معهد دار الهجرة للقراءات وعلوم القرآن الكريم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مرحبا بك يا زائر في معهد دار الهجرة للقراءات وعلوم القرآن الكريم


    كتيب حياة السعداء

    سمو مسلمة
    سمو مسلمة


    كتيب حياة السعداء Empty كتيب حياة السعداء

    مُساهمة من طرف سمو مسلمة الأربعاء 07 مارس 2012, 11:02 am

    كتيب حياة السعداء 548e04cc6fa68ebdf6ce6ef4f1334d9b


    للشيخ / فهد بن عبدالرحمن الحميد


    محتويات مواضيع الكتاب


    1ـ قصة مبكية .
    2ـ أنا ابن الراعي .
    3ـ داعية بعد الموت .
    5ـ ماذا حدث في الطائرة .
    6ـ إن ربك لبالمرصاد .
    7ـ حياةالسعداء .
    8ـ ماشطة فرعون .
    9ـ يهنئوني ني بالتوبة .
    10ـ امرأة من أهل الجنة .
    11ـ يكفي .. يكفي .



    وسوف أروي لكم ما يحتويه هذا الكتاب من مواضيع على حلقات
    داعياً المولى جل وعلا أن يجزي كاتب هذا الكتاب خير الجزاء
    وأن يعيننا على نشر الخير والصلاح وأن يتوب من ضل عن الطريق
    ويكون هذا الموضوع سبباً في توبته وعودته إلى طريق الخير والصلاح


    قصة مبكية


    كان ياسر ..طفل التاسعة ..في الصف الرابع . وكنت أعطية حصتين في الأسبوع .. كان نحيل الجسم .. أراه دوماً شارد الذهن .. يغالبه النعاس كثيراً .. كان شديد الإهمال في دراسته ,بل في لباسه وشعره .. دفاتره كانت هي الأخرى تشتكي الإهمال والتمزق !!
    حاولت مراراً أن أجعله يعتني بنفسه ودراسته فلم أفلح كثيراً , لم يجد معه ترغيب أو ترهيب !! ولا لوم أو تأنيب !!
    ذات يوم حضرت إلى المدرسة في الساعة السادسة قبل طابور الصباح .. كان يوماً شديد البرودة ..
    فوجئت بمنظر لن أنساه طفلان صغيران قد انزويا على بعضهما .. نظرت من بعيد فإذا بهما يلبسان ملابس بيضاء لا تقي جسديهما النحيلة شدة البرد فأسرت إليهما دون تردد ..
    وإذ بي ألمح ياسر يحتضن أخاه الأصغر أيمن , الطالب في الصف الأول الابتدائي , ويجمع كفيه الصغيرين المتجمدين وينفخ فيهما بفمه ويفركهما بيديه , منظر لا يمكن أن أصفه وشعور لا يمكن أن أترجمه دمعت عيناي من هذا المنظر المؤثر..
    ناديته : ياسر ما الذي جاء بكما في هذا الوقت ؟ ولماذا لم تلبسا لباساً يقيكما من البرد ؟
    فأزداد ياسر التصاقاً بأخيه ووارى عني بعينه البريئتين وهما تخفيان عني الكثير من المعاناة والألم التي فضحتها دمعة لم أكن أتصورها !
    ضممت الصغير ‘ليّ فأبكتني برودة وجنتيه , وتيبس يديه فأسكت بالصغيرين وأخذتهما معي إلى المكتبة ثم أدخلتهما وخلعت الجاكيت الذي ألبسه وألبسته للصغير ..
    أعدت على ياسر السؤال ياسر ما الذي جاء بكما إلى المدرسة في هذا الوقت المبكر ؟ ومن الذي أحضركما !؟
    قال ببراءته : لا أدري .. السائق هو الذي أحضرنا !!
    قلت : وأين والدك ؟
    قال : والدي مسافر إلى المنطقة الشرقية , والسائق اعتاد على إحضارنا حتى في وجود أبي ..
    قلت وأمك !! أمك يا ياسر .. كيف أخرجتكما بهذه الملابس الصيفية في هذا الوقت !؟
    لم يجيب ياسر , وكأنني طعنته بسكين بدأ ينظر ‘لى الأرض ويقول : أ .. أم .. أمي .. أمي .. ثم استرسل بالبكاء !!
    قال أمين الصغير : ماما عند أخوالي !!!!!!
    قلت : ولماذا تركتكما .. ومنذ متى !؟
    قال أيمن : من زمان .. من زمان !!
    قلت : يا ياسر .. هل صحيح ما يقول أيمن !؟
    قال : نعم من زمن أمي عند أخوالي .. أبي طلقها .. وضربها .. وراحت وتركتنا .. وبدأ يبكي ويبكي !!
    هدأتهما .. وأنا أشعر بمرارة المعاناة .. وبدأت أنا الآخر بالبكاء ولكن حاولت أن أتمالك نفسي وأن أكتم ما استطعت , ولكي لا يفقدا الثقة بأمهما قلت :ولكن أمكما تحبكما .. أليس كذلك!؟
    قال ياسر : إيه .. إيه .. إيه .. وأنا أحبها وأحبها وأحبها .. ولكن أبي !!! وزوجته !! ثم استرسل في البكاء !!
    قلت : وما بكما ألا ترى أمك يا ياسر !؟
    قال : لا .. لا .. أما من زمان ما شفتها .. أنا يا أستاذ أريد أن أراها ولو مرة تكفي يا أستاذ !!


    عُدت لنكمل القصة المبكية
    قلت : ألا يسمح والدك بذهابك لها ؟
    قال : كان يسمح لكن بعد أن تزوج لم يسمح لي !!!
    قالت له : يا ياسر .. زوجة أبيك مثل أمك .. وتحبكما !!
    قاطعني ياسر : لا .. لا ..يا أستاذ أمي أفضل .. أما هي فتضربنا .. ودائماً تسب أمي أمامنا !!
    قالت له : ومن يتابعكما في المدرسة !؟
    قال : ما فيه أحد يتابعنا .. وزوجة أبي تقول له أنها تدرسنا !!
    قالت له : ومن يجهز ملابسكما وطعامكما ؟
    قال : الخادمة .. وفي بعض الأيام أنا .. لأن زوجة أبي تمنعها وتأمرنا بتنظيف البيت !! وأنا الذي أجهز ملابسي وملبس أيمن مثل اليوم !
    اغرورقت عيناي بالدموع فلم استطع منعها ! حاولت رفع معنوياته .. قلت :لكنك رجل ويعتمد عليك !
    قال : أنا لا أريد منها شيئاً !
    قالت : ولماذا لم تلبسا لبساً شتوياً في هذا اليوم ؟
    قال : هي منعتني !!
    قالت : خذ هذه الملابس واذهبا الآن للمدرسة .. وأخرجتنا من الغرفة وأقفلتها !
    قدم المعلمون والطلاب للمدرسة .. قلت لياسر بعد أن أدركت عمق المعاناة والمأساة التي يعيشها مع أخيه : لا تخرجا للطابور وسأعود إليكما بعد قليل ..
    ثم خرجت من عندهما .. وأنا أشعر بألم يعتصر قلبي .. ويقطع فؤادي !!
    ما ذنب الصغيرين !؟ ما الذي اقترفاه ؟
    حتى يكونا ضحية خلاف أسري .. وطلاق .. وفراق !!
    أين الرحمة !؟ أين الدين !؟
    قررت أن تكون قضية ياسر وأيمن .. هي قضيتي !! جمعت المعلومات عنهما ..وعن أسرة أمهاما .. وعرفت أنها تسكن في الرياض !!
    سألت المرشد الطلابي بالمدرسة عن والد ياسر وهل يراجعه ؟ أفادني أنه طالما كتب له واستدعاه .. فلم يجب !!
    وأضاف : الغريب أن والدهما يحمل درجة الماجستير ..
    قال عن ياسر : كان ياسر قمة في النظافة والاهتمام .. وفجأة تغيرت حالته من منتصف الصف الثالث !!

    عرفت فيما بعد أنه منذ وقع الطلاق !! حاولت الاتصال بوالده .. فلم أفلح .. فهو كثير الأسفار والترحال .. بعد جهد حصلت على هاتف أنه !!
    استدعيت ياسر يوماً إلى غرفتي وقلت له : ياسر لتعتبرني عنك أو والدك .. ولنحاول أن نصلح الأمور مع والدك ..
    ولتبدأ في الاهتمام بنفسك !! نظر إليًّ ولم يجب , وكأنه يستفسر عن المطلوب ! قلت له : حتماً والدك يحبك .. ويريد لك الخير .. ولا بد أن تشعر بأنك تحبه .. ويلمس اهتمامك بنفسك وبأخيك وتحسنك في الدراسة أحد الأسباب !! هزًّ رأسه موافقاً !!
    قلت له : لنبدأ باهتمامك بواجباتك .. اجتهد في ذلك !!
    قال : أنا أريد أن أحل واجباتي .. ولكن زوجة أبي تمنعني من حله !!
    قلت : أبداً هذا غير معقول .. أنت تبالغ ..
    قال : لا يا أستاذ أنا ما أكذب هي دائماً تجعلني أشتغل في البيت وأنظف الحوش !!
    صدقوني .. كـني أقرأ قصة في كتاب !! أو أتابع مسلسلاً كتبت أحداثه من نسيج الخيال !!
    قلت : حاول ألا تذهب للبيت إلا بعد حل ما تستطيع من واجبات !!
    رأيته خائفاً متردداً .. وإن كان لديه استعداد !!
    قلت له ( محفزاً ) : ياسر لو تحسنت قليلاً سأعطيك مكافأة ّ !! هي أغلى مكافأة تتمناها !! نظر إليّ وكأنه يسأل عن ماهيتها !!


    قلت : سأجعلك تكلم أمك بالهاتف من المدرسة !!سما كنت أتصور أن يُحدِثَ هذا الوعد رد فعل كبيراً !!
    لكنني فوجئت به يقوم ويقبل علىَّ مسرعاً .. ويقبض على يدي اليمنى ويقبلها وهو يقول : تكف .. تكف .. يا أستاذ أنا ولهان على أمي !! ولا يدري أبي !!
    قلت له : ستكلمها بإذن الله شريطة أن تعدني أن تجتهد ..
    قال: أعدك !!
    بدأ ياسر يهتم بنفسه وواجباته .. وساعدني في ذلك بقية المعلمين فكانوا يجعلونه يحل واجباته في حصص الفراغ .. أو في حصص التربية الفنية ويساعدونه على ذلك !!
    كان ذكياً سريع الحفظ .. فتحسن مستواه في أسبوع واحد !!! ( صدقوني نعم تغير في أسبوع واحد ) !! استأذنت المدير يوماً أن نهاتف أم ياسر .. فوافق .. اتصلت في الساعة العاشرة صباحاً .. فردت امرأة كبيرة في السن ..
    قلت لها : أم ياسر موجودة !!
    قالت: ومن يريدها ؟
    قلت : معلم ياسر!!
    قالت: أنا جدته .. يا ولدي ما أخباره .. حسبي الله على من كان السبب .. حسبي الله على من حرمها منه !!
    هدأتها قليلاً .. فعرفت منها بعض قصة معاناة أبنتها ( أم ياسر ) !!
    قالت : لحظة أناديها ( سوف تطير من الفرح ) !! جاءت أم ياسر المكلومة .. مسرعة حدثتني وهي تبكي !!
    قالت : أستاذ .. ما أخبار ياسر طمئني الله يطمئنك الجنة !!
    قلت : ياسر بخير وعافية وهو مشتاق لك !!
    قالت : وأنا .. فلم أعد أسمع إلا بكاءها .. ونشيجها !!
    قالت وهي تحاول كتم العبرات : أستاذ ( طلبتك ) أريد سماع صوته وصوت أمين .. أنا من خمسة أشهر لم أسمع صوتيهما !!
    لم أتمالك نفسي فدمعت عيناي !! يا الله أين الرحمة ؟ أين حق الأم !؟
    قلت : أبشري ستكلمينه وباستمرار .. ولكن أن تساعديني في محاولة الرفع من مستواه .. شجعيه على الاجتهاد .. لنحاول تغييره .. لنبعث بذلك رسالة إلى والده !!!
    قالت والده : ( الله يسامحه ) كنت له نعم الزوجة .. ولكن ما أقول إلا , ( الله يسامحه ) !! ثم قالت : المهم أريد أن أكلمهما وأسمع صوتيهما !!
    قلت : حالاً .. ولكن كما وعدتني .. لا تتحدثي عن مشاكله مع زوجة أبيه!!
    قالت : أبشر !!
    دعوت ياسر وأيمن إلى غرفة المدير وأغلقت الباب .. وقلت : ياسر هذه أمك تريد أن تكلمك !! لم ينبس ببنت شفة .. أسرع إلىَّ وأخذ السماعة من يدي وقال : أمي .. أمي !!
    تحول الحديث إلى بكاء !! تركته يفرغ ألما ملأ فؤاده .. وشوقاً سكن قلبه !! حدثها .. خمس عشرة دقيقة !!
    أما أيمن فكان حديثها معه قصة أخرى ..
    كان بكاء وصراخا من الطرفين !! ثم أخذتُ السماعة منهما .. وكأنني أقطع طرفاً من جسمي ..
    قالت لي : سأدعو لك ليلاً ونهاراً .. لكن لا تحرمني من ياسر وأخيه !! ولا يعلم بذلك والدهما !!
    قلت : لن تُحرمي من محادثتهما بعد اليوم !! وودعتها !
    وقلت لياسر بعد أن وضعت سماعة الهاتف : هذه المكالمة مكافأة لك على اهتمامك الفترة الماضية .. وسأكررها لك إن اجتهدت أكثر !!
    عاد الصغير فقبل يدي .. وخرج وقد افترَّ عن ثغره الصغير ابتسامة فرح ورضى !! قال : أعدك يا أستاذ أن أجتهد وأجتهد !!
    مضت الأيام وياسر من حسن إلى أحسن .. يتغلب على مشاكله شيئاً فشيئاً .. رأيت فيه رجلاً يعتمد عليه !!
    وفي نهاية الفصل الأول : ظهرت النتائج فإذا بياسر الذي اعتاد أن يكون ترتيبه العشرين في الفصل عدد طلابه ( 26 ) طالباً يحصل على الترتيب السابع !!
    دعوته إليًّ وقد أحضرت له ولأخيه هدية قيمة .. وقلت له : نتيجتك هذه هي رسالة إلى والدك ..
    ثم سلمته الهدية وشهادة تقدير على تحسنه .. وأرفقت بها رسالة مغلقة بعثتها لأبيه كتبتها ولم أكتب رسالة مثلها من قبل .. كانت من عدة صفحات !! بعثتها .. ولم أعلم سيكون أثرها .. وقبولها !!
    خالفني بعض ممن استشرتهم وأيد بعض !! خشينا أن يشعر بالتدخل في خصوصياته !! ولكن الأمانة والمعانة التي شعرت بها دعت إلى كل ما سبق !!
    ذهب ياسر .. يوم الاثنين بالشهادة والرسالة والهدية بعد أن أكدت عليه أن يضعها بيد والده !!
    في صباح يوم الثلاثاء .. قدمت للمدرسة الساعة السابعة صباحاً .. وإذا بياسر قد لبس أجمل الملابس يمسك بيده رجل
    حسن الهيئة والهندام !! أسرع أليًّ ياسر وسلمت عليه .. وجذبني حتى يقبل رأسي !! قال : أستاذ هذا أبي .. هذا أبي !!
    ليتكم رأيتم الفرحة في عيون الصغير ,, ليتكم رأيتم الاعتزاز بوالده .. ليتكم معي لشعرتم بسعادة لا تدانيها سعادة !!
    أقبل الرجل فسلم علي : وفاجأني برغبته في تقبيل رأسي فأبيت , فأقسم أن يفعل !! أردت الحديث معه فقال : أخي .. لا تزد جراحي جراحاً ..

    يكفيني ما سمعته من ياسر وأيمن عن معاناتهما مع أبنته عمي ( زوجتي ) !! نعم أنا الجاني والمجني عليه ! أنا الظالم والمظلوم !!
    فقط أعدك أن تتغير أحوال ياسر وأيمن وأن أعوضهما عما مضى !! بالفعل تغيرت أحوال ياسر وأيمن ..فأصبحا من المتفوقين .. وأصبحت زيارتهما لأمهما بشكل مستمر !!
    قال الأب : ليتك تعتبر ياسر أبناً لك ..
    قلت له : كم يشرفني أن يكون ياسر ولدي !!
    سمو مسلمة
    سمو مسلمة


    كتيب حياة السعداء Empty رد: كتيب حياة السعداء

    مُساهمة من طرف سمو مسلمة الأربعاء 07 مارس 2012, 11:08 am

    أنا ابن الراعي


    ها هو رجل قوي وسيم ..في أوج شهوته وشدة شهوته لكنها مربوطة بالله .. آمن بالله فرضي به رباً ومالكاً ومدبراً .. امتحن الله إيمانه .. واختبر صدقه .. منجح وجاوز الامتحان عرضت عليه الفتنة
    وتعرض للبلاء الذي ربما لا يطيقه الصم الصلاب لكنه صمد .. كصمود الجبال .. فلما علم الله منه صدق إيمانه ثبته أيما تثبيت .. بل وأخرج على يديه معجزة تقرأ إلى آخر الزمان ..

    كان في بلده فساق وفجار يتواصون على إفساد الناس .. وليس هؤلاء في بلد هذا الرجل فقط ..
    بل أمثالهم موجودون في بلديوفي بلدك وفي كل بلدانها ثلة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله .. يهمها أن تقود الأمة وشيبها ونساءها إلى النار.. فمن هو ؟ ومن يكون ؟
    أنه الرجل الذي قص علينا خبره من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم , فهذه القصة بطولها
    قال صلى الله عليه وسلم Sad لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى بن مريم , قال :وكان في بني إسرائيل رجل عابد , ويقال له جريج فابتنى صومعة , وتعبد فيها ..
    قال : فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج فقالت : بغي منهم , لئن شئتم لأفتننه فقالوا : قد شئنا ذاك
    قال : أتته فتعرضت له : فلم يلتفت إليها فأمكنت من راع كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج , فحملت فولدت غلاماً ..
    فقالوا : ممن ؟
    فقالت : من جريج , فأتوه فاستزلوه , فشتموه , وهدموا صومعته ..
    قال : ما شأنكم ؟
    قالوا : إنك زنيت بهذه البغي , فولدت غلاماً ..
    فقال : أين هو ؟
    قالوا : هو ذا ..
    قال : فقام فصلى ودعا , ثم انصرف إلى الغلام مطعنه بإصبعه فقال : بالله يا غلام من أبوك ؟
    فقال : أنا ابن الراعي , فثبتوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه , وقالوا : نبني صومعتك من ذهب , قال : لا حاجة لي في ذلك , ابنوها من طين كما كانت ..
    قال : وبينما امرأة في حجرها ابن لها ترضعه , إذ مر بها راكب ذو شارة فقالت : اللهم أجعل ابني مثل هذا ..
    قال : فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال : اللهم لا تجعلني مثله .. قال : فثم عاد إلى ثديها فمصه ..
    قال أبو هريرة : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , يحكي صنع الصبي , ووضع إصبعه في فيّه يمصها ..
    ثم مرت بأمه تضرب , فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثلها ..
    قال : فترك ثديها وأقبل على الأمة , فقال : اللهم أجعلني مثلها .. قال : فذاك حين تراجعنا الحديث .. فقالت : خلفي مر الراكب ذو الشارة ..
    فقلت : اللهم أجعلي ابني مثله ..
    فقلت : اللهم لا تجعلني مثله , ومررت بهذه الأمة ..
    فقلت : اللهم لا تجعلني ابني مثلها ..
    فقلت : اللهم أجعلني مثلها ...
    فقال : يا أماه إن الراكب ذا الشارة جبار من الجبابرة , وإن هذه الأمة يقلون , زنت ولم تزن , وسرقت ولم تسرق وهي تقول : حسبي الله ) رواه البخاري ( 6 / 511 ) وأحمد وهذا لفظه , ومسلم في الأدب ..



    داعية بعد الموت


    في جمهورية رواندا الأفريقية : شاء الله أن يولد مسلم جديد .. كان حياً قبل ذلك , ولكن بجسده فقط لأنه كان نصرانياً ..
    أما روحه فلم تعرف إلا بعد أن أعلن إسلامه وذاق طعم الإيمان .. { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } سورة الأنعام آية 122
    ويعلم أهله بالخير فيثورون عليه , ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها , ولا عجب , فقلوبهم قد امتلأت بالحقد الصليبي : { وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } سورة البقرة آية 120
    وهم يسمعون يومياً في المدرسة , وفي الكنسية , أن العربي ( المسلم ) مرادف للشيطان , مع أنهم نادراً ما يرون مسلماً !
    في المدرسة وهم صغار تتلقفهم الكنيسة البلجيكية , وتلقنهم أن العرب قوم متوحشون , يُحرقون القرى , ويقتلون الأبرياء , ويسرقون النساء , ويتركون وراءهم الأرض خراباً !!
    هذه المعاني كلها تؤكدا الكنيسة في كل مناسبة .. ويصل الخبر إلى شقيق هذا المسلم الجديد , فيستشيط غضباً , وينفجر وهو يرى أخاه يصلي واضعاً جبهته في الأرض لله رب العالمين ..
    وتؤتي تلك التعاليم الفاسدة ثمارها الخبيثة في صورة ثورة عارمة , تنتهي بقتل النصراني الحاقد لأخيه المسلم وهو ساجد ..
    قال صلى الله عليه وسلم : ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى إذا ما كان بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيد خلها ) ..
    ولكن هل انتهت القصة ؟
    كلا .. لقد قبض رجال الشرطة على القاتل .. بينما بقيت جثة المسلم ثلاثة أيام في تلك الأجواء الحارة لم تتغير لتكون دليلاً ملموساً وشاهداً صامتاً على عظمة هذا الدين وطهارته , وأنه هو دين الحق ..
    ( إن العبد ليعمل ـ فيما يرى الناس ـ عمل أهل الجنة , وإنه لمن أهل النار , ويعمل ـ فيما يرى الناس ـ عمل أهل النار , وهو من أهل الجنة , وإنما الأعمال بالخواتم )
    وتعال معي إلى تلك المرأة التي هي امرأة كبقية النساء تحب الحياة فأمنت بالله , فرضيت به رباً ومالكاً ومدبراً وحاكماً ..
    امتحن الله إيمانها واختبر صدقها , وتعرضت للبلاء الذي ربما لا تطيقه الصم الصلاب , فلما علم الله منها صدقها وإيمانها ثبتها وربط على قلبها فأي امرأة تلك ومن هي ؟ ومن تكون ؟
    أنها المرأة التي قص علينا خبرها من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ـ فهناك القصة بطولها ـ
    قال صلى الله عليه وسلم : ( كان ملك فيمن كان قبلكم , وكان له ساحر , فلما مكبر قال للملك : أني قد كبرت فابعث إلى غلام أعلمه السحر , فبعث إليه غلاماً يعلمه ..
    مكان في طريقه إذا سلك راهب , فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه , فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليهفإذا أتى الساحر ضربه , فشكا ذلك إلى الراهب ..
    فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حسبي أهلي , وإذا خشيت أهلك فقل : حبسي الساحر , فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حسبت الناس فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أن الراهب أفضل ؟ فأخذ حجر !
    فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس , فرماها فقتلها , ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني !
    أنت اليوم أفضل مني : قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلي , فإذا إبتليت فلا تدل عليّ , وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص , ويُداوي الناس من سائر الأدواء , فسمع جليس للملك ـ كان قد عمى ـ فأتاه بهدايا كثيرة ..
    فقال : ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال : إني لا أشفي أحداً , إنما يشفي الله , فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشافاك , فآمن بالله فشفاه الله , فأتى الملك فجلس إليه كما يجلس ..
    فقال له الملك : من ردّ إليك بصرك ؟ قال : ربي !
    قال : ولك رب غيري ؟
    قال : ربي وربك الله ,فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام , فجيء بالغلام ,فقال له الملك : أي بني بلغ سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص , وتفعل وتفعل ..

    فقال : إني لا أشفي أحداً , إنما يشفي الله , فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب , فجيء بالراهب,فقيل له : أرجع عن ينك , فأبى فدعا بالمنشار , فوُضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ..
    ثم جيء بجليس الملك فقيل له : أرجع عن ينك , فأبى فدعا بالمنشار , فوُضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه , ثم جيء بالغلام فقيل له : أرجع عن ينك , فأبىفدفعه إلى نفر من أصحابه ..
    فقال : أذهبوا به إلى جبل كذا وكذا , فاصعدوا به الجبل , فإن بلغتم ذروته , فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه , فذهبوا به فصعدوا بع الجبل ..
    فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت , فرجف بهم الجبل فسقطوا , وجاء يمشي إلى الملك , فقال : ما فعل أصحابك ؟
    قال : كفانيهم الله ..
    فقال الملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به .
    قال : ما هو ؟
    قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد قوس ثم قل : باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ..
    فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال :باسم الله رب الغلام , ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات ..
    فقال الناس : آمنا برب الغلام .. آمنا برب الغلام .. آمنا برب الغلام , فأُتيَ الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذره ؟ قد والله نزل بك حذرك ..
    قد آمن الناس : فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخُدّت , وأضرم النيران ..
    وقال : من لم يرجع عن دينه فتحموه فيها , أو قيل له : اقتحم , ففعلوا حتى جاءت امرأة ومها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها , فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنكِِِِِِ على الحق ) رواه مسلم


    ماذا حدث في الطائرة


    حينما جلست في المقعد المخصص لي في الدرجة الأولى من الطائرة التي تنوي الإقلاع إلى عاصمة دولة غربية , كان المقعد المجاور لي ما يزال فارغاً , بل إن وقت الإقلاع قد اقترب والمقعد ما يزال فارغاً ..
    قالت في نفسي : أرجو أن يظل فارغاً , أو أن ييسّر الله لي فيه جاراً طيباً يعينني على قطع الوقت بالنافع المفيد ..
    نعم إن الرحلة طويلة سوف تستغرق ساعات يمكن أن يمضي سريعاً حينما يجاورك من ترتاح إليه نفسك ..
    وقبيل الإقلاع جاء من شغل المقعد الفارغ .. فتاةُ في مَيعة الصُبا , لم تستطع العباءة الفضفاضة السوداء ذات الأطراف المزيَّنة أن تختفي ما تميزت به تلك الفتاة من الرُقة والجمال ..
    كان العطر فواحاً وحينما وجهت نظري إلى أحد الركاب .. رأيتُه ينظر إلى وجهه يكاد يقول لي : ليتني في مقعدك .. عندما غاصتُ الطائرة في السحاب الكثيف بعد الإقلاع بدقائق معدودات اتجه نظري إلى دلك المنظر البديع , سبحان الله العظيم ..
    قلتها بصوت مرتفع وأنا أتأمل تلك الجبال الشاهقة من السحب المتراكمة التي أصبحنا ننظر إليها من مكان مرتفع , قالت الفتاة التي كانت تجلس بجوار النافذة , أي والله سبحان الله العظيم ..
    لم تكن الفتاة وهي تقول لي هذا على حالتها التي دخلت بها الطائرة , كلا .. لقد لملمت العباءة ووضعتها داخل حقيبتهاقلت لها : سبحان من علَّم الإنسان ما لم يعلم ..
    قالت : إنها تدلُّ على قدرة الله تعالى ..
    قلت : نعم تدل على قدرة مبدع هذا الكون وخالقة ,الذي أودع فيه أسراراً عظيمة , وشرع فيه للناس مبادئ تحفظ حياتهم وتبلًّهم رضى ربهم , وتنجيهم من عذابه يوم يقوم الأشهاد ..
    قالت : هل يمكن أن نسمع شيئاً من الشعر ؟فإني أحب الشعر وإن هذه الرحلة ستكون تاريخية بالنسبة إليَّ , ما كنت أسمع منك مباشرة ..
    وسكت قليلاً : كنت أحاور نفسي حواراً داخلياً مُربكاً : ما أفعل ؟ هل أبدأ بنصيحة هذه الفتاة وبيان حقيقة ما وقعت فيه من أخطاءٍ ظاهرة ؟ أم أترك ذلك إلى آخر المطاف ؟
    وبعد تردد قصير عزمت على النصيحة المباشرة السريعة لتكون خاتمة الحديث معها .. وقبل أن أتحدث أخرجت من حقيبتها قصاصات ملوَّنه وقالت : هذه بعض أوراق أكتبها , أنا أعلم أنها لست على المستوى الذي يناسب ذوقك , ولكنها خواطر عبرت بها عن نفسي ,,
    وقرأت القصاصات بعناية كبيرة , إني أبحث فيها عن مفتاح لشخصية الفتاة .. أنها خواطر حالمة , هي فتاة رقيقة المشاعر جداً , أحلامها تطغي على عقلها بشكل واضح , لفت نظري أنها تستشهد بأبيات من شعر , قلت في نفسي هذا شيء جميل لعل ذلك يكون سبباً في أن ينشرح صدرها لما أريد أن أقول ..
    بعد أن قرأت القصاصات عزمت على تأخير النصيحة المباشرة وسمحت لنفسي أن تدخل في حورا شامل مع الفتاة ..
    قلت لها : عباراتكً جميلة منتقاة , ولكنها لا تحمل معنىً ولا فكرة كما يبدو لي , لم أفهم منها شيئاً , فماذا أردتِ أن تقولي ؟
    بعد صمت قالت : لا أدري ماذا أردت أن أقول , إني أشعر بالضيق الشديد , خاصة عندما يخيَّم عليَّ الليل ..
    أقرأ المجلات النسائية المختلفة , أتأمل فيها صور الفنانات والفنانين , يعجبني وجه فلانة , وقامة فلانة , وفستان علاًّنة ,بل تعجبني أحياناً ملامح أحد الفنانين فأتمنَّى لو أن ملامح زوجي كملامحه ..
    فإذا مللت من المجلات اتجهت إلى الأفلام , أشاهد منها ما استطيع وأحسُّ بالرغبة في النوم , بل إني أغفو وأنا في مكاني , فأترك كل شيء وأتجه إلى فراشي , وهناك يحدث ما لا أستطيع تفسيره , هناك يرتحل النوم , فلا أعرف له مكاناً .
    عجباً , أين ذلك النوم ؟ الذي كنت أشعر به وأنا جالسة , وتبدأ رحلتي مع الأوراق , وفي تلك اللحظات أكتب هذه الخواطر التي تسألني عنها .. ( إنها مريضه )قلتها في نفسي نعم إنها مريضة العصر , والقلق الخطير , إنها بحاجة إلى علاج ..
    قلت لها : ولكن خواطرك هذه لا تعبر عن شيء مما قلت وإنها عبارات برًّاقة ,يبدو أنك تلتقطينها من بعض المقالات المتناثرة وتجمعينها في هذه الأوراق ..
    قلت : عجباً لك , أنت الوحيد الذي تحدَّث بهذه الحقيقة , كل صديقاتي يتحدثن عن روعة ما أكتب , بل إن بعض هذه الخواطر قد نشرت في بعض صحفنا , وبعثَ ليَّ المحرِّر برسالة شكر على هذا الإبداع , أنا معك أنها ليس لها معنى واضح ,ولكنها جميلة ..

    وهنا سألتها مباشرة : هل لك هدفً في هذه الحياة ؟!
    بدأ على وجهها الارتباك , لم تتوقع السؤال , وقبل أن تجيب قلت لها : هل لك عقل تفكرين به ؟ وهل لديك استقلال في التفكير ؟ أم أنك قد وضعت عقلك بين أوراق المجلات النسائية التي أشرت إليها , وحلقات الأفلام التي ذكرت أنك تهرعين إليها عندما تشعرين بالملل , هل أنت مسلمة ؟
    هنا تغير كل شيء ,,



    هنا تغير كل شيء , أسلوبها في الحديث تغيرَّ جلستها تغيرَّت , قالت : هل تشك في أنني غير مسلمة ؟!
    أنني الحمد لله مسلمة .. ومن أسرة مسلمة عريقة في الإسلام , لماذا تسألني هذا السؤال ؟ أن عقلي حر ليس أسيراً لأحد , إني أرفض أن تتحدَّث بهذه الصورة .. وانصرفت إلى النافذة تنظر من خلالها إلى ملكوت الله العظيم ..
    لم أعلق على كلامها بشيء , بل إنني أخذت الصحيفة التي كانت أمامي وانهمكت في قراءتها , ورحلت مع مقال في الصحيفة يتحدث عن الإسلام والإرهاب كان مقالاً طويلاً مليئاً بالمغالطات والأباطيل ..
    يا ويلهم هؤلاء الذين يكذبون على الله , ولا أكتمكم أنني انصرفت إلى هذا الأمر كلياً حتى نسيت في لحظتها ما جرى من حوار بيني وبين مجاورتي في المقعد , ولم أكن أشعر بنظراتها التي تختلسها إلى الصحيفة لترى هذا الأمر الذي شغلني عن الحديث معها .. كما أخبرتني فيما بعد .
    ولم أعد من جولتي الذهنية مع مقال الصحيفة إلا على صوتها وهي تسألني : أتشك في إسلامي ؟!
    قلت لها : ما معنى الإسلام ؟!
    قالت : أنا طفلة حتى تسألني هذا السؤال ؟
    قلت لها : معاذ الله بل أنت فتاة ناضجة تامة النضج , تُلوِّن وجهها بالأصباغ , وتصفِّفُ شعرها بطريقة جيدة , وتلبس عباءتها وحجابها في بلادها , فإذا رحلت خلعتهما وكأنهما لا يعنيان لها شيئاَ ..
    نعم إنك فتاة كبيرة تحسن اختيار العطر الذي ينشر شذاه في كل مكان .. فمن قال إنك طفلة ؟!
    قالت : لماذا تقسو عليِّ بهذه الصورة ؟
    قلت لها : ما الإسلام ؟!
    قالت : الدين الذي أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم , وقلت لها : وهو كما حفظنا ونحن صغار : ( الاستسلام لله بالتوحيد , والانقياد له بالطاعة , والخلوص من الشرك ) , قالت : أي والله ذكرتني , لقد كنت أحصل في مادة التوحيد على الدرجة الكاملة ..
    قلت لها : ما معنى ( الانقياد له بالطاعة ) ؟

    سكتت قليلا ثم قالت : أسألك بالله لماذا تتسلًّط علي بهذه الصورة ؟ لماذا تسيء إليَّ وأنا لم أسيء إليك ؟
    قلت : عجباً لك , لماذا تعدّين حواري معك إساءة ؟ أين موطن الإساءة فيما أقول ؟
    قالت : أنا ذكية وأفهم ما تعني , أنت تنتقدني وتؤنبني وتتهمني , ولكن بطريقة غير مباشرة ..
    قلت لها : ألست مسلمة ؟
    قالت : لماذا تسألني هذا السؤال ؟ أني مسلمة من قبل أن أعرفك , وأرجوك ألا تتحدث معي مرة أخرى .. قلت لها : أنا متأسف جداً , وأعدك بألا أتحدث إليك بعد هذا ..
    ورجعت إلى صفحات الصحيفة التي أمامي أكمل قراءة ذلك المقال الذي يتجنِّى فيه صاحبه على الإسلام ..
    ويقول : إنه دين الإرهاب , وأن أهله يدعون إلى الإرهاب , وقالت في نفسي : سبحان الله المسلمون يذبَّحون في كل مكان كما تذبح الشِّياه ويقال عنهم أهل الإرهاب ..
    وقلبت صفحة أخرى فرأيت خبراً عن المسلمين في كشمير , وصورة لامرأة مسلمة تحمل طفلاً , وعبارة تحت صورتها تقول : إنهم يهتكون أعراضنا , وينزعون الحجاب عنَّا بالقوة وإن الموت أهون عندنا من ذلك , ونسيت أيضاً أن مجاورتي كانت تختلس نظرها إلى الجريدة ..
    وفوجئت بها تقول : ماذا تقرأ ؟
    ولم أتحدث لها . بل أعطيتها الجريدة وأشرت بيدي إلى صورة المسلمة الكشميرية والعبارة التي نُقلت عنها ..





    ساد الصمت وقتاً ليس بالقصير , ثم جاءت خادمة الطائرة بالطعام ,, واستمر الصمت .. وبعد أن تجوَّلتُ في الطائرة قليلاً , رجعت إلى مقعدي , وما أن جلست حتى بادرتني مجاورتي قائلة : ما كنت أتوقع أن تعاملني بهذه القسوة !
    قلت لها : لا أدري معنى القسوة عندكِ ! أنا لم أزد على أن وجهت إليك أسئلة .. كنت أتوقع أن أسمع منك إجابة عنها , ألم تقولي إنك واثقة بنفسك ثقةً كبيرة ؟ فلماذا تزعجك أسئلتي ؟



    قالت : أشعر أنك تحتقرني ..
    قلت لها : من أين جاءك هذا الشعور ؟
    قالت : لا أدري ..
    قلت لها : ولكنني أردي .. لقد أنطلق هذا الشعور من أعماق نفسك , إنه الشعور بالذنب والوقوف في الخطأ , أنت تعيشين ما يمكن أن أسمّية بالازدواجية .. أنت تعيشين التأريخ بين حالتين .. وقاطعتني بحدّة قائلة :هل أنا مريضة نفسياً ؟ ما هذا الذي تقول ؟!
    قلت لها : أرجو ألا تغضبي , دعيني أكمل , أنت تعانين من ازدواجيةٍ مؤذية , أنت مهزومة من الداخل , لا شك عندي في ذلك وعندي أدلّة لا تستطيعين إنكارها .. قالت مذعورة : ما هي ؟
    قلت : تقولين إنك مسلمة , والإسلام قول وعمل , وقد ذكرت لك في أول حوارنا إن من أسس الإسلام الانقياد لله بالطاعة .. فهل أنت منقادة لله بالطاعة ؟ وسكتُّ لحظة لأتيح لها التعليق على كلامي , ولكنها سكتت ولم تنطق ببنتِ شفةٍ ـ كما يقلون ـ وفهمت أنها تريد أن تسمع ..
    قلت لها : هذه العباءة وهذا الحجاب اللذان حُشرا ـ مظلومَين ـ في هذه الحقيبة الصغيرة دليل على ما أقول ..
    قالت : بغضب واضح : هذه أشكال وأنت لا تهتم إلا بالشكل , المهم الجوهرة ..
    قلت لها :أين الجوهرة ؟ ها أنت قد اضطربت في معرفة مدلولات كلمة ( الإسلام ) الذي تؤمنين به . ثم إن للمظهر علاقة قوية بالجوهرة .. إن أحدهما يدل على الآخر , وإذا اضطربت العلاقة بين المظهر والجوهر , اضطربت حياة الإنسان ..
    قالت : هل يعني كلامك هذا أنَّ كل من تلبس عباءة وتضع على وجهها حجاباً صالحة نقية الجوهرة ؟
    قلت لها : كلا , ولم أقصد هذا أبداً , ولكنَّ من تلبس العباءة والحجاب تحقِّق مطلباً شرعياً , فإن انسجم باطنها مع ظاهرها , كانت مسلمة حقّة ..وإن حصل العكس وقع الاضطراب في شخصيتها , فكان نزعُ هذا الحجاب عندما تحين لها الفرصة هيِّناً ميسوراً , إن الجوهرة هو المهم .. وأذكرك الآن بتلك العبارة التي نقلتها الصحيفة عن تلك المرأة الكشميرية المسلمة , ألم تقل إن الموت أهون عليها من نزع الحجاب ؟ لماذا كان الموت أهون ؟ لأنها أمن بالله إيماناً جعلها تنقاد له بالطاعة فتحقق معنى الإسلام تحقيقاً ينسجم فيه جوهرها مع مظهرها , وهذا الانسجام هو الذي يجعل المسلم يحقق معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) .. إن لبس العباءة والحجاب عندك لا يتجاوز حدود العادة والتقليد , ولهذا كان هيّناً عليك أن تنزعيهما عنك دون تردُّد حينما ابتعدت بك الطائرة عن أجواء بلدك الذي استقيت منه العادات والتقاليد ..
    أما لو كان لبسك للحجاب منطلقاً من إيمانك بالله . واعتقادك أنه هذا أمر شرعي لا يفرّق بين مجتمع ومجتمع , ولا بلد وبلدٍ لما كان هيّناً عليك إلى هذه الدرجة ..
    الازدواجية في الشخصية يا عزيزتي هي المشكلة .. أتدرين ما سبب هذه الازدواجية ؟ فظننت أنها ستجيب ولكنها كانت صامتةً , وكأنها تنتظر أن أجيب أنا على هذا السؤال ..
    قالت :سبب هذه الازدواجية الاستسلام للعادات والتقاليد , وعدم مراعاة أوامر الشرع ونواهيه .. إنها تعني ضعف الرقابة الداخلية عند الإنسان , ولهذا فإن من أسوأ نتائجها الانهزامية حيث ينهزم المسلم من الداخل , فإذا انهزم تمكن منه هوى النفس , وتلاعب به الشيطان , وظلَّ كذلك حتى تنقلب في ذهنه الموازين ..
    لم تقل شيئاً , بل لاذت بصمت عميق , ثم حملت حقيبتها واتجهت إلى مؤخرة الطائرة .. وسألت نفسي تراها ضاقت ذرعاً بما قلت ؟ وتراني وُفَّقت فيما عرضت عليها ؟ لم أكن في حقيقة الأمر .
    أعرف مدى التأثير بما قلت سلباً أو إيجابياً , ولكنني كنت متأكد من أنني قد كتمت مشاعر الغضب التي أشعر بها حينما توجه إليَّ بعض العبارات الجارحة , ودعوت لها بالهداية , ولنفسي بالمغفرة والثبات على الحق ..
    وعادت إلى مقعدها .. وكانت المفاجأة ,


    وعادت إلى مقعدها .. وكانت المفاجأة , عادت وعليها عباءَتُها وحجابها .. ولا تسأل عن فرحتي بما رأيت !
    قالت : إن رحمة الله بي هي التي هيأت لي الركوب في هذا المقعد , صدقت حينما وصفتني بأنني أعاني الهزيمة الداخلية .
    إن الازدواجية التي أشرت إليها هي السمة الغالبة على كثير من بنات المسلمين وأبنائهم , ويا ويلنا من غفلتنا !
    إن مجتمعاتنا النسائية قد استسلمت للأوهام , لا أكتمك أيها الأخ الكريم , إن أحاديثنا في مجالسنا نحن النساء لا تكاد تتجاوز الأزياء والمجوهرات والعطور والأفلام والأغاني والمجلات النسائية الهابطة , لماذا نحن كذا ؟ هل نحن مسلمون حقاً ؟ هل أنا مسلمة ؟
    كان سؤالك جارحاً ولكني أعذرك لقد رأيتني على حقيقة أمري , ركبت الطائرة بحجابي , وعندما أقلعت خلعت عني الحجاب ,كنت مقتنعة بما صنعت , أو هكذا خُيِّل إليَّ أني مقتنعة ..
    بينما هذا الذي صنعته يدل حقاً على الانهزامية والازدواجية , إني أشكرك بالرغم من أنك قد ضايقتني كثيراً , ولكنك أرشدتني , أني أتوب إلى الله وأستغفره .. ولكن أريد أن أستشيرك ..
    قلت وأنا في روضةٍ من السرور بما أسمع من حديثها : نعم تفضلي إني مصغٍ إليك ..
    قالت : زوجي , أخاف من زوجي
    قلت : لماذا تخافين منه , وأين زوجك ؟
    قالت : سوف يستقبلني في المطار , وسوف يراني بعباءتي وحجابي ..
    قلت : وهذا الشيء سيسعده ..
    قالت : كلا , لقد كانت آخر وصية له في مكالمته الهاتفية بالأمس , إياك أن تنزلي إلي بالمطار بعباءتك لا تحرجيني أمام الناس , أنه سيغضب بلا شك ..
    قلت لها : إذا رضيت الله فلا عليك أن يغضب زوجُك , وبإمكانك أن تناقشيه هادئة فلعلَّه يستجيب , وإني أوصيك أن تعتني به عناية الذي يحب له النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة ..
    وساد الصمت .. وشردت بذهني في صورة خيالية إلى ذلك الزوج يوصي زوجته بخلع حجابها .. أهذا صحيح ؟ أيوجد رجل مسلم غيور كريم يفعل هذا ؟!
    لا حول ولا قوة إلى بالله إن مدينة هذا العصر تختلس أبناء المسلمين واحداً تلو الآخر , ونحن عنهم غافلون و بل نحن عن أنفسنا غافلون ..
    وصلت الطائرة إلى ذلك المطار البعيد , وانتهت مراسم هذه الراحلة الحافلة بالحوار الساخن بيني وبين جارة المقعد ولم أرها حين استقبلها زوجها ..
    بل إن صورتها قد غاصا بعد ذلك في علم النسيان , كما يغوص سواها من آلاف الأشخاص والمواقف التي تمر بنا كلَّ يوم ..
    كنت جالساً على مكتبي أقرأ كتاباً بعنوان ( المرأة العربية وذكورية الأصالة ) لكاتبته المسمَّاة ( منى غصوب ) وأعجبُ لهذا الخلط , والسفسطة , والعبث الفكري واللغوي الذي يتضمَّنه هذا الكتاب الصغير , وأصابني ساعتها شعور عميق بالحزن والأسى على واقع هذه الأمة المؤلم ..
    وفي تلك اللحظة الكالحة جاءني أحدهم برسالة وتسلَّمتها منه بشغف , لعلي كنت أود في تلك اللحظة أن أهرب من الألم الذي أشعله في قلبي ذلك الكتاب المشؤوم الذي تريد صاحبته أن تجرد المرأة من أنوثتها تماماً , وعندما فتحت الرسالة نظرت إلى اسم المرسل فقرأت ( المرسلة أختك في الله أم محمد الداعية لك بالخير ) .. أم محمد من تكون هذه ؟!
    قرأت الرسالة , وكانت المفاجأة بالنسبة إليَّ , أنها تلك الفتاة التي درا الحوار بيني وبينها في الطائرة , والتي غاصت قصتها في عالم النسيان !
    إن أهم عبارة قرأتها في الرسالة هي قولها : لعلَّك تذكر الفتاة التي جاورتك في مقعد الطائرة ذات يوم , أني أبشِّرك ,لقد عرفت طريقي إلى الخير , وأبشرك أن زوجي قد تأثر بموقفي فهداه الله , وتاب من كثير من المعاصي التي كان يقع فيها .. وأقول لك :ما أروع الالتزام الواعي القائم على الفهم الصحيح لديننا العظيم ! لقد قرأت قصيدتك ( ضدَّان يا أختاه ) وفهمت ما تريد !
    لا أستطيع أن أصور الآن مدى الفرحة التي حملتني على جناحيها الخافقين حينما قرأت هذه الرسالة .. ما أعظمها من بشرى .. حينما ألقيت بذلك الكتاب المتهافت الذي كنت أقرؤه ( المرأة العربية وذكورية الأصالة ) ألقيت به وأنا أردد قول الله تعالى : { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }

    ثم أمسكت بالقلم .. وكتبت رسالة إلى ( أم محمد ) عبرَّتُ فيها عن فرحتي برسالتها , وبما حملته من البشرى , وضمَّنتها أبياتاً من القصيدة التي أشارت إليها في رسالتها , منها :




    ضدان يا أختاه ما اجمتمعادين الهدى والفسق والصَّدُّ
    والله مـا أزرى بأمتـنـاإلا ازدواج مـا لـه حَـدُّ




    وعندما هممت بإرسال رسالتي , تبين لي أنها لم تكتب عنوانها البريديَّ , فطويتها بين أوراقي لعلّها تصل إليها ذات يوم .. القصيدة :


    هـذي العيونُ,وذلـك القَـدروالشيـخُ والريحـان والنَّـدُّ
    هذي المفاتنُ فـي تناسُقهـاذكرى تلوح, وعِبـرَةٌ تبـدو
    سبحانَ من أعطَى, أرى جسداًإغـراؤه للنـفـس يحـتـدُّ
    عينانِ مارَنَتا إلـى الرجـالإلا رأيــتَ قُــواه تَنـهَـدُّ
    من أينَ أنتِ, أأنجبتـك رُبـاخُضرٌ فأنتِ الزَّهر والـوردُ؟
    من أينَ أنتِ, فإنَّ بي شغفـاًوإليك نفسـي لهفـةً تعـدو
    قالت, وفـي أجفانهـا كحـليُغري, وفي كلماتهـا جِـدُّ:
    عربيّـةٌ, حرِّيَّتـي جعـلـتمنـي فتـاةً مالـهـا نــدُّ
    أغشي بقاعَ الأرض ما سَنَحَتلي فرصـةٌ, بالنفـس أعتـدُّ
    عربيّـةٌ, فسألـتُ : مسلمـةُقالت : نعم, ولخالقي الحمـدُ
    فسألتُهـا, والنفـسُ حائـرةُوالنارُ في قلبي لهـا وَقـدُ :
    من أينَ هذا الزِّيُّ ؟ ما عرفَتأرضُ الحجاز, ولا رأت نجـدُ
    هـذا التبـذُّلُ, يـا محدِّثتـيسَهـمٌ مـن الإحـادِ مرتـدُّ
    فتنمِّرت ثـم انثنـت صَلَفـاًولسانُهـا لِسِبَابِهَـا عَـنـد
    قالت: أنـا بالنَّفـسِ واثقـةٌحرِّيتـي دون الهـوى سَـدّ
    فأجبتُها والحزن يعصفُ بـيأخشى بـأن يتناثـر العقـدُ
    ضدَّان يا أختاه مـا اجتمعـادينُ الهدى والفسقُ والصَّـدُّ
    والله مــا أزرَى بأمَّـتـنَـاإلا ازدواجٌ مـا لَــهُ حــدُّ






    المصدر كتاب لا تغضب .. مناقشات هادئة للعشماوي
    سمو مسلمة
    سمو مسلمة


    كتيب حياة السعداء Empty رد: كتيب حياة السعداء

    مُساهمة من طرف سمو مسلمة الأربعاء 07 مارس 2012, 11:10 am

    إن ربك لبالمرصاد


    بعد أن تم خالد دراسته الثانوية كان يحلم بما يحلم به غيره من الشباب المراهقين من السفر إلى الخارج والدراسة في ديار الغرب بعيداً عن رقابة الأهل والمجتمع !
    وقد شجعه والده على ذلك ! وهيأ له كل ما يحتاجه من مستلزمات .. وحان موعد السفر فودعته أمه وقبلها ويتوجس خيفة ويتفطر آلماً , وحذرته من هفوات الشباب , ومهاوي الردى ..
    بات خالد يعد الدقائق والساعات شوقاً لتلك البلاد التي سمع عنها الكثير ولم يرها , وما إن وطئتها قدماه حتى نسي وصية أمه المشفقة , ونسي نفسه , بل نسى ربه الذي يراقبه في كل مكان : قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } سورة المجادلة آية 7 .
    وانهمك في المعاصي والآثام , حتى كاد ينسى دراسته التي سافر من أجلها ..
    وبعد سنوات أمضاها في ديار الغرب ما بين لهو ولعب ومجون , وقليل من الدراسة , عاد .. ولكن بعقل ممسوخ وقلب مظلم قد عصفت فيه رياح الأهواء والشهوات , وفتكت به أمراض الشكوك والشبهات ..
    عن حذيفة قال : كنا عند عمر فقال ( أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم , يذكر الفتن فقال قوم نحن سمعناه .. فقال لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره .. قالوا أجل قال تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة , ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر .. قال حذيفة : فأسكت القوم فقلت أنا .. قال : أنت لله أبوك قال حذيفة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه سوداء , وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا .. فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ) رواه مسلم .
    ولقد كان قلبه خالياً قبل ذلك , فتمكن منه الداء :


    أتاني هواها قبل أن أعرف الهوىفصـادف قلبـاً خاليـاً فتمكنـا




    كانت أمه طول تلك السنين كالثكلى تنتظر قدومه بفارغ الصبر , وتعدُ الدقائق والساعات شوقاً إلى لقائه , وتذرف الدمع في كل وقت خوفاً عليه ..أما هو فلم تخطر له أمه على بال , ولا يفكر بالسؤال عنها مجرد سؤال .. إلا في فترات متباعدة ..
    وأزف موعد قدومه فخرجت أمه إلى المطار بصحبة أخته لاستقباله , وقلبها يكاد يطير من شدة الفرح ..
    وفي صالة الانتظار , وقفت تترقب قدومه , وتفحص وجوه القادمين بحثاً عن ولدها الحبيب .. ها هو خالدٌ قد أقبل .. أهذا هو خالد ؟! همست الأم في أذن ابنتها والدهشة تكاد تعقد لسانها ..
    كان يلبس نظارة سودا وقد نفش شعره وأعفى لحيته على الطريقة الغربية .. فلما اقتراب منها عرفته بملامحه التي لا تخفى .. نادته .. خالد .. خالدالتفت إليها .. مدت الأم يدها إليه لتصافحه , قالت : أنا أمك يا خالد , وهذه أختك .. كانت تنتظر منه أن يضمّها , أن يقبل رأسها , أن يبكي فرحاً بلقائها .. لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك , بل مد يده ببرود شديد , وقال متهكماً : أما زلتن تغطين وجوهكن وتلبسن هذه الملابس السوداء ؟
    وتأمل معي قصة ذلك الرجل الذي كان يكتب الوحي للنبي عليه الصلاة والسلام فلحق بالنصارى فمات على النصرانية ..
    في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه فال : كان رجل نصراني فأسلم .. فحفظ البقرة وآل عمران .. وكان يكتب للنبي عليه الصلاة والسلام .. فعاد نصرانياً .. وكان يقول لا يدري محمد إلا ما كتبت له .. فأماته الله فدفنوه فأصبح .. وقد لفظته الأرض .. فقالوا : هذا فعل محمد وأصحابه .. لما هرب منهم .. نبشوا عن صاحبنا فألقوه .. فحفروا له .. فأعمفوا له في الأرض ما استطاعوا .. فأصبحوا وقد لفظته الأرض .. فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه ..
    ذهلت الأم لمقال أبنها , وتحولت دموع الفرح التي ذرفتها احتفالاً بقدومه , إلى دموع حزن وأٍى أسفاً على حاله , لكنها أخفت عبرتها خلف حجابها المصون وكتمت أنفاسها الحارة ,, وهي تردد : إنا لله وإنا إليه راجعون ..
    ومضت الأيام , وخالد سار في غيه وضلاله , ينتهز كل فرصه ليسافر عن تلك الديار ثم يعود , وقد ازداد تعلقاً بها , ومقتاً لدينه وأهله .
    أما أمه فلم تعد تقيم له وزناً , أو تلقي له بالاً , فقد سقط من عينها , وأبغضته في الله , وهذا هو مقتضى لا إله إلا الله .. قال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .. الآية } سورة المجادلة آية 22 .

    وصارت تدعو له بالصلاح والهداية , وربما دعت بالهلاك إن لم يهده الله .. وجاءت ساعة الصفر ..
    كانت ليلة زفافه من العروس التي اختارها لنفسه , ولكن الأجل لم يمهله , فبينما هو يسير بسيارته الصغيرة , إذ تعترض طريقة شاحنة كبيرة فلم يجد مفراً من الدخول تحتها لتحول هو وسيارته إلى كومة من حديد .. وبعد ساعة من الزمن وقف شرطي المرور وهو يحمل في كفيه كتلاً من اللحم والعظام .. إنه ما تبقى من خالد ..
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من ذنب أجدر أن يجعل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا , مع ما يدخره له في الآخرة , من البغي وقطيعة الرحم ) أخرجه أحمد وغيره



    حياة السعداء


    كلنا يبحث عن السعادة والأمان اللذان يملأن القلب راحة وطمئناناً , يقول أحد الباحثين عن السعادة .. لقد بحثت عنها في كل شيء فما وجدتها !! ألبس أفخر الملابس وأفخمها .. طفت العالم مع أهلي .. تنقلنا من شاطئ إلى شاطئ .. فما زادني ذلك إلا همَّاً وضيقاً ..
    ظننتها في الموسيقى والألحان .. فاشتريت أغلب الألبومات عربية وغربية .. قضيت في سماعها ساعات , أرقص على أنغامها .. فما ازددت إلاًّ بعداً وضياعاً .. ظننتها ـ أي السعادة ـ في مشاهدة المسلسلات والأفلام .. فتنقلت بين الفضائيات على أطباق ومسلسلات أبحث عن الضحك والفرفشة .. نعم ضحكت .. لكنني في نفس الوقت كنت أنزف دماً وأتألم في أعماقي .. فلا زال هناك شيء مفقود .. مع الوقت زادت الجراح وحاصرتنيَ الهموم ..
    واستشرت أصحابي فقالوا لي : إن السعادة في الارتباط بفتاة .. تبادلك الحب والغرام .. وتثبك عبارات العشق والهيام .. فأعطوني الأرقام .. وسلكت هذا الطريق .. وأخذت أتنقل من فتاة إلى أخرى .. بحثاً عن السعادة الحقيقية .. فما وجدتها .. لقد هربت من الجحيم إلى جحيم أبشع وأفظع ..
    يقول : أريدكم تعرفون عني .. وعن كثير من الغافلين أمثالي .. أننا ضحايا ولسنا بمجرمين .. نحن تائهون وحائرون .. أنا لا أقول ذلك دفاعاً عن نفسي وعن الغارقين .. إنما أقول ذلك .. حتى إذا رأيتمونا فارحمونا , وأشفقوا علينا , وادعوا لنا بالهداية .. سأسوق إليك ..
    أسباب السعادة وصفات السعداء
    إن من أراد أن ينال السعادة , وهو لم يأخذ بأسبابها يصدق عليه قول الشاعر :


    ترجو النجاة ولم تسلك مسلكهاإن السفيتة لا تجري على اليبس




    فلنقف معاً على أسباب السعادة وصفات السعداء ومنها :
    * الإيمان بالله , العمل الصالح :
    يقول الله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } سورة النحل آية 97 أي فالتحيينه حياة سعيدة ..
    قال صلى الله عليه وسلم (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ،وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإنأصابتهضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له ) رواه مسلم
    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم , يجد راحته ولذته في الصلاة والطاعة , كما يقول : ( أقم الصلاة يا بلال , أرحنا بالصلاة ) رواه أحمد وأبو داود
    بينما نجد كثيراً من الناس يقول : أرحنا من الصلاة , نحن في غم , في هم , نحن مشغولون عن الصلاة هكذا يقلون والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) رواه أحمد والنسائي
    وتأمل معي لنرى كيف يفعل الإيمان بأصحابه , كيف يجعلهم يشعرون بالسعادة في كل الأحوال !!
    ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عُذِّب وسُجِنَ وطُرِدَ , ومع هذا نجده يقول : وهو في قلعة دمشق , في آخر مرحلة من مراحل إيذائه وجهاده , يقول Sad ما يصنع أعدائي بي , أنا جنتي وبستاني في صدري , إن رحلت فهي معي لا تفارقني , إن حبسي خلوة ,وقتلي شهادة , وإخراجي من بلدي سياحة ) .

    هكذا يغلق الطريق في وجوه أعدائه بهذه المقولة الخالدة , التي تضيء الطريق للمؤمنين , ولا يستطيعها إلا عظماء الرجال , وذوو الهمم العالية ..
    * الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره :
    أعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك , وإن ما أخطأك لم يكن ليصيبك .. وهذه صفة السعداء , الرضا بقضائه وقدره , لأن الإنسان في هذه الحياة لا بد أن ينتابه شيء من الهموم والمصائب , فإن لم يؤمن بالقضاء والقدر , هلك ..
    فهذا عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ عندما أرادوا أن يقطعوا رجله , لأن فيها الأكلة ( السرطان ) فقالوا له : لا بد أن نسقيك خمراً : لكي نستطيع أن نقطع رجلك بدون أن تحس بآلام القطع خاصة أنهم بعد القطع سيضعونها في الزيت المغلي ليقف الدم فماذا كان موقفه ؟ لقد رفض ..وقال : لا , أيغفل قلبي عن ذكر الله ؟
    فقالوا : إذن ماذا نفعل ؟
    قال : إذا قمت إلى الصلاة , فافعلوا ما تشاؤون , لأن قلبه حينئذ يتعلق بالله , فلا يحس بما يفعل به ..
    وعندما كبر مصلياً , قطعوا رجله من فوق الركبة , ولم يتحرك , ولكن عندما وضعوا رجله في الزيت المغلي سقط مغشياً عليه , وفي الليل أفاق .. فإذا بالناس يقلون له : أحسن الله عزاءك في رجلك , وأحسن الله عزاءك في أبنك .. لقد مات ابنه في هذه الأثناء .. فماذا قال لهم ؟
    قال بكل تسليم وإيمان بالقضاء : ( الحمد لله , يا رب إن كنت ابتليت فقد عافيت , وإن كنت أخذت فقد أعطيت وأبقيت ) ... قال تعالى : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } سورة فصلت آية 35 .
    * العلم الشرعي :
    فالعلماء العارفون بالله هم السعداء .. وإليك قصة أبي الحسن الزاهد , مع ابن طولون الظالم فما أحداث تلك القصة المثيرة ؟
    كان أحمد بن طولون ـ أحد ولاة مصر ـ من أشد الظلمة , حتى قيل : إنه قتل ثمانية عشرة ألف إنسان صبراً أي ( يقطع عنه الطعام والشراب حتى يموت ) وهذا من أشد أنواع القتل , فذهب أبو الحسن الزاهد إلى أحمد بن طولون امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الجهاد كلمة حق عن السلطان جائر ) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة
    وقال له : ( إنك ظلمت الرعية ) , وخوفه بالله تعالى , فغضب ابن طولون غضباً شديداً , وأمر بأن يُجوَّع أسدَّ ثم يطلق على أبي الحسن !!يا له من موقف رهيب !!
    لكن نفس أبي الحسن الممتلئة بالإيمان والثقة بالله , جعلت موقفه موقفاً عجيباً .. عندما أطلقوا عليه الأسد أخذ يزأر , ويتقدم , ويتأخر , وأبو الحسن جالس لا يتحرك , ولا يبالي , والناس ينظرون إلى الموقف , بين باك وخائف على هذا العالم الورع الذي وضعوا أمامه أسداً جائعاً !!
    أنها معركة غير متكافئة !! لكن ما الذي حدث ؟
    لقد تقدم الأسد وتأخر , وزأر , ثم سكت , ثم طأطأ رأسه , فقرب من أبي الحسن , فشمه , ثم أنصرف عنه هادئاً , ولم يمسسه بسوء ..
    وهنا تعجبَّ الناس ! وكبرَّوا وهلَّلوا .. ولكن في القصة ما هو أعجب من ذلك
    سمو مسلمة
    سمو مسلمة


    كتيب حياة السعداء Empty رد: كتيب حياة السعداء

    مُساهمة من طرف سمو مسلمة الأربعاء 07 مارس 2012, 11:15 am



    وهنا تعجبَّ الناس ! وكبرَّوا وهلَّلوا .. ولكن في القصة ما هو أعجب من ذلك .. لقد استدعى ابن طولون أبا الحسن وقال له : قل لي بماذا كنت تفكر , والأسد عندك , وأنت لا تلتفت إليه , ولا تكترث به ؟

    فأجاب قائلاً : أني كنت أفكر في لعاب الأسد إن مسني أهو طاهر أم نجس ؟
    قال له : ألم تخف من الأسد ؟
    وقال : لا فإن الله قد كفاني ذلك .. هذه هي السعادة الحقيقية , التي يورثها الإيمان والعلم النافع , هذا هو الانشراح الذي يبحث عنه كل الناس ..
    هذا الموقف الصلب عن أبي الحسن يذكرنا بموقف الصحابي الجليل خبيب بن عدي رضي الله عنه عندما أسره المشركين .. وقبل أن يقتلوه سألوه : هل لك حاجة قبل الموت ؟
    فطلب منهم أن يمهلوه حتى يصلي ركعتين , فأمهلوه فصلى ركعتين , وكان أول من سن الركعتين قبل القتل ..
    وبعد الصلاة قال : والله لولا أني خشيت أن تظنوا أني جزع من القتل , لأطلت الصلاة .. فلما رفعوه ليصلبوه سألوه : أتحب أن محمداً مكانك وأنك بين أهلك ؟
    فقال : ( والله إني لا أحب أن يصاب محمد بشوكة بين أهله , وأنا في مكاني هذا ) !!
    انظر يا أخي المسلم إلى قوة اليقين , وصلابة المؤمنين !!
    ثم قال رضي الله عنه : ( اللهم أحصهم عدداً , واقتلهم بدداً , ولا تغادر منهم أحداً ) .. وأنشد يقول :


    ولست أبالي حيـن أقتـل مسلمـاًعلى أي جنب كان في الله مصرعي
    ولسـت بمبـد للعـدو تخشـيـاًولا جزعاً إنَّى إلـى الله مرجعـي
    وذلك فـي ذات الإلـه وإن يشـأيبارك على أوصال شلـو ممـزع


    شجاعة , بطولة ! قوة يقين ! رسوخ إيمان ! يصلي بثبات , يدعو عليهم بثبات , ينشد هذه الآبيات بثبات , هذا هو لب السعادة لمن أرادها ..
    الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } سورة الرعد آية 28 .
    * المداومة على ذكر الله :
    إن من داوم على ذكر الله , يعيش سعيداً .. أما من أعرض عن ذكر الله , فهو من التعساء البؤساء .. قال تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } سورة الزخرف آية 36 . وقال تعالى :{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ } سورة طه آية 124 . وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } سورة الزمر آية 22
    * انشراح الصدر وسلامته من الأحقاد :
    وفي القرآن آيات عديدة في مقام الانشراح , فقد حكى الله عن موسى عليه الصلاة والسلام قوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } سورة طه آية 25 . وقال تعالى :ممتنا على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } سورة طه آية 25 . وقال تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } سورة الأنعام آية 125 . ويقول جل شأنه : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } سورة الزمر آية 22 . فانشراح الصدر وطلبه من علامات السعادة وصفات السعداء ..
    * الإحسان إلى الناس :
    وهذا أمر مجرب , ومشاهد , فإننا نجد الذي يحسن إلى الناس من أسعد الناس , ومن أكثرهم قبولا في الأرض ..
    * النظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا وإلى من هو فوقك في أمور الآخرة :
    كما ورد في التوجيه النبوي الكريم حين قال صلى الله عليه وسلم : ( انظروا إلى من هو أسفل منكم , ولا تنظروا إلى من هو فوقكم , فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله ) رواه مسلم
    هذا في أمور الدنيا : لأنك إذا تذكرت من هو دونك , علمت فضل الله عليك .. أما في الآخرة : فانظر إلى من هو أعلى منك , لتدرك تقصيرك وتفريطك , لا تنظر إلى من هلك كيف هلك , ولكن أنظر إلى من نجا كيف نجا ..
    * الاستعداد ليوم الرحيل :
    يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي في كلمة جامعة مع أنها قصيرة : ( الحياة قصيرة .. فلا تقصرها بالهم والأكدار ) .. وإليك يا أخي هذه المحاورة القيمة التي دارت بين نفر , من المتخلين عن الدنيا , المتأهبين ليوم الرحيل ..
    جلس نفر من الصالحين يتذاكرون , ويتساءلون حول قصر الأمل فقيل لأحدهم : ما بلغ منك قصر الأمل ؟
    فقال : بلغ مني قصر الأمل أنني إذا رفعت اللقمة إلى فمي , لا أدري أأتمكن من أكلها أم لا !! ووجه السؤال نفسه إلى أخر , فأجاب بقريب من ذلك ..
    ولما سئل ثالثهم عن مبلغ قصر الأمل في نفسه .. قال : بلغ مني قصر الأمل أني إذا خرج مني النفس لا أدري أيرجع أم لا !!
    إن الحياة يا أخي قصيرة , فلا تزدها قصراً ومحقاً بالهموم والأكدار .
    اليقين بأن سعادة المؤمن الحقيقية في الآخرة لا في الدنيا : قال تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } سورة هود آية 108 .
    وها هو ابن حجر العسقلاني رحمه الله يخرج ذات يوم بأبهته وكان رئيس القضاء بمصر , فإذا برجل يهودي في حالة رثة .. فقال اليهودي :قف ..


    عدنا لنكمل لكم ما تبقى من قصة حياةالسعداء



    وها هو ابن حجر العسقلاني رحمه الله يخرج ذات يوم بأبهته وكان رئيس القضاء بمصر , فإذا برجل يهودي في حالة رثة .. فقال اليهودي :قف .. فوقف ابن حجرفقال له : كيف تفسر قول رسولكم ( الدنيا سجن المؤمن , وجنة الكافر ) وها أنت تراني في حالة رثة وأنا كافر , وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن ؟
    فقال ابن حجر : أنت مع تعاستك وبؤسك تعد في جنة , لما ينتظرك في الآخرة من عذاب أليم , إن مت كافراً .. وأنا في هذه الأبهة , إن أدخلني الله الجنة , فهذا النعيم الدنيوي يعد سجنا بالمقارنة مع النعيم الذي ينتظر في الجنات ..
    فقال :أكذلك ؟
    قال :نعم
    فقال : أشهد أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله ..
    * مصاحبة الأخيار والرفقة الصالحة :
    لا يستطيع أحد أن ينكر أثر القرين على قرينه , فهو مشهود , ومجرب وواضح من خلال الواقع , ومن التاريخ ..
    ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مثل الجليس الصالح , والجليس السوء , كحامل المسك , ونافخ الكير ) متفق عليه .
    وأعلم أن أذى الناس خير لك ووبال عليهم : قال إبراهيم التيمي : ( إن الرجل ليظلمني , فأرحمه ) .. ويروي ابن تيمية أساء إليه عدد من العلماء وعدد من الناس , وسجن في الإسكندرية .. فلما خرج , قيل له : أتريد أن تنتقم ممن أساء إليك ؟ فقال : ( قد أحللت كل من ظلمني , وعفوت عنه ) .. أحلهم جميعاً , لأنه يعلم أن ذلك سعادة له في الدنيا والآخرة ..
    ويحكي الفضل بن عياض رحمه الله : أنه كان في الحرم , فجاء خراساني يبكي , فقال له : لماذا تبكي ؟
    قال: فقدت دنانير , فعلمت أنها سرقت مني فبكيت ..
    فقال له : أتبكي من أجل دنانير ؟
    قال: لا , دنانير , لكني بكيت , لعلمي أني سأقف بين يدي الله أنا وهذا السارق فرحمت السارق فبكيت ..
    وبلغ أحد السلف أن رجلاً اغتابه , فبحث عن هدية جميلة ومناسبة , ثم ذهب إلى الذي اغتابه , وقدَّم إليه الهدية ..
    فسأله عن سبب الهدية فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من صنع منكم معروفاً فكافئوه ) وإنك أهديت لي حسناتك , وليس عندي مكافأة لك إلا من الدنيا , سبحان الله ..
    قال الله تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } سورة فصلت آية 34 .

    وتأمل يا أخي هذا الإرشاد الإلهي العظيم .. قال تعالى واصفاً عباده المؤمنين : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } سورة الفرقان آية 72
    * اللجوء إلى الله عز وجل وكثرة الدعاء :
    وقد كان ذلك من هدى الرسول , صلى الله عليه وسلم .. فروي عنه أنه قال Sad اللهم أصلح لي ديني , الذي هو عصمة أمري , وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي , وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي , وأجعل الحياة زيادة لي في كل خير , وأجعل الموت راحة لي من كل شر ) رواه مسلم 17/40
    وروي عنه يقول : ( اللهم رحمتك أرجو , فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين , وأصلح لي شأني كله , لا إله إلا أنت ) رواه أبو داود بإسناد صحيح
    ويقول : كما ورد في الأثر Sad اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن , ومن الجبن والبخل , ومن غلبة الدين وقهر الرجال ) .. لتفوز بالحياة الطيبة الهانئة بعيداً عن الأكدار والمنغصات ..
    فإن الله عز وجل يقول :{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } سورة النحل آية 97 .

    ماشطة فرعون


    وهذه القصة .. هي الوحيدة التي لم أقف عليها , وما تفوهت بها ـ والذي نفسي بيده ـ حتى تأكدت منها وسوف أخبركم بمكان القصة وزمانها لمن أراد أن يتثبت ..
    حصلت هذه القصة مع قريبة لي جداً .. وسمعتها منها مباشرة .. والقصة مشهورة .. حصلت هذه القصة أوائل شهر شعبان الماضي ..
    تقول قريبتي هذه : كنا جالسات , وكان أحد الدعاة يلقي محاضرة , فكنا في قاعة نستمع .. تقول : بينما نحن جلوس إذ فتاة لا أعرفها , فجلست بجاني ..
    فكان الشيخ يتكلم عن قصة ماشطة بنت فرعون .. سؤال قبل القصة .. لو خرجنا مع هذا الباب ورأيت رجالاً قد كبّلوا رجلاً , ثم أشعلوا فيه النيران يصرخ وهو مكبل .. هل تستطيع أن تنام اليوم ؟
    قالت : لا , ربي الله الذي خلقني وخلقك .. فأمر الجنود , فأشعلوا القدر والنيران تتأجج , والزيوت يغلي في قدرها .. فكرر السؤال .. فكررت الإجابة .. وحولها أطفالها الخمسة فزعين من صوت الزيت والنار , فكل منهم قد تشبث بأمه , أغمض عينيه والأم تحاول .. ليس عندها غير يدين اثنتين , تحاول أن تحتضن وتضم هؤلاء الخمسة فإذا به يأمر الجنود , فيتحركون ..
    فلما أتوا عندها قام الأطفال يصرخون , فيسحبون هذا فتحاول أن تمسكه .. تدفعهم .. ينزعون الآخر حتى نزعوا واحداً يجرونه وهو يبكي .. يلتفت إلى أمه ساعديني , وهي تبكي , وهو يبكي , ثم يُحمل الطفل أمام أعين أمه فيُلقى في الزيت ..
    لحظات غاب هذا الطفل .. لحظات أخرى , وإذا بالعظام تطفو .. عظامه أمام عينيها وقلبها يحترق .. يفور ,,
    يسألها وترد نفس الإجابة .. ربي الذي خلقني وخلقك .. فيأمر الجنود يتحركون المرة الأخرى , والمرة الثانية فينزعون الآخر .. فينزعون الآخر .. يضربهم بيديه الصغيرة ولكن لا محال ..
    فيرفع .. يصرخ .. تسمع الصرخة .. غاب الصوت .. غاب الطفل .. وإذا بالعظام تطفو مع عظام أخيه .. اختلطت عظام هذا بذاك .. وهي ثابتة ..
    الثالث والرابع .. ما بقي معها إلا رضيع صارت تضمه بكل ما أوتيت من قوة كأنها قطعة منها قد التقم ثديها , فلما تحرك الجنود تحاول تنطوي عليه , تُضرب أشد ما يكون الضرب , ثم تُضرب يدها ويُنزع منها .. اللبن يتطاير من فمه , وشعرات أمه في يديه , دقائق إذا بالخمسة عظام أمامها , والله لو ما كانوا أبناءها ما يهونون .. تتذكر كم كانت تلاعبهم .. كم ساهرتهم .. كم ضاحكتهم .. هم الآن عظام ..
    إنه الثبات يوم قل الثابتين والثابتات .. يقول : أنا لا أقدر أن أترك الأغاني .. لا تتركها أبداً !!
    هل تظن أن : { مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } محتاج أنك تترك الأغاني ؟
    لو يشاء الله ما أسمعك حرفاً .. لا.. ولا أبصرت بالعينين شراً .. ولكن الجبَّار أعطاك الخيار .. وهذه الدنيا امتحان لا مقر ..
    تقول : لما ذكر هذه القصة فلاحظت تصرفات غريبة .. حيث رأيت يدي الفتاة التي كانت بجواري ترتعشان .. فجأة استأذنت بسرعة وخرجت ..
    تقول : تبتعها , فإذا بها قد اتكأت على أحد الجدران تبكي ..
    تقول : هدأتها وأقنعتها ورجعنا هناك للمحاضرة .. فإذا بالشيخ يسترسل ويذكر امرأة فرعون .. امرأة يا رجال !!
    مكبلة , تضرب بالسياط حتى يتكشف اللحم .. صحيح آلام .. وصحيح أنها موجعة ولكنها علمت : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا } .. على ماذا صبرنا ؟! { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ..
    فلما أحست الألم , عانت , قالت من كل قلبها : { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } تريد أن تسلي نفسها .. تُذكر نفسها بأن هناك جنانا ..

    كما قال ابن كثير : فيفتح الملك ويرفع عنها الحجب , فإذا بها ترى قصراً وترى الأنهار تجري ومن تحته : { وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } , { وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } وولدان مخلدون , وحلي , وسندس , واستبرق , وحرير , وجنان , وثمار , وطيور , فتبسمت .. نست الضرب .. جنّ الجنود كيف نضربها وتبتسم ..
    قالت : والله إني لأرى منزلتي من الجنة ..
    تقول : لما قال الشيخ الجنة , إذا برأس الفتاة يسقط على حجري .. وبدأت الأنفاس لها زفير , واللون يتغير ..
    تقول : حملناها بسرعة إلى قاعة أخرى , فإذا بإحداهن تقول لي : اقرئي عليها القرآن .. اقرئي عليها لقرآن ..
    تقول : والله أنا في وضع لا أحسد عليه .. صرت أقرأ عليها ودمعاتي على وجهها خائفة , وما يزداد النفس إلا صعوبة وما يزداد اللون إلا تغيراً ..
    تقول قالت لي أحداهن : همساً في أذني لقنيها الشهادة , والله ما أظنها إلا تحتضر .. تقول : والبنت كانت شاخصة بصرها إلى السماء ترسل اليد تارة ثم تضعها تارة , وتغض الطرف تارة , وتشخص بالبصر تارة , واللون يتغير ..
    تقول : قلت لها وأنا خائفة ,, قولي : لا إله إلا الله ..
    تقول : ما ردت علي .. الثانية لم ترد .. الثالثة ..
    تقول : لماقلت لها الثالثة فإذا بها ترفع يدها وتصرخ وتقول : والله .. والله إني لأرى منزلتي في النار .. والله إني أرى منزلتي في النار .. { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
    وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } سورة يونس آية 44 .
    وقال تعالى :{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }سورة الزخرف آية 80 .

    الداعية د : عبدالمحسن الأحمد



    يهنئوني ني بالتوبة
    قصة كعب قصة تهز لها القلوب .. قصة من أحسن القصص , ومن أصح القصص , وما خطتها يد كاتب , ولا تدخلت فيها أيدي القصاص .
    هذه القصة لرجل أسرف على نفسه .. كأني أنظر إليه , قد هجر الناس , لا يكلم أحد , يطوف بالأسواق لا يشرق له وجه ببسمة , ولا تنبس له شفة بكلمة , ضاقت عليه الأرض بما رحبت , يفتن في دينه , وتأتيه رسالة من ملك لينال الشرف والعزة .. هل قال أستخير أو أستشير ؟ كلا بل سجرها في تنور .
    فما خطيئته ؟ وأي ذنب ارتكبه ؟
    تعال لنعيش هذه القصة


    قَال كَعب بن مَالك : لم أّتَخَلَّف عَن رَسُول اللهَّ صَلَّى اللهَّ عَلَيهِ وَسَلَّمَ , فيِ غّزّاهَا قّطُّ إلاَّ فيِ غَزَوة تَبُوك ..
    وكان من خبري أَنيِّ لم أَكُن قَطُّ أقوَى وَلاَ أيسَر منِّي حين تَخَلَّفت عَنهُ .. والله مَا جَمَعت قَبلهَا رَاحلَتَين قَطُّ حتَّى جَمَعتهمَا في تلكَ الغًزوة .
    وكَاَنَت تلكَ الغَزوَةَ حَرّ شَدِيد وَسَفَرً بَعِيدً والعدُوًّ كَثِيرً وَالمسلمُونَ كَثِير لاَ يَجمَعهُمَ كِتَاب حَافظَ ..
    وكَاَنَت تلكَ الغَزوَةَ حين طَابَت الثِّمَار وَالظِّلاَل ,, وَأَنَا إلَيهَا أَصعَر فَتَجَهَّزَ إلَيهَا رَسُول اللهَّ , صَلَّى اللهَّ عَلَيه وَسَلَّمَ , وَالٌمؤمِنُون مَعَهُ فَطًفِت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض جهازي شيئاً ..
    فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم , غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً
    وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه .. فغدوت يعدما صلوا لأتجهز .. فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً .. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ..

    فهممت أن أترحل فألحقهم وليتني فعلت .. ثم لم يقدر ذلك لي .. فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم , يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله عز وجل , ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم , حتى وصل تبوك ..
    فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ماذا فعل كعب بن مالك ؟
    فقال : رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه ,
    فقال : معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً .. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
    فقال : كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم , قد توجه قافلاً ( راجعاً ) من تبوك حضر بثي وطفقت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخطه غداً وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
    فلما قيل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم , قد أظل قادماً زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً .. فأجمعت صدقه ..
    فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس ..
    فلما فعل ذلك .. جاءه المتخلفون وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم , علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ..
    حتى جئت فلما سلمت عليه تَبَسَّم تَبَسُّم المغضب .. ثم قال لي : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي : ما أخلفك ألم تكن اشتريت ظهرا ؟ فقلت : يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ..
    لقد أعطيت جدلا .. ولكني والله , لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي .. ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبي ذلك من الله عز وجل , والله ما كان لي عذرا , والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
    قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك , فقمت وقام إلى رجال من بني سلمة وأتبعوني .. فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا .. ولقد عجزت إلا أن تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , بما اعتذر به المتخلفون .. فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم , لك ..
    قال : فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذِّب نفسي ..
    قال : ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أحد ؟
    قالوا : نعم لقيهُ معك رجُلان , قالا : مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك ..
    فقالت : من هما ؟
    قالوا : مرارة بن الربيع العامري , وهلال بن أمية الواقفي ..
    فذكروا لي رجلين صالحين فقد شهدا بدراً لي فيهما أسوة .. قال : فمضيت حين ذكروهما لي .. فقال : ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم , المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه .. فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي الأرض التي كنت أعرف ..
    فلبثنا على ذلك خمسين ليلة .. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان .. وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ..
    فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
    ثم أصلي قريباً منه وأسارقهُ النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني .. حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلت عليه فوالله ما رد علي السلام ..
    فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟
    قال : فسكت ..
    قال : فعدت له فنشدته فسكت فعدت فنشدته فسكت ..
    فقال : الله ورسوله أعلم ..
    قال : ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار .. فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة .. يقول : من يدلي على كعب بن مالك ..
    قال : فطفق الناس يشيرون له إلي .. حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان .. وكنت كاتباً فإذا فيه : أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جافاك وأن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة فألحق بنا نواسيك ..
    قال : فقلت حين قرأته وهذا أيضاً من البلاء ..
    قال : فتيممت به التنور فسجرته به .. حتى إذا مضى أربعون ليلة من الخمسين إذا برسُول رسول الله صلى الله عليه وسلم , يأتيني يقول : يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم , أن تعتزل امرأتك ..




    قال : فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟
    فقال : بل أعتزلها ولا تقربها ..
    قال : وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك ..
    قال : فقلت لامرأتي ألحقي بأهلكِ فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء .. قال : فجاءت امرأة هلال بن أميه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقالت : يا رسول الله أن هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟
    قال : لا , ولكن لا يقربنكِ ..
    قالت :وإنه والله ما به من حركة إلى شيء وأنه والله يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ..
    قال : فقاللي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم , في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ..
    قال : فقلت والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم , إذا استأذنته وأنا رجل شاب ..
    قال :فلبثنا عشرة ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى كلامنا ..
    قال :ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا .. فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا .. قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت .. سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع .. يقول : بأعلى صوته أبشر يا كعب بن مالك ..
    قال :فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل , بالتوبة علينا .. فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم , بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ..
    فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلى رجل فرساً وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس ..
    فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته لهً والله ما أملك يومئذ غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما ..
    وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم , وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بتوبة الله .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
    حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم , جالس في المسجد والناس حوله .. فقام إلي طلحة بن عبدالله يهرول حتى صافحني وهنأني .. والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ..
    قال :فكان كعب لا ينساها لطلحة ..
    قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وهو يبرق وجهه من السرور( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) ..
    قال : قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟
    قال : بل من عند الله ..
    قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم , إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه .. قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله , قال : ( أمسك عليك بعض مالك فهو خيرا لك ) .. قال : فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر .. وقلت : يا رسول الله , إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
    قال :فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم , أحسن مما بلاني الله تعالى .. والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم , إلى يومي هذا , وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي ..
    قال : وأنزل الله تعالى : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } سورة التوبة آية 117 ـ 118


    امرأة من أهل الجنة


    عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن العباس رضي الله عنه : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟
    قالت : بلا ..
    قال :هذه المرأة السوداء .. أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقالت : إني أصرع وإني أنكشف فادع الله لي ..
    قال Sad إذا شئت صبرت ولك الجنة , وإن شئت دعوت الله أن يعافيك )
    قالت : أصبر ..
    فقال : إني أنكشف فادع الله لي بأن لا أنكشف فدعا لها .. رواه البخاري ومسلم .
    فيا سبحان الله ! امرأة سوداء تحملت الصرع وآلامه ولم ترض أن تتكشف وهي معذورة شرعاً !!
    فما بال نسائنا أغرقن بالتبرج والسفور , بل وسعين له زرافات ووحدانا بعد أن جلب عليهن الشيطان الرجيم بخليه ورجله ..
    فيا أيتها المسلمة أنقذي نفسك من النار , فإن متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى فلا تغتري بمالك ولا جمالك فإن ذلك لا يغني عنك من الله شيئاً !!
    وإني أذكرك بأن النبي صلى الله عليه وسلم , عرضت عليه النار وأرى أكثر أهلها النساء واعلمي أنك أعجز من أن تطيقي عذاب النار واستجيبي لمنادي الحق واعلمي أن من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه وإن الآخرة هي مسمانا طالت الآمال في الدنيا ..
    فماذا تريدين يا أخيه من هذه الألبسة الغربية الغربية ( بنطال .. لثام .. عباءة مخصرة أو على الكتف ) التي تشتريها بالمئات وأنت ستوضعين في القبر في كفن من أرخص الأقمشة فهل تنفعك هذه الألبسة في ظلمة القبر ؟!

    ما هي السعادة ؟!
    هل السعادة في المال .. المنصب .. الجمال ؟
    كثير من الناس بحث عن السعادة في القنوات والمسلسلات وصفحات الإنترنت المشبوهة والمجلات الماجنة والأغنيات والمعاكسات والتبرج والسفور فما وجدوها ولن يجدوها ..
    لآن الله جل وعلا , يقول : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ } سورة طه آية 124 إذاً أين توجد السعادة ؟ أقرئي : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } سورة النحل آية 97 .
    إن السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة هي في إتباع أوامر الله ورسوله وطاعتهما وبدون اعتراض أو تردد وإياك ..
    ومن يصور لك هذه الدين بأوامره وتكاليفه أنه نوع من تقييد الحرية وحرمان من المتع الدنيوية فهؤلاء لا يريدون لك إلا السعادة المزيفة والمتعة المؤقتة ثم تكون الحسرة في الدنيا والعذاب في الآخرة ..
    حذار يا من ترتدين البنطال واللباس العاري أمام النساء والرجال أو العباءة المخصرة وعلى الكتف .. أو تجمعين شعرك فوق رأسك .. أو تخرجين متعطرة .. فتفتنين الرجال من هذا الوعيد الشديد الذي يحدثنا عنه أنصح الخلق للخلق ..
    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم : ( صنفان من أهل النار أرهما , قوم معهم سياط كأذناب البقر بها الناس , والنساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة , لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) رواه مسلم .
    أما تلك التي تستعطر حين تخرج لتلاحقها الأنظار .. فويل لها من هذا الوعيد .. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قالرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية ) رواه أحمد .
    أختاه : كم ستعيشين ؟
    لي نفسك هذه الأسئلة وأجيبي جواب العاقلة المتزنة : سهل تعلمين ستسافرين سفراً طويلاً بلا رجعة ؟
    فهل أعددت العدة لهذا السفر ؟
    هل تزودت من هذه الدنيا الفانية بالأعمال الصالحة لتؤنس وحشتك في القبر ؟
    كم عمرك ؟ وكم ستعيشين ؟
    ألا تعلمين أن لكل بداية نهاية وأن نهاية جنة ونار ؟
    ولكن أبشري فمن تاب تاب الله عليه ..
    أوصيك ..الصلوات الخمس في أوقاتها .. السنن الرواتب .. سنة الضحى .. قيام الليل .. الصدقة .. قراءة القرآن ..أذكار الصباح ولمساء والنوم وبعد الصلوات .. مصاحبة الصالحات .. سماع الأشرطة النافعة .. وقراءت الكتب النافعة ومنها فتاوى ابن باز وابن عثيمين وغيرهم .. وسماع إذاعة القرآن .. والالتزام بالحجاب الشرعي .. كثرة ذكر الله .. الدعاء .. إتلاف المجلات الفاسدة والأغنيات والصور والعباءة المحرمة على الكتف والمخصرة .. هذه نوراً على نور .. وسعادة وطمأنينة وثبات وأنس في الدنيا والآخرة ..
    سمو مسلمة
    سمو مسلمة


    كتيب حياة السعداء Empty رد: كتيب حياة السعداء

    مُساهمة من طرف سمو مسلمة الأربعاء 07 مارس 2012, 11:17 am

    يكفي .. يكفي


    كنت عائداً من سفر طويل , وقدر الله تعالى أن يكون مكاني في مقعد الطائرة بجوار ثلَّة من الشباب العابث اللاهي الذي تعالت ضحكاتهم , وكثر ضجيجهم , وامتلأ بسحاب متراكم من دخان سجائرهم , ومن حكمة الله تعالى ومن حكمة الله تعالى أن الطائرة كانت ممتلئة تماماً بالركاب فلم أتمكن من تغيير المقعد .. حاولت أن أهرب من هذا المأزق بالفرار إلى النوم , ولكن هيهات هيهات .. فلمَّا ضجرت من ذلك الضجيج أخرجت المصحف ورحت أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بصوت منخفض ..
    وما هي إلا لحظات حتى هذا بعض هؤلاء الشباب , وراح بعضهم يقرأ جريدة كانت بيده , ومنهم من استسلم للنوم ..
    وفجأة قال أحدهم بصوت مرتفع وكان بجواري تماماً , يكفي , يكفي ..!!
    فظننت أني أثقلت عليه برفع الصوت , فاعتذرت إليه , ثم عدت للقراءة بصوت هامس لا أسمع به إلا نفسي ..
    فرأيته يضم رأسه بين يديه , ثم يتململ في جلسته , ويتحرك كثيراً , ثم رفع رأسه إليَّ وقال بانفعال شديد : أرجوك يكفي .. يكفي .. لا استطيع الصبر !!
    ثم قامَ من مقعده , وغاب عني فترة من الزمن , ثم عاد ثانية , سلَّم عليَّ معتذراً متأسفاً .. وسكت وأنا لا أدري ما الذي يجري !
    ولكنه بعد قليل من الصمت التفت إليَّ وقد اغرورقت عيناه بالدمع , وقال لي هامساً :ثلاثة سنوات أو أكثر لم أضَع فيها جبهتي على الأرض , ولم أقرأ فيها آية واحده قط ..!
    وهاهو ذا شهر كامل قضيته في هذا السفر ما عرفت منكراً إلا ولغت فيه , ثم رأيتك تقرأ , فاسودَّ الدنيا في وجهي , وانقبض صدري , وأحسست بالاختناق , نعم أحسست أنَّ كل آية تقرؤها تتنزل على جسدي كالسياط ..!!

    فقلت في نفسي : إلى متى هذه الغفلة ؟! وإلى أين في هذا الطريق ؟ّ وماذا بعد كل هذا العبث واللهو ؟! ثم ذهبت إلى دورة المياه , أتدري لماذا ؟
    أحسست برغبة شديدة في البكاء , ولم أجد مكاناً أستتر فيه عن أعين الناس إلا ذلك المكان !!
    فكلمته كلاماً عاماً عن التوبة والإنابة والرجوع إلى الله .. ثم سكت ..
    لما نزلت الطائرة على أرض المطار , استوقفني وكأنه يريد أن يبتعد عن أصحابه , وسألني وعلامات الجدَ بادية على وجهه : أتظن أن الله يتوب عليَّ ؟
    فقلت له : إن كنت صادقاً في توبتك عازماً على العودة فإن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً .. فقال :ولكني فعلت أشياء عظيمة .. عظيمة جداً ..!!
    فقلت له : ألم تسمع قول الله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }سورة الزمر آية 53
    فرأيته يبتسم ابتسامة السعادة , وعيناه مليئتان بالدموع , ثم ودعني ومضى ..! سبحان الله العظيم ..!!
    إن الإنسان مهما بلغ فساده وطغيانه في المعاصي في قلبه بذرة من خير إذا استطعنا الوصول إليها ثم قمنا باستنباتها ورعايتها أثمرت وأينعت بإذن الله تعالى ..
    إن بذرة الخير تظل تصارع في نفس الإنسان وإن علتها غشاوة الهوى .. فإذا أراد الله بعبده خيراً أشرقت في قلبه أنوار الهادية وسلكه في سبيل المهتدين .. قال الله تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } سورة الأنعام آية 125 .
    اسأل الله أن ينفع به وأن يجعله سبب هداية وسعادة في الدنيا والآخرة وألا يحرمنا الآجر والمثوبة أنه جواد كريم .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد .



    إلى هنا فقد وصلنا إلى نهاية محتويات هذا الكتاب
    اسأل الله العلي القدير أن يجعلنا ممن يستمعون القولفيتبعون أحسنه
    واسأله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وان يزيدنا علماً

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 12 مايو 2024, 11:15 am