[size=25]علاج فتور القلب
عَرَّفَ علماء اللُّغة الفتورَ بعدَّة تعريفات، تَختلف ألفاظها وتَتَقارَب معانيها، قال في "مختار الصحاح": الفترة: الانكسار والضعف. و"طرف فاتر": إذا لم يكن حديدًا.
وقال ابن الأثير: و"المفتّر": الذي إذا شُرب أحمى الجسد، وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار، يقال: "أفتر الرجل، فهو مفتر": إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه.
وقال الرَّاغب: الفُتور: سكن بعد حدَّة، ولين بعد شِدَّة، وضعف بعد قوة، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19]؛ أي: سكون حال عن مجيء رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - وقوله: {لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]؛ أي: لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة.
وقال ابن منظور: وفتر الشيء والحر، وفلان يفتر فتورًا، وفتارًا: سكن بعد حدَّة، وَلانَ بعد شدَّة.
ونخلُص من هذا إلى أنَّ الفتورَ هو: التَّرَاخي والتَّباطُؤ عن العمل بعد الجدّ والاجتِهاد والمُدَاوَمة والمُثَابَرة.
اعلم - أيُّها الأخ الكريم - أنَّ المرءَ لا يمكن أن يسيرَ في حياته كلِّها على نَسَق واحد لا يَتَغَيَّر ولا يَتَبَدَّل؛ بل لابدَّ من أن يعتريَه شيءٌ منَ التَّغَيُّر الذي يَتَمَثَّل أحيانًا في الفتور؛ لكن هذا الفتور يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فتورًا عامًّا في جميع الطاعات والقربات، بغضًا لها وكرهًا لفعلها، كما هو حال المُنَافقين.
قال الله - سبحانه وتعالى - فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142] وقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
وقد يكون الفتور في بعض الطاعات دون أن يكونَ كارهًا لها، ولا مبغضًا لفعلها؛ بل يريد أن يفعلها لكنَّ همّتَه لا تحمله على فعلها، مع أنَّه يقدر عليها ويستطيعها.
وقد يكون الفتور عارضًا يشعر به الإنسان بين حين وآخر؛ ولكنَّه لا يستمر معه، ولا تطول مدته، ولا يوقع في معصية، ولا يخرج عن طاعة. وهذا لا يسلم منه أحد، إلاَّ أنَّ الناس يَتَفاوَتون فيه أيضًا، وسببه - غالبًا - أمر عارض، كتَعَبٍ أو انشغال أو مَرَض ونحوها.
وهذا النوع هو الذي حصل لبعض الصحابة، وذلك فيما روى أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت لعبدالله بن قيس: "لا تدع قيام الليل، فإنَّ رسول الله كان لا يدعُه، وكان إذا مرض أو كسل صَلَّى قاعدًا".
وقد يكون الفتور بسبب تحميل المرء نفسه ما لا يطيق من فعل الخير، أو المُبَالَغة فيه بصورة لا تَتَّسق مع ما كان عليه من قبلُ، وغالب هذا النوع منَ الفتور قد يكون سببه اضطراب المنهج في العلم والعمل، مع ما يصحب ذلك من آثار.
وهذا النَّوع في النَّاس كثيرٌ، ولعَلَّ الأخ السائل أيضًا من هذا الصّنف الذي إذا خلصت نيَّته وصَحَّ سلوكه عاد - إن شاء الله من قريب.
قال ابن القيم: "تَخَلُّل الفترات للسالكين أمر لا بُدَّ منه، فمَن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تُخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم؛ رجي له أن يعودَ خيرًا مما كان" انتهى.
وهذا هو الذي عناه النَّبي - صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إنَّ لِكُلِّ شيءٍ شِرَّةً، ولكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فإنْ صاحِبُها سَدَّدَ وقارَبَ فَارْجُوهُ، وإنْ أُشِيرَ إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوه))؛ أخرجه الترمذي (4/548) كتاب القيامة رقم (2453)، قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصَحَّحَه الألبانيّ - انظر "صحيح الجامع" رقم (2151).
وقد ورد بألفاظٍ وطُرُق أُخرى، منها:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار وتقوم الليل، فقيل له: "إنها تصوم النهار وتقوم الليل"، فقال رسول الله: ((إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ))؛ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/261، 262): رواه البَزَّار ورجاله رجال الصحيح.
وعن عبدالله بن عمرو قال: ذُكر عند النَّبي قوم يجتهدون في العبادة اجتهادًا شديدًا، فقال: ((تلك ضرورة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعم ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي؛ فأولئكَ هم الهالكون))؛ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/262): رواه الطبراني في "الكبير"، وأحمد بنحوه، ورجال أحمد ثقات. ا هـ. انظر "المسند" (2/165) ولفظه: ((تلك ضراوة الإسلام وشدته)).
فنسألُ الله تعالى أن يجعلَ فترتكَ إلى سنَّة يهديكَ الله إليها، ويرفعك بها عنده درجات، والمظاهر التي ذكرتها في السؤال مظاهر طبيعيَّة لمثل حالتكَ، وكونها طبيعيَّة لا يعني أنَّها سائغة أو مقبولة؛ بل هي طبيعيَّة بِمعنى أنَّها نتائجُ تَرَتَّبَت على مُقَدمات، فلا يجوز الاستسلام لها، بل يجب دفعها والسَّعي للتَّخَلُّص منها، ونلخص نصيحتنا لك في أمور:
الأَوَّل: ألاَّ تُشَدِّدَ على نفسكَ في الأمور التَّعَبُّديَّة؛ كالنوافل منَ الصلاة، والصيام، والدعوة... وغيرِها بصورة لا تُطيقُها أو ترتفع فوق قدرتكَ وطاقتكَ؛ لأنَّ ذلكَ أدعى لترك العمل من قريب كما حَدَثَ لكَ؛ ولكن أَقْبِل على العبادة ما دامتْ نفسكَ مُقبِلة عليها، وقد وردتِ الكثير منَ الآثار الآمرة والحاضَّة على ذلك ومنها:
عن ابن مسعود أنه قال: "لا تغالبوا هذا الليل؛ فإنَّكم لن تطيقوه، فإذا نعس أحدكم فلينصرف إلى فراشه؛ فإنَّه أسلم له"؛ "مجمع الزوائد" 2/260.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النَّبيَّ دَخَل عليها وعندها امرأة فقال: ((من هذه؟)) قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، فقال: ((مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملّوا))؛ البخاري: الإيمان (43)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (785)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1642)، والإيمان وشرائعه (5035)، وابن ماجه: الزُّهد (4238).
قال الإمام النَّوويّ شارحًا لحديث عائشة - رضي الله عنها -: "فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمّق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وأنه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور" "شرح مسلم" للنووي 2/73.
الثاني: أن تأتي بالعبادة في الوقت الذي يناسبك، فما وجدت أنَّه يفوتكَ آخر الليل فعلته أوَّل الليل وهكذا، كما أوصى الرَّسول - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - أبا هريرة: "أوصاني خليلي - صَلَّى الله عليه وسلم - بثلاث منها: "وأن أوتر قبل أن أنام"؛ البخاري: الصوم (1981).
وعن جابر - رضيَ الله عنه -: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - لأبي بكر: ((متى توتر؟))، قال: "من أوَّل الليل بعد العتمة" قال لعمر: ((متى توتر؟))، قال: "من آخر الليل"، قال لأبي بكر: ((أخذت بالحزم))، وقال لعمر: ((أخذت بالقوَّة))؛ رواه البيهقي في "الكبرى"، وابن أبي شيبة في "مصنفه".
فمدح النبي - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - كليْهِما مع اختلاف فعلهما؛ لأنَّهما أتيا بالعبادة بصورة تناسب كل واحد منهما.
الثالث: أن تَحرِصَ على المُدَاوَمة على العمل مهما كانت الظُّروف، حَتَّى إذا لم تَتَمَكَّن من فعل العبادة بنفس الصورة والعدد السابقَيْن، فإنَّ ما لا يُدْرك كله لا يترك كله، فإن كنتَ تطيل قيام الليل مثلاً ثم أصابكَ الفتور في هذه الصلاة الطويلة، فلتُصَلّها قصيرة ولا تتركها، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضيَ الله عنهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((يا عبدالله، لا تكن مثلَ فلان؛ كان يقوم الليل فتركه))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
الرابع: أن تكثرَ من دعاء الله تعالى بأن يرفع عنكَ ما أَلَمَّ بكَ من كسل وفتور، فهو القائل سبحانه: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
وقد أُثر عنِ النبي - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - كما في "الصحيح" عن أنسٍ قال: كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - يَتَعَوَّذ، فيقول: ((اللَّهمَّ إنّي أعوذ بكَ منَ الكَسَل، وأعوذُ بكَ من الجبن، وأعوذ بكَ منَ الهَرَم، وأعوذ بكَ منَ البُخل))؛ أخرجه البخاري، ومسلم، واللفظ للبخاري.
وعنه أيضًا قال: كنت أخدم رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - فكنت أسمعه كثيرًا يقول: ((اللهمَّ إنِّي أعوذ بكَ منَ الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلَع الدين، وقهر الرجال))؛ أخرجه البخاري.
الخامس: التوبة إلى الله تعالى منَ المعاصي والذُّنوب بعد أن تفتِّشَ في نفسك عنها، وتضع يديكَ على ما وقعت فيه منها، ولا شكَّ في أنَّ كلَّ بني آدم خَطَّاء، وخير الخَطَّائين التوابون، كما صَحَّ بذلك الخبر عن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - فإذا عرفتها وتُبت إلى الله منها فعسى الله تعالى أن يرفعَ عنكَ ما شَكَوتَ من عظيم البلاء، فإنه ما وقع بلاء إلاَّ بذنب، ولا رُفِعَ إلاَّ بتوبة، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
ولا يشترط أن يكونَ ذلكَ الذَّنب منَ الكبائر؛ بل قد يكون منَ الصَّغائر التي لا ينتبه لها المرء مع أنَّها أشدّ خطرًا منَ الكبائر لغفلة المكلَّف عنها، وعدم التوبة منها، قال الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إيَّاكم ومحقَّرات الذنوب، فإنَّهنَّ يَجتمعن على الرجل حتَّى يُهْلِكنه))؛ رواه أحمد.
فقد يفرح الإنسان أنه لا يقع في كبائر الذنوب - وله أن يفرح بذلك - ولكن لا يأخذ حذره من صغائر الذنوب ولا يبالي بها، وتؤدي به بعد ذلك إلى الفتور والتقصير في الطاعات؛ بل يمكن أن تؤدِّي به إلى فعل الكبائر.
السادس: صُحبَة الأخيار وتَرك أصحاب المعاصي والأوزار، فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، والرَّسول - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - يقول: ((المرْءُ على دين خليلِه، فلينظر أحدكم من يُخالل))؛ رواه الترمذي.
فإنَّكَ إن صاحبتَ أهل المعاصي، فإمَّا أن تقعَ معه فيها، وإمَّا أن تراه يفعلها ولا تنكرها عليه؛ وكلاهما مُنكَرٌ يؤدِّي إلى كثير منَ العقوبات، ومنها الفتور عن الطاعات بطول ألفة الذنوب - عافانا الله منها.
هذه هي بعض الأمور التي تُعينكَ على التَّخَلُّص من هذه الظَّاهرة المنتشرة في أوساط الناس في كل المجالات؛ إلاَّ مَن رحمَ الله تعالى، وهي إشارات غير مُستقصاة لتكون لكَ عونًا في طريق الوصول إلى رضى الله - سبحانه وتعالى - وعليكَ أن تراجعَ في هذا كتاب فضيلة الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم "علو الهمة"، وكتاب الشيخ سيد العفاني "صلاح الأمة في علو الهمة"، وكتاب الأستاذ عبدالفتاح أبو غدة "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل"، فستجد فيها - إن شاء الله - ما يعلو بهمتكَ، ويشد من أزرك، ويقوي عزيمتك.
أمَّا بالنِّسبة لزوجتكَ وأولادكَ فلا نظنّ ذلكَ سببًا في انتكاستكَ وفتوركَ، فعباقرة العلم والدين كان لهم زوجة؛ بل زوجات وأولاد، بل أنبياء الله ورسله الذين كلّفوا بدعوة الناس والجهاد في سبيل ذلك بكل ما أوتوا، وخاتمهم سيدهم وإمامهم محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم.
فلا تلق باللَّوم عليهم ولا تنسب الخطأ إليهم؛ بل نفسك فاتَّهم، ولها لُم، ولاعوجاجها قوِّم، فهي أول جانٍ ينبغي محاسبته ومعاتبته ومعاقبته.
[center]الشيخ على ونيس
عَرَّفَ علماء اللُّغة الفتورَ بعدَّة تعريفات، تَختلف ألفاظها وتَتَقارَب معانيها، قال في "مختار الصحاح": الفترة: الانكسار والضعف. و"طرف فاتر": إذا لم يكن حديدًا.
وقال ابن الأثير: و"المفتّر": الذي إذا شُرب أحمى الجسد، وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار، يقال: "أفتر الرجل، فهو مفتر": إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه.
وقال الرَّاغب: الفُتور: سكن بعد حدَّة، ولين بعد شِدَّة، وضعف بعد قوة، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19]؛ أي: سكون حال عن مجيء رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - وقوله: {لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]؛ أي: لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة.
وقال ابن منظور: وفتر الشيء والحر، وفلان يفتر فتورًا، وفتارًا: سكن بعد حدَّة، وَلانَ بعد شدَّة.
ونخلُص من هذا إلى أنَّ الفتورَ هو: التَّرَاخي والتَّباطُؤ عن العمل بعد الجدّ والاجتِهاد والمُدَاوَمة والمُثَابَرة.
اعلم - أيُّها الأخ الكريم - أنَّ المرءَ لا يمكن أن يسيرَ في حياته كلِّها على نَسَق واحد لا يَتَغَيَّر ولا يَتَبَدَّل؛ بل لابدَّ من أن يعتريَه شيءٌ منَ التَّغَيُّر الذي يَتَمَثَّل أحيانًا في الفتور؛ لكن هذا الفتور يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون فتورًا عامًّا في جميع الطاعات والقربات، بغضًا لها وكرهًا لفعلها، كما هو حال المُنَافقين.
قال الله - سبحانه وتعالى - فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142] وقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
وقد يكون الفتور في بعض الطاعات دون أن يكونَ كارهًا لها، ولا مبغضًا لفعلها؛ بل يريد أن يفعلها لكنَّ همّتَه لا تحمله على فعلها، مع أنَّه يقدر عليها ويستطيعها.
وقد يكون الفتور عارضًا يشعر به الإنسان بين حين وآخر؛ ولكنَّه لا يستمر معه، ولا تطول مدته، ولا يوقع في معصية، ولا يخرج عن طاعة. وهذا لا يسلم منه أحد، إلاَّ أنَّ الناس يَتَفاوَتون فيه أيضًا، وسببه - غالبًا - أمر عارض، كتَعَبٍ أو انشغال أو مَرَض ونحوها.
وهذا النوع هو الذي حصل لبعض الصحابة، وذلك فيما روى أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت لعبدالله بن قيس: "لا تدع قيام الليل، فإنَّ رسول الله كان لا يدعُه، وكان إذا مرض أو كسل صَلَّى قاعدًا".
وقد يكون الفتور بسبب تحميل المرء نفسه ما لا يطيق من فعل الخير، أو المُبَالَغة فيه بصورة لا تَتَّسق مع ما كان عليه من قبلُ، وغالب هذا النوع منَ الفتور قد يكون سببه اضطراب المنهج في العلم والعمل، مع ما يصحب ذلك من آثار.
وهذا النَّوع في النَّاس كثيرٌ، ولعَلَّ الأخ السائل أيضًا من هذا الصّنف الذي إذا خلصت نيَّته وصَحَّ سلوكه عاد - إن شاء الله من قريب.
قال ابن القيم: "تَخَلُّل الفترات للسالكين أمر لا بُدَّ منه، فمَن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تُخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم؛ رجي له أن يعودَ خيرًا مما كان" انتهى.
وهذا هو الذي عناه النَّبي - صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إنَّ لِكُلِّ شيءٍ شِرَّةً، ولكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فإنْ صاحِبُها سَدَّدَ وقارَبَ فَارْجُوهُ، وإنْ أُشِيرَ إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوه))؛ أخرجه الترمذي (4/548) كتاب القيامة رقم (2453)، قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصَحَّحَه الألبانيّ - انظر "صحيح الجامع" رقم (2151).
وقد ورد بألفاظٍ وطُرُق أُخرى، منها:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار وتقوم الليل، فقيل له: "إنها تصوم النهار وتقوم الليل"، فقال رسول الله: ((إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ))؛ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/261، 262): رواه البَزَّار ورجاله رجال الصحيح.
وعن عبدالله بن عمرو قال: ذُكر عند النَّبي قوم يجتهدون في العبادة اجتهادًا شديدًا، فقال: ((تلك ضرورة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعم ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي؛ فأولئكَ هم الهالكون))؛ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/262): رواه الطبراني في "الكبير"، وأحمد بنحوه، ورجال أحمد ثقات. ا هـ. انظر "المسند" (2/165) ولفظه: ((تلك ضراوة الإسلام وشدته)).
فنسألُ الله تعالى أن يجعلَ فترتكَ إلى سنَّة يهديكَ الله إليها، ويرفعك بها عنده درجات، والمظاهر التي ذكرتها في السؤال مظاهر طبيعيَّة لمثل حالتكَ، وكونها طبيعيَّة لا يعني أنَّها سائغة أو مقبولة؛ بل هي طبيعيَّة بِمعنى أنَّها نتائجُ تَرَتَّبَت على مُقَدمات، فلا يجوز الاستسلام لها، بل يجب دفعها والسَّعي للتَّخَلُّص منها، ونلخص نصيحتنا لك في أمور:
الأَوَّل: ألاَّ تُشَدِّدَ على نفسكَ في الأمور التَّعَبُّديَّة؛ كالنوافل منَ الصلاة، والصيام، والدعوة... وغيرِها بصورة لا تُطيقُها أو ترتفع فوق قدرتكَ وطاقتكَ؛ لأنَّ ذلكَ أدعى لترك العمل من قريب كما حَدَثَ لكَ؛ ولكن أَقْبِل على العبادة ما دامتْ نفسكَ مُقبِلة عليها، وقد وردتِ الكثير منَ الآثار الآمرة والحاضَّة على ذلك ومنها:
عن ابن مسعود أنه قال: "لا تغالبوا هذا الليل؛ فإنَّكم لن تطيقوه، فإذا نعس أحدكم فلينصرف إلى فراشه؛ فإنَّه أسلم له"؛ "مجمع الزوائد" 2/260.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النَّبيَّ دَخَل عليها وعندها امرأة فقال: ((من هذه؟)) قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها، فقال: ((مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملّوا))؛ البخاري: الإيمان (43)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (785)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1642)، والإيمان وشرائعه (5035)، وابن ماجه: الزُّهد (4238).
قال الإمام النَّوويّ شارحًا لحديث عائشة - رضي الله عنها -: "فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمّق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وأنه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور" "شرح مسلم" للنووي 2/73.
الثاني: أن تأتي بالعبادة في الوقت الذي يناسبك، فما وجدت أنَّه يفوتكَ آخر الليل فعلته أوَّل الليل وهكذا، كما أوصى الرَّسول - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - أبا هريرة: "أوصاني خليلي - صَلَّى الله عليه وسلم - بثلاث منها: "وأن أوتر قبل أن أنام"؛ البخاري: الصوم (1981).
وعن جابر - رضيَ الله عنه -: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - لأبي بكر: ((متى توتر؟))، قال: "من أوَّل الليل بعد العتمة" قال لعمر: ((متى توتر؟))، قال: "من آخر الليل"، قال لأبي بكر: ((أخذت بالحزم))، وقال لعمر: ((أخذت بالقوَّة))؛ رواه البيهقي في "الكبرى"، وابن أبي شيبة في "مصنفه".
فمدح النبي - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - كليْهِما مع اختلاف فعلهما؛ لأنَّهما أتيا بالعبادة بصورة تناسب كل واحد منهما.
الثالث: أن تَحرِصَ على المُدَاوَمة على العمل مهما كانت الظُّروف، حَتَّى إذا لم تَتَمَكَّن من فعل العبادة بنفس الصورة والعدد السابقَيْن، فإنَّ ما لا يُدْرك كله لا يترك كله، فإن كنتَ تطيل قيام الليل مثلاً ثم أصابكَ الفتور في هذه الصلاة الطويلة، فلتُصَلّها قصيرة ولا تتركها، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضيَ الله عنهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((يا عبدالله، لا تكن مثلَ فلان؛ كان يقوم الليل فتركه))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
الرابع: أن تكثرَ من دعاء الله تعالى بأن يرفع عنكَ ما أَلَمَّ بكَ من كسل وفتور، فهو القائل سبحانه: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
وقد أُثر عنِ النبي - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - كما في "الصحيح" عن أنسٍ قال: كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - يَتَعَوَّذ، فيقول: ((اللَّهمَّ إنّي أعوذ بكَ منَ الكَسَل، وأعوذُ بكَ من الجبن، وأعوذ بكَ منَ الهَرَم، وأعوذ بكَ منَ البُخل))؛ أخرجه البخاري، ومسلم، واللفظ للبخاري.
وعنه أيضًا قال: كنت أخدم رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - فكنت أسمعه كثيرًا يقول: ((اللهمَّ إنِّي أعوذ بكَ منَ الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلَع الدين، وقهر الرجال))؛ أخرجه البخاري.
الخامس: التوبة إلى الله تعالى منَ المعاصي والذُّنوب بعد أن تفتِّشَ في نفسك عنها، وتضع يديكَ على ما وقعت فيه منها، ولا شكَّ في أنَّ كلَّ بني آدم خَطَّاء، وخير الخَطَّائين التوابون، كما صَحَّ بذلك الخبر عن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - فإذا عرفتها وتُبت إلى الله منها فعسى الله تعالى أن يرفعَ عنكَ ما شَكَوتَ من عظيم البلاء، فإنه ما وقع بلاء إلاَّ بذنب، ولا رُفِعَ إلاَّ بتوبة، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
ولا يشترط أن يكونَ ذلكَ الذَّنب منَ الكبائر؛ بل قد يكون منَ الصَّغائر التي لا ينتبه لها المرء مع أنَّها أشدّ خطرًا منَ الكبائر لغفلة المكلَّف عنها، وعدم التوبة منها، قال الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إيَّاكم ومحقَّرات الذنوب، فإنَّهنَّ يَجتمعن على الرجل حتَّى يُهْلِكنه))؛ رواه أحمد.
فقد يفرح الإنسان أنه لا يقع في كبائر الذنوب - وله أن يفرح بذلك - ولكن لا يأخذ حذره من صغائر الذنوب ولا يبالي بها، وتؤدي به بعد ذلك إلى الفتور والتقصير في الطاعات؛ بل يمكن أن تؤدِّي به إلى فعل الكبائر.
السادس: صُحبَة الأخيار وتَرك أصحاب المعاصي والأوزار، فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، والرَّسول - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - يقول: ((المرْءُ على دين خليلِه، فلينظر أحدكم من يُخالل))؛ رواه الترمذي.
فإنَّكَ إن صاحبتَ أهل المعاصي، فإمَّا أن تقعَ معه فيها، وإمَّا أن تراه يفعلها ولا تنكرها عليه؛ وكلاهما مُنكَرٌ يؤدِّي إلى كثير منَ العقوبات، ومنها الفتور عن الطاعات بطول ألفة الذنوب - عافانا الله منها.
هذه هي بعض الأمور التي تُعينكَ على التَّخَلُّص من هذه الظَّاهرة المنتشرة في أوساط الناس في كل المجالات؛ إلاَّ مَن رحمَ الله تعالى، وهي إشارات غير مُستقصاة لتكون لكَ عونًا في طريق الوصول إلى رضى الله - سبحانه وتعالى - وعليكَ أن تراجعَ في هذا كتاب فضيلة الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم "علو الهمة"، وكتاب الشيخ سيد العفاني "صلاح الأمة في علو الهمة"، وكتاب الأستاذ عبدالفتاح أبو غدة "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل"، فستجد فيها - إن شاء الله - ما يعلو بهمتكَ، ويشد من أزرك، ويقوي عزيمتك.
أمَّا بالنِّسبة لزوجتكَ وأولادكَ فلا نظنّ ذلكَ سببًا في انتكاستكَ وفتوركَ، فعباقرة العلم والدين كان لهم زوجة؛ بل زوجات وأولاد، بل أنبياء الله ورسله الذين كلّفوا بدعوة الناس والجهاد في سبيل ذلك بكل ما أوتوا، وخاتمهم سيدهم وإمامهم محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم.
فلا تلق باللَّوم عليهم ولا تنسب الخطأ إليهم؛ بل نفسك فاتَّهم، ولها لُم، ولاعوجاجها قوِّم، فهي أول جانٍ ينبغي محاسبته ومعاتبته ومعاقبته.
[center]الشيخ على ونيس