: القوة والعلم. والرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته في أقطار السماوات يحتاج إلى قوة شديدة وإلى إحكام وعقل، وهنا إشارة إلى تمكُّن جبريل عليه السلام من حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته؛ فكان قويّاً في حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ومحكماً في حفظ الوحي، وكل حفظ يحتاج إلى قوة وعقل وإحكام.
وهذه الرحلة (المعراج) في أقطار السماوات والأرض، أما في سورة الرحمن: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]؛ لأن الخروج من أقطار السماوات والأرض فيه تحدٍّ، ويحتاج إلى سلطان القوة والعلم.
{ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}:
تحديد مكان الاستواء: استوى تعني: استقام وتهيّأ. ينزل جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتدلّى إليه ويصحبه بعد أن تهيّأ لذلك من الأفق الأعلى -وليس العالي- وهذا حتى يليق بمقام النبوة، وفي ذلك ثناء على جبريل عليه السلام أنه استعدّ للأمر قبل أن يأتي ويقوم بمهمته، وفيه تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقام الشخصية يستدعي زيادة التهيئة والاستعداد.
هذه الآية ذكرت (الأفق الأعلى)، وفي آية سورة التكوير ذكرت (الأفق المبين)، فما الفرق بينهما؟!
في آية النجم يُراد بالآيات والرحلة العروج إلى الأفق الأعلى، وهو المكان الذي سيعرُج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. أما في آية التكوير: {وَلَقَدْ رَآَهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]؛ فالأفق المبين تدل على الإبانة الواضحة، وهي مناسبة لما تبعها في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] على أنه صلى الله عليه وسلم ليس بضنين ولا بخيل؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين ليس بضنين، والأفق مبين أيضاً.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}:
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}: فيها تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الدنو غير التدلي؛ فالدنو هو القرب من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل وغيره. أما التدلّي فلا يكون إلا من أعلى لأسفل. ومعنى أن جبريل تدلّى للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا في غاية التكريم له..
العرب تعبِّر عن القرُب بأشياء كثيرة؛ فلماذا اختار سبحانه (قاب قوسين أو أدنى) كنايةً عن القرب؟! القوس في حد ذاتها لا بد أن تكون قوية شديدة، والوتر لا بد أن يكون قوياً شديداً، والرامي ينبغي أن يكون قويّاً مُسدّداً؛ فالقوس يحتاج إلى إحكام في التسديد والانطلاق.. وهذه كلها عناصر الرحلة. وقد سبق قوله تعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}. فالقوس شديد، ويستعمله قوي شديد.
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}:
نفس الكلام الذي ورد في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] -في العدد السابق من (الفرقان)- ينطبق على ورود كلمة {عبده} هنا. وتستخدم هذه الكلمة على مجموع الجسد والروح، وهنا إثبات أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد وإلا فأين المعجزة؟! ولو كان بالروح فقط لما كذّبه الكفار؛ فهم عرفوا وتأكدوا أن الرحلة تمّت بالروح والجسد معاً.
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}:
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}: اختيار لفظ الفؤاد هو من التفؤد والتوقّد (يقال: فأد اللحمَ؛ بمعنى شواه). اختار الفؤاد لأن فؤاده صلى الله عليه وسلم متوقّد ليرى كل ما حوله. أما في {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} -وهو القلب المتوقِّد الحار- فلم يقل: البصر واهم فيما يرى. فؤاده صلى الله عليه وسلم صدَّق بصره؛ يعني: ما رأيته ببصرك لم يشكك به الفؤاد على توقُّده؛ فقد صدَّق الفؤادُ البصرَ، وما يراه البصر هو حقٌّ صادق.
ولكن ما اللمسة البيانية في اختيار كلمة: {أَفَتُمَارُونَهُ}؟! المرية: فيها شك. لم يقل سبحانه: (أفتجادلونه). إنما قال: {أَفَتُمَارُونَهُ}؛ لأن المِرية تختلف عن الجدال؛ فالكفار كانوا يشككون في الرواية وليس في الأفكار كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18]؛ أي: يجادلون في الساعة؛ لأن لا أحد رآها، أما الرؤية فهي ليست موضوع نقاش في هذه السورة. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}؛ أي: لا يُمارى على رؤيته صلى الله عليه وسلم. والملاحظ هنا استخدام الحرف (على)، أما في الآية السابقة فقد استخدم الحرف (في)!
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}:
استخدم كلمة {نَزْلَة} وليس كلمة (مرّة)؛ لأن النزلة من النزول؛ فقال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}؛ أي: عند نزوله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل. وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم صعد إلى مكان أعلى من الذي وصل إليه جبريل، وفي رحلة عودته صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عند نزوله.
{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}:
وفي هذه الآية أمور لا نعرفها؛ فالله أعلم بمجريات هذه الرحلة وما فيها وما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم فيها وما في السدرة وما يغشاها.
{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}:
(زاغ): من الزيغان، وهو الذهاب يميناً وشمالاً. أما الطغيان فهو مجاوزة الحدّ والقدر والتطلع إلى ما ليس له. بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم في رحلته ما مال بصره ولا جاوز قدره، بل وقف في المكان الذي خُصِّص له، وفي هذا مدح للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد وقف بصره في المكان المحدَّد له مع أن المكان يستدعي أخذ البصر والالتفات.
وقد سبق أن نفى الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم الضلال والغواية في الأرض، وكذلك نفى عنه أن يكون زاغ بصره أو طغى في السماوات؛ فهو لم يتجاوز لا في الأرض ولا في السماء.. فسبحان الله تعالى!
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}:
(مِن) يقال لها: التبعضيّة. لم ير كل شيء، لكن الرحلة كان لها منهجاً معيناً، وجاء بالكبرى فيه تكريم آخر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى بعض الآيات الكبرى. والسورة كلها فيها تكريم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآية مبنية على الإبهام وهذا الإبهام للتعظيم. والشيخ الشعراوي رحمه الله يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى من آيات ربه الآية الكبرى. والله أعلم.
المصدر - مجلة الفرقان